موسم المناسبات الاجتماعية. يبدأ بحفل تقديم الفتيات في الربيع، ويمتد حتى أوائل الصيف قبل أن يطول النهار.
و في هذا الموسم، يتوافد النبلاء من أقاليمهم المتفرقة إلى العاصمة. الغاية الأساسية هي بالطبع إيجاد زيجات مناسبة لأبنائهم وبناتهم الشباب.
لكن كثيرين يستغلون هذا الوقت أيضًا لزيادة ثرواتهم، فحيث يجتمع الناس يجتمع المال، وأكبر تجمعٍ للأموال هذا العام سيكون في قاعة المزادات.
كانت فانيسا واقفةً أمام أضخم دار مزادات في العاصمة برفقة نيكولا وحارسين شخصيين.
فقد دار بينها وبين فيلياس نقاشٌ بسيط بشأن وجود الحراس، لكنها قررت في النهاية ألا تجادل في أمر صغير كهذا، فحيث يوجد المال، توجد القواعد أيضًا.
“حسنًا، نيكولا، لنلتقِ هنا بعد ساعتين، ما رأيكِ؟”
“نعم، آنستي ستكونين في قاعة المزاد رقم 4، وأنا في القاعة رقم 12، صحيح؟”
“صحيح، الأشياء التي علينا الحصول عليها هي القطعة رقم 5 ورقم 23. خاصةً القطعة الخامسة، لا بد أن نؤمنها مهما كلّف الأمر. السعر المتوقع حوالي 800 كراون، لكن لو اشتد التنافس، يمكنكِ أن ترفع السعر كما تشاءين.”
“ولكن…..آنستي، كيف يمكنك تحديد الأسعار بهذه الدقة؟ أليست كل معروضات القاعة 12 تُطرح في المزاد لأول مرة؟”
“ألستِ تبالغين في تقديري يا نيكولا؟ أنا فقط حددتُ المبلغ الذي أستطيع دفعه، لا أكثر.”
قالت فانيسا ذلك مبتسمة، لكنها في داخلها اعترفت أن نيكولا لاحظت أمرًا ذكيًا فعلًا.
فالقطعة رقم 5 في القاعة 12 كانت “تاج الدوقة”.
‘وكيف لا أعرف؟ لقد كان ملكي أصلاً.’
ذلك التاج كان هدية خطوبتها من كونراد في حياتها السابقة، ولم يكن في حد ذاته سوى قطعة فاخرة لا أكثر.
لكن بعد مدة، وقعت حادثة مروّعة: خادمتها الخاصة، التي كانت تغرق في ديون القمار، سرقت بعض الحلي وفرّت هاربة.
وحين ضاق عليها الخناق وخشيت انكشاف أمرها، ألقت كل المسروقات في مستنقع الشرق.
لاحقًا أُمسكت الخادمة، واعترفت بمكان المسروقات، لكن عندما استُعيد التاج لم يعد كما كان.
فالأحماض في مياه المستنقع أذابت طبقة الذهب الرقيقة وكشفت عن ما تحتها — لم يكن ذهبًا ولا فضة، بل معدنًا مجهولًا لم يُكتشف من قبل.
استغرق علماء القصر الملكي ومؤرخوه شهورًا من البحث، حتى توصّلوا إلى أنه قطعةٌ أثرية تعود لملك قديم من مملكة مندثرة.
كان اكتشافًا هزّ الأوساط الأكاديمية، وقدّرت قيمته بثروة فلكية!
في حياتها السابقة لم تستطع فانيسا أن تطالب الملك بعائدها احترامًا لمكانتها كزوجة الأمير، أما الآن فالوضع مختلف.
بل إنها أرسلت أغنيس إلى مدينة الميناء الجنوبية الغربية لجلب محلولٍ كيميائي من صانع الخيمياء يساعد على ترميم التاج بالكامل.
‘آه، آمل أن تقضي أغنيس إجازةً هادئة…..عليّ أن أطلب منها البقاء بعيدًا عن العاصمة فترة، حتى لا تتورط في أمر لا شأن لها به.’
بعد أن غادر نيكولا مع الحارس الأول، توجهت فانيسا برفقة الحارس الثاني نحو قاعة المزاد رقم 4.
