“رائِع!”

لم تلتفت إيلينا بجسدها بل حرّكت عينيها فقط لتتأكد من ابتعاد “كارل”، وقد لاحظت الفضة المتلألئة لشعره والعينين البنفسجيتين – السمات المميزة لورثة عائلة “بيكمان” الدوقية. ومن ملامحه اليافعة، أدركت أنه الابن الأصغر الشهير للعائلة: 

“كارل بيكمان”، المبارز العبقري الذي لا يُضاهى في الإمبراطورية. ثم تذكرت فجأة خفة حركته التي لفتت انتباهها.

“هل سيسمح لي بمبارزة لو طلبت ذلك؟ ماذا لو أخبرته أن لقائي به كان أمنية مُعلّقة؟ فقط ضربة سيف واحدة، من فضلك!”

فكّرت ببرودة بينما تتصور كيف سيقاطعها “ديريك” لو علم بالأمر. بدأت تُدير في ذهنها طرقًا طبيعية لطلب مبارزة. لأول مرة منذ وصولها، تلاشت نواياها في البقاء كمجرد خادمة عادية، وبرَقت عيناها من شدة الحماس.

“يبدو أنني محظوظة جدًا لأنني سأشهد فنون سيف سيد سيوف آخر!”

انجلت سحب الملل التي كانت تُخيّم عليها للحظة، وأصبحت مأخوذةً بفكرة أنها في القصر الدوقي حيث يمكنها يومًا ما رؤية أسلوبه وتعلمه. حتى أن مُعلم الفصل لاحظ توهج عينيها فظن أن حماسها للدرس زاد، فشّحن عقلها بالطاقة!

“هل أنتِ بخير؟”

“لا.”

ضحكت “روين” وهي ترى إيلينا الذائبة كالجليد قبل لحظات من الذوبان.

“أتعبتكِ المحاضرة؟”

“لم أكن أعرف أن التاريخ قد يكون بهذا الرعب!”

“هذا المُعلم يُبالغ أحيانًا في حماسه. حسنًا، هل نبدأ تسليم المهام؟”

أعادت إيلينا تعديل وضعيتها عند سماع ذلك، متضرعة في سرها أن تُكلَّف بمهمة سهلة.

“هل تم تعيين قسمي؟”

“ستعرفين عند الوصول.”

فتحت “روين” باب الجناح الصغير وأدخلت إيلينا إلى غرفة حيث وقف خمسة خدم بملابسهم الرسمية في وضع استعداد. انحنوا بعمق لمجرد رؤيتهما.

“أهلاً بكم.”

ردتا التحية بانحناءة خفيفة. 

“هذه إيلينا لويس، ستكون المشرفة الجديدة على هذا الجناح اعتبارًا من اليوم.”

فتحت إيلينا فمها من الدهشة عند كلمة “مشرفة”. نظرت إلى “روين” باستفسار، فأومأت الأخيرة كأنها تقول: “أيّ مشكلة في ذلك؟” ثم أضافت بجدية:

“قدموا تقريرًا عن المهام الروتينية، واتبعوا تعليماتها من الآن فصاعدًا.”

“نعم!”

لوّحت “روين” بيدها مُودعةً وخرجت. لاحقًا، اكتشفت إيلينا أن الخدم من أصول نبيلة عادةً ما يتم تعيينهم في مناصب مهمة. كانت إيلينا، التي لم تكن تعرف ذلك، تبتسم باضطراب أمام الترقية الصادمة التي حصلت عليها كموظفة جديدة، وتواصلت بالعين مع من بقي في الغرفة.

—

في صباح اليوم التالي، استدعت إيلينا خادمة وهي في مكتب إدارة الجناح الصغير.

“هل يمكنكِ جمع الجميع من فضلك؟”

“نعم.”

خرجت الخادمة بسرعة وجمعت الخدم. دخل خدم الجناح بحذر.

“اجلسوا براحة.”

عادةً، النبلاء لا يجلسون مع العامة. لذلك، جلس الخدم بتردد، ووضعوا أردافهم على حواف الكراسي فقط.

