“لا تتبعني، يا سموّ دوق. ولا تجثُ على ركبتيكَ أيضًا. لقد سئمتُ هذا الآن.”
كان الدوق يسير خلف فانيسا بمسافةٍ ليست قريبةً ولا بعيدةً بعد.
ليلة القصر كانت هادئة. و في الممر الطويل كان ضوء القمر وحده خافتًا.
“لا أفهم جيدًا، الآنسة فانيسا. أي جزءٍ مني يجعلكِ تشعرين بهذا الانزعاج؟”
ها، من أين أبدأ.
هل هو أنه يرسل فساتين مفصّلة و لم يأسأل حتى عن مقاسي؟
و يدّعي الجهل بينما يسبقني خطوةً في كل مكان؟
…..أشعل النار في البيت ولم يخبرني حتى ما السبب؟
استدارت فانيسا. ونظرت إلى الرجل الضخم أمامها من أعلى إلى أسفل.
كانت تعلم أن هذا فعلٌ فظّ، لكنها لم تعد تهتم الآن.
حتى لو كان من العائلة المالكة، فلا فرق. لأن أسلوب تودده هذا، إن جاز لها وصفه، صار شبه هوسٍ تقريبًا.
هذا الرجل. الرجل الذي يلفّ رأسه برداءٍ أسود كما العادة ويخفي وجهه.
الذي يهمس بكل الكلمات الحلوة ولم يكشف عن وجهه مرةً واحدة.
أشارت فانيسا بيدها نحو رأسه.
“أولًا، تلك الشعرَة الطويلة المتدلية.”
شعر الدوق الأسود كالأبونس مُسدلٌ على كتفيه مسببًا ظلًا على وجهه.
ومع طبعه المنعزل الذي يُصْفَه بلطفٍ بأنه غير اجتماعي، كان المجتمع يدعوه الدوق الكئيب.
“ها.”
مع ذلك الجواب الغامض، سحب الدوق سيفه فجأة. كان سكين صيدٍ مسنّنًا حادًّا. بينما غطت الغيوم القمر، فأظلم المكان من كل جانب.
تردّدت فانيسا، وكانت على وشك التراجع.
صوت قطع- صوت قطع-
“……؟”
و ما انقطع كان شعره.
‘واو، لقد ارتكبتُ خطأً.’
أثناء مشاهدتها لشعره المتساقط على الرخام، توقفت فانيسا عن التفكير.
“الآنسة فانيسا؟”
و عندما رفعت رأسها، تبددت الغيوم التي كانت تغطي القمر.
كان بإمكانها اختلاق عشرات الأسباب لرفضه. لكن لحظة رؤيتها لوجهه تحت ضوء القمر، نسيت كل الأسباب الأخرى.
عيونٍ كبحيرة متجمدة. جفونٌ تبدو عليها بعض الملل وأنفٌ منحني كما لو رُسم. وأخيرًا شفاه تبتسم بانحناءة طفيفة.
“…..يا سموّ دوق.”
“أرجوكِ نادِني فيلياس.”
كان نظره الثابت إليها مُلِحًا. عيونٌ كالجليد لكنها تبدو كأنها مشتعلة. فتراجعت فانيسا دون أن تشعر.
‘بدا وكأن عينيه مالَتا قليلًا…..هل هذا طبيعي؟’
“تذكرتُ للتو شيئًا. لقد عرفنا بعضنا طويلاً، أليس كذلك؟”
“لقد مرَّ بالضبط شهران وعشرون يومًا، الآنسة فانيسا. منذ أن التقينا في الحفل الراقص.”
“…..حقًا. ربما هذه أول مرة أرى فيها وجهكَ منذ شهرين وعشرين يومًا.”
سكت الدوق للحظة. و ارتفع حاجباه الأنيقتان قليلًا.
حتى مع قص الشعر العشوائي، بدا أنيقًا للغاية.
“هكذا إذاً.”
“الجواب المطلوب ليس “هكذا إذاً“، لماذا ظللتَ تخفي وجهكَ حتى الآن؟”
“هل يعجبكِ؟”
“ماذا؟”
“هل يروق لكِ وجهي، يا آنسة فانيسا؟”
“…..لو أجبْتُ على هذا السؤال فسوف أبدوُ فظةً إما من جهةٍ أو أخرى.”
“إن كان الرد على سؤالي الأحمق يُعد وقاحةً، فأعتقد أنني أحب وقاحتكِ.”
ابتسمت فانيسا ابتسامةً مُرّة.
أمام هذا الرجل لم تنجح ملامحُ الهدوء. بأي تعبيرٍ تتصنّع، فهو يشتبك دون اكتراث.
“هذا من أغرب المديح الذي سمعته.”
“إذاً سأصحّح القول. أنا أحبكِ، الآنسة فانيسا. ليست وقاحتكِ فحسب.”
ابتعدت فانيسا بالنظر في النهاية.
لقد ماتت مرةً بالفعل بطريقة مروعة. ولتجنّب موتٍ ثانٍ، عليها أن تتوقع ما سيحدث قادمًا.
وهذا الدوق المجنون بوجوده وحده هو متغيرٌ لا يمكن تجاهله.
“آسفة يا سموّ دوق، لكن عليكَ أن تحتفظ بهذا الشعور لنفسكَ. أنتَ لستَ الشخص الذي أحتاجه الآن.”