كانت القاعة مكتظةٌ بالمتفرجين ومحبي الفخامة، وكل ما كانت تطمح إليه فانيسا هو الحصول على القطعة رقم 9 — “لوحة الدم”.
ذلك العمل الفني المريب أصبح مثار جدل واسع بعد أن تبيّن أنه مرسومٌ فعلاً بدم بشري حقيقي.
الرسام مجهول، والعام مجهول، بل حتى مالك اللوحة الحالي لم يكن يعرف مصدرها؛ إذ اكتُشفت مصادفةً في علّية قصر قديم اشتراه حديثًا.
‘حتى لو كانت مثيرةً للفضول، لن يجرؤ أي نبيل على شرائها بسهولة. فمجرد اقتنائها قد يُلصق به سمعة سيئة.’
وبالفعل، كانت اللوحة قد فشلت في البيع مرات عدة في مزادات سابقة. أما اليوم، فكانت نية فانيسا أن تشتريها بأقل ثمن ممكن.
لكن فجأة، ساد الهرج في الخارج، وارتفع صوت أحدهم وهو يصرخ بانفعال،
“صاحب السمو!”
كان كونراد. و تبعه خدمه وحرسه، وتلقى التحيات بفتور ثم مضى إلى المقصورة الخاصة في آخر القاعة.
تذكرت فانيسا أن كونراد في حياتها السابقة كان يحب حضور المزادات أيضًا. عادةً ما يرسل مندوبًا بدلاً منه، لكنه أحيانًا كان يظهر بنفسه ليتباهى ويثير دهشة الجميع.
نظرت إلى الخلف، فرأته يراقبها من وراء حاجز مقصورته. فتماسكت وحاولت طرد القلق من قلبها.
بدأ المزاد، وبدأت القطع تُعرض تباعًا.
كانت المعروضات ذات قيمةٍ عالية، لكن لم يقع أي تنافس يذكر. و أغلب الحاضرين يعرفون بعضهم جيدًا، ومن سيشتري ماذا كان متفقًا عليه ضمنًا.
‘حتى الآن على الأقل…..’
ثم حان دور القطعة رقم 9، “لوحة الدم”.
“مرعبةٌ حقًا.”
تمتم الحارس الثاني، آبل.
كانت اللوحة تُصوّر شابةً ذات شعر أسود يتطاير كاللهيب، ووجهها الملطخ بالدماء ملتوي في صرخة صامتة.
نقّى المذيع صوته وبدأ يعلن،
“أيها السادة، هذه هي القطعة المعروفة باسم (لوحة الدم). لوحة زيتية مرسومة على قماش أبيض باستخدام اللون الأسود والدم فقط. هوية الرسام غير معروفة حتى الآن، ويُعتقد أنه أضاف مادةً ما للحفاظ على الدم من التجلط أو التغير اللوني، لكن لم يُكشف بعد عن ماهيتها الدقيقة.”
بفضل تلك المادة المجهولة الممزوجة بالدم، احتفظت اللوحة بلونها الأحمر الساحر – أو المروّع – رغم مرور زمنٍ طويل على رسمها.
“إذاً لنبدأ المزاد من مئةٍ وخمسين كراون. مئةٌ وخمسون، من يزايد؟”
رفعت فانيسا يدها.
“اختيار رائع يا سيدتي! مئتان، هل من مئتي كراون؟”
ساد الصمت بين الحضور.
‘حتى لو كانت رخيصة، فمئةٌ وخمسون تعني أنني أحصل عليها مجانًا تقريبًا!’
كادت فانيسا أن تهتف فرحًا، لكنها تماسكت تنتظر إعلان فوزها، إلى أن…..
“نعم! لدينا مئتا كراون! وكما هو متوقع، ذوقٌ رفيع يا صاحب السمو!”
‘صاحب السمو؟’
استدارت، فرأت كونراد يبتسم لها مباشرة.
بدأ الهمس يعمّ القاعة. أن يُبدي الأمير اهتمامًا بلوحةٍ كهذه يعني أن وراءها سرًّا خفيًّا.
وسرعان ما انخرط الجميع في المزايدة، فقفز السعر إلى ثمانمئة كراون في لحظات.