“لدي بعض الأسئلة عن العمل. كل يوم، تنظيف النوافذ، الأرضيات، غسيل الملابس، تنظيف الأثاث والديكورات… خمسة منكم ينظفون الجناح بأكمله، أليس كذلك؟”

“نعم.”

اعتقدت إيلينا أن تنظيف مبنى من طابقين بالكامل يوميًا من قبل خمسة أشخاص أمر مبالغ فيه. هذا الجناح لم يكن حتى مكانًا يستخدمه أفراد عائلة الدوق، بل كان مخصصًا للضيوف الذين لا يمكن استضافتهم في المبنى الرئيسي.

“هل يمكن أن تخبروني لماذا تنظفون بهذا الشكل؟”

“السابق المشرف قال إنه يجب أن يكون خاليًا حتى من ذرة غبار. ومنذ ذلك الحين، نقوم بتنظيفه يوميًا، وقد حدد كل منا موقعه.”

“إذن، هذا ليس تعليمات من المبنى الرئيسي؟”

“لا، كانت فقط أوامر المشرف السابق.”

أجاب أحد الخدم بسرعة، وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة. كان المبنى، رغم كونه من طابقين فقط، يحتوي على غرفة طعام، صالة استقبال، مكتبة، وأكثر من خمس غرف. مع الحمامات المرتبطة بكل غرفة، الممرات، والسلالم، كان عدد الخدم في الجناح غير كافٍ تمامًا.

بالإضافة إلى ذلك، مع التدريب على السيف والدروس، لم يكن لديهم طاقة كافية. كان المشرف السابق قد هددهم بعدم التهاون إذا تحدثوا عن هذا في المبنى الرئيسي.

“لقد تحققت من السيدة “ويلا”، وقالت إن إدارة الجناح تقع تحت مسؤولية المشرف. طالما أنه نظيف، فلا مشكلة. لقد عملتم بجد، الجناح نظيف جدًا. حتى السيدة “ويلا” تعرف أن خدم الجناح مخلصون للغاية.”

أضاءت وجوه الخدم عند سماع كلمات إيلينا. شعرت إيلينا أنهم بدأوا يسترخون بعد أن عرفوا أن رئيسة الخدم تُقدّر جهودهم. ربما سيحصلون على تقييم جيد في التقييم القادم.

“ولكن مع التدريب البدني والدروس، ستُصابون بالإرهاق عند العودة إلى المهجع، أليس كذلك؟”

أومأ الخدم برؤوسهم دون قصد عند سؤالها المبتسم.

“سنحدد مناطق تنظيف حسب الأيام. كل ثلاثة أيام، نقوم بتنظيف بالتناوب. إذا جاء الضيوف، سنقوم بتنظيف شامل، لذا تأكدوا من القيام بعمل جيد حتى لا نواجه مشاكل لاحقًا، أليس كذلك؟”

وزعت إيلينا جدولًا زمنيًا وضعته على المكتب.

“سيكون الأمر أسهل بكثير مقارنة بالسابق.”  

“نعم.”  

“جيد. لقد لاحظت أنكم تعملون بسرعة. لنعمل فقط ساعتين في الصباح وثلاث ساعات في فترة ما بعد الظهر بحيوية. أو إذا كنتم تفضلون، يمكنكم اختيار جدول يعمل طوال الصباح أو طوال المساء. أظن أنه سيكون معقولاً، أليس كذلك؟”

بدأ الخدم بإيماءات لا إرادية بينما يتفحصون الجدول الزمني الذي وزعته إيلينا. 

“أيمكن أن يكون الوضع مريحاً لهذه الدرجة حقاً؟!”

كانت المهام مقسمة بوضوح بين الفترات الصباحية والمسائية، مما سيضمن بالتأكيد عملاً أكثر سلاسة من ذي قبل. تجرأت إحدى الخادمات وسألت بصوت مرتجف:  

“أليس هذا قليل جداً من العمل؟”  

“قليل من العمل مع أقصى كفاءة، هذا هو المطلوب. ما رأيكم، أعجبكم الترتيب؟”  

“نعم! لدرجة أنني أتمنى أن أعمل مع الآنسة إيلينا طوال حياتي.”  

انفجر الجميع في الضحك عند سماع تعليق الخادمة الجاد.  

“من اليوم فصاعداً، سنتبع هذا الجدول. لكن اعلموا أن هذا لا يعني العمل بلا اكتراث، بل العكس! سنكون أكثر دقة. إذا أنهيتم عملكم مبكراً، يمكنكم الذهاب لغرفة الاستراحة للدراسة أو الراحة.”  

“شكراً جزيلاً!”  

خرج الخدم من الغرفة ووجوههم تشع بسعادة واضحة. توجهت إيلينا إلى كرسيها بالقرب من النافذة وجلست بارتياح.  

“مشرفة على الجناح بالكامل؟ في البداية، شعرت بعدم الارتياح لأنهم كلفوني بمهمة صعبة للغاية، لكن تبين أن إدارة الجناح هي بالضبط ما يعطيني الوقت الكيفي للتكيف مع القصر.”  

بالنسبة للخدم العاديين الذين يأتون من خلفيات عامة، يبدأون من القاع. لذا، عندما يصبحون خادمات أو مساعدين، يكونون بارعين في عملهم بلا عيوب.  

لكن المشكلة تكمن في نبلاء مثلها. فقراء، لكنهم من طبقة النبلاء، لذا ليس لديهم خبرة فعلية في أي شيء. حتى إيلينا أدركت أنه سيكون من الصعب استخدام شخص مثلها في الخطوط الأمامية مباشرة. فالخدمة تتطلب براعة معينة.  

أن تصبح خادمةً أو رفيقة محادثة يتطلب يداً ماهرة وذهناً متقداً. كانت إيلينا تأمل في أن تحصل على موقع مناسب دون الحاجة إلى التعامل المباشر مع العائلة الحاكمة. وكان الجناح الجانبي الذي يحتاج فقط للإدارة هو بالضبط ما كانت تتمناه.  

“طالما أنني لست سيئة جداً، فلن يتم انتقادي، ومعظم المناصب المهمة في المبنى الرئيسي مشغولة بالفعل، لذا يمكنني البقاء هنا لسنوات!”  

اتكأت إيلينا على ظهر الكرسي بوجه راضٍ.  

“أهذه هي الجنة؟”  

جلبت لها ذكرى شقيقها “ديريك” وهو يتدحرج على أرضية ساحة التدريب ابتسامة عريضة.  

العرق مقابل المال؟ لا شك أن هذا الوضع كان أكثر كفاءة وأفضل بكثير. تحت أشعة الشمس الدافئة التي تدفقت من النافذة، بدأت عينا إيلينا تتثاقلان.  

“غفوة صغيرة فقط. أتمنى أن يكون كل يوم مثل هذا اليوم.”  

غاصت إيلينا في نوم هادئ وهي متكئة على كرسيها، وانتشرت ابتسامة سعيدة على وجهها.  

…  

إلى صاحب السعادة الدوق المحترم،

“لقد مرّ عامان تقريبًا منذ مغادرتكما العاصمة. عندما غادرت، قلتما إنكما ستتفقدان بعض الأمور في الإقطاعية وستعودان قريبًا، لكني أتساءل إذا كانت تلك الأمور قد حُلّت بسلام.”

“بالطبع، أنا واثق من أن أبي قد تعامل مع كل شيء بإتقان. أسلوبه في إدارة الأمور دائمًا ما يكون نموذجيًا يستحق الإعجاب. بعد مغادرتكما، كنت أنا وغلوريا نتمنى لكما السلامة والصحة بانتظار عودتكما.”

“غلوريا تساعدني بسعادة في إدارة أعمال العائلة بدلاً مني، حيث أنني مشغول بشؤون الفرسان. أمي