“إذاً، أي نوعٍ من الأشخاص تحتاجه الآنسة فانيسا؟”
سأل بدون حراكٍ في حاجبه.
“هل قتلتَ إنسانًا من قبل؟”
“نعم، يا آنسة فانيسا.”
مع هذا الجواب المباشر، دارت عينا فانيسا.
“هذا متوقع. الإمبراطورية لا تزال في حالة حرب. لكن ما أقصده هو قتلٌ شخصيٌ بسيط، يا سموّ دوق. هل ارتكبتَ يومًا فعل انتقامٍ شخصي من أجل شخصٍ واحد؟”
بدت على الدوق لحظةً من التفكير ثم هزّ رأسه.
“لو كان عن ذلك…..فلا أظن أنني فعلت.”
“أرأيتَ؟”
تحركت فانيسا لتدير ظهرها.
“أليس لديكِ المزيد من الأسئلة؟”
توقفت فانيسا عن السير عند سماع الصوت الذي تلا ذلك. و كان الدوق قد اقترب منها حتى صار خلفها مباشرة.
“لا أفهم ما الذي تعنيه.”
“لقد سألتِ إن كنتُ قد قتلتُ أحدًا من قبل. لكنكُ لم تسألي، إن كنتُ سأقتل بعد الآن، أليس كذلك؟”
أطبقت فانيسا شفتيها بقوة.
“إن كان سؤالكِ بهذا المعنى، يا آنسة فانيسا، فسأفعل. من أجل سعادتكِ، أياً كان الهدف. لذا..…”
“لذا؟”
“ناديني باسمي من الآن فصاعدًا.”
ابتسم الدوق بوجهٍ جميلٍ حدّ القشعريرة.
حسناً، سيكون ليلًا طويلًا.
***
فانيسا كلوديا لانغ كانت زهرة المجتمع الأرستقراطي. ولم يتغير ذلك طوال ثمانية أعوام منذ ظهورها الأول كآنسة شابة.
لكن لا أحد كان يعلم كم كانت تكافح وتصارع خلف تلك المروحة المزخرفة الباهرة.
كان والدها، الكونت لانغ، سكيرًا مقامرًا. بدّد ثروته وضرب زوجته حتى أجبرها على الهرب.
وحين رحلت الأم من المنزل، أصبحت فانيسا هدفه التالي. كان يضربها لأتفه الأسباب، لكنه لم يلمس وجهها أبدًا.
〈بما أنكِ تشبهين أمكِ، فوجهكِ الجميل هذا هو الشيء الوحيد النافع فيكِ. اذهبي إلى المجتمع، أو أي مكانٍ آخر، واصطادي رجلاً غنيًا. هذا هو نفعكِ الوحيد.〉
‘هاه، كلامٌ متوقع.’
ومع ذلك، لم يكن كلام الكونت السكير خاليًا من المنطق. فلم يكن لديه ما يورثها، بل ربما سيورثها الديون إن لم يحالفها الحظ.
وحتى لو كان له مال، لم يكن يحق لابنته أن ترثه.
أسرع طريقٍ للهروب من المستنقع الذي تعيش فيه والظفر بحياة لائقة، كان الزواج. زواجٌ من رجلٍ ثريّ أو من طبقةٍ أرستقراطية عالية.
بالطبع، لم يكن المجتمع الراقي مكانًا يسهل العيش فيه بوجهٍ جميلٍ فقط، لكن فانيسا كانت تعرف كيف تبقى على قيد الحياة. فقد اكتسبت حدة بديهةٍ مذهلة من سنواتٍ طويلةٍ من الضرب والمهانة.
كانت تقرأ في النظرات ما يريده النبلاء، وتفهم التوترات الخفية بين الناس دون أن تُقال كلمةٌ واحدة.
وفوق ذلك، حالفها الحظ. بعد أن غادرت السيدة إيفانجلين، ملكة المجتمع الراقي لسنوات، البلاد فجأة، فقد كان الجميع يتطلعون إلى وجهٍ جديد.
ثم ظهرت الآنسة ابنة الكونت. ابنة كريستال لانغ، المرأة التي كانت قد سحرت العاصمة بجمالها ذات يوم.
ربما بسبب انخداعها بسهولة النجاح، قبلت فانيسا عرض الزواج من الأمير دون تردد.
كانت تظنّه شابًا طائشًا لا أكثر، لكنه كان في الحقيقة متعجرفًا يصنع الأعداء بسهولة. ومع ذلك، لم تكن شخصيته مشكلةً في الحياة الزوجية، إلى أن سقط ولي العهد فجأةً من حصانه ومات في حادثٍ غامض.
لم يكن الأمير كونراد مؤهلاً ليصبح إمبراطورًا، لكن البقاء قريبًا من القصر كان ضروريًا لتجنب محاولات الاغتيال التي أحاطت به.
حاولت فانيسا إقناعه مرارًا بعدم التنازل عن حق الوراثة لعمه الدوق باستيّان، لكنه لم يصغِ إليها.
〈الآن أصبح كل أفراد العائلة المالكة يتربصون بي. في الأصل…..في الأصل أنتِ من دفعني لهذا يا فانيسا. لم أُرِد أن أكون وليّ عهدٍ يومًا، ولا أنا أصلح لذلك!〉
كانت تلك آخر كلماته لها. وفي النهاية، أثناء رحلتهم لمغادرة العاصمة، اغتيل كلاهما داخل العربة.
التعليقات لهذا الفصل " 1"