“ألفٌ ومئتان!”
قالت فانيسا بأسنانٍ مشدودة.
“ألفٌ وثلاثمئة!”
فهتف حاجب الأمير نيابةً عنه.
‘تباً..…!’
في حياتها السابقة كانت “لوحة الدم” قد فشلت في البيع تمامًا، فصاحبها الأصلي باعها بثمنٍ بخسٍ لتاجر تحفٍ تافه.
وعندما كُشف لاحقًا عن قيمتها الحقيقية، كانت تُستخدم في أحد المزارع كدعامةٍ لسياجٍ خشبي، وقد تضرّرت لدرجةٍ لا يمكن إصلاحها.
“ألفٌ وخمسمئة! صاحب السمو يزايد بألفٍ وخمسمئة كراون! هل من ألفٍ وستمئة؟ ألفٌ وستمئة؟”
‘أرجوكَ…..’
رفعت فانيسا يدها المرتجفة.
كان ميزانها محدودًا، ولا تزال هناك مقتنياتٌ كثيرة يجب شراؤها إن أرادت سداد دينها في الوقت المحدد.
“ألفٌ وستمئة! لدينا ألفٌ وستمئة!”
“ألفان!”
كانت هذه المرة صوت كونراد نفسه.
“هاه…..”
وفي النهاية، ذهبت “لوحة الدم” إلى الأمير.
وحين بدأت القطعة العاشرة تُعرض، اقترب حاجبُ الأمير من الحارس آبل، و همس في أذنه بشيءٍ، ثم انسحب.
“ما الذي قاله؟”
“يطلب أن أرافقكِ سرًا إلى المقصورة رقم ستة.”
‘ما الذي يدبّره الآن؟’
لكن لم يكن بمقدور فانيسا رفض دعوةٍ من الأمير.
كانت المقصورة السادسة ملاصقةً لمقصورتها، مما أتاح لهما الحديث دون أن يلتقيا وجهًا لوجه.
“أنتِ الآنسة فانيسا لانغ، صحيح؟”
جاء صوته من خلف الجدار الرقيق، ووجهه محجوب بستار المخمل.
“نعم، يا صاحب السمو. أهنئكَ على الفوز بالمزاد. لم أكن أتخيل قط أني سأنافس سموّكَ.”
“دعينا من المجاملات…..تلك اللوحة الكئيبة لا تهمني أصلًا. لكن أخبريني، أليس صحيحًا أنكِ تشغلين جناح الضيوف الملكي خارج القصر وحدكِ الآن؟”
“بغير قصد، نعم يا صاحب السمو.”
“إذاً، هل أنتِ عشيقة ليون؟”
(ليون) كان أحد الأسماء الوسطى لفيلياس.
كانت الأسماء الوسطى للأمراء تُعدّ بمثابة أسمائهم الخفية، تُستخدم في الطفولة فقط، ولا يحقّ حتى لأقرانهم من العائلة المالكة التلفظ بها بعد بلوغهم.
لكن كونراد لطالما استخدمها ازدراءً وسخرية.
“أستميح سموّك عذرًا، لا أفهم قصدك..…”
عندها سحب الستار بعنفٍ، وأطلّ بوجهه المألوف.
“أتحدث عن الدوق فيلياس. هل أنتِ عشيقته؟”
‘وقاحته ما زالت كما هي…..’
ذلك الوجه الجميل المزيّف لم يتغير أيضًا، لكن ذكرى لحظاته الأخيرة ارتسمت في ذهنها — فمه الذي نطق باللعنات عليها، وعيناه اللتان بللهما الدمع وهو يتوسلها أن تنقذه…..
‘كفي تفكيرًا سخيفًا، وابتسمي.’
أجبرت نفسها على الهدوء، أغلقت مروحتها، ورسمت على شفتيها أنقى ابتسامةٍ في العالم.
“أعتذر يا صاحب السمو، كيف لمثلي أن تجرؤ على ذلك؟ لقد حدثت بعض الأمور غير السارة في عائلتي المتواضعة، فاضطررتُ مؤقتًا إلى الاحتماء بعطف الدوق لا أكثر.”
التعليقات لهذا الفصل " 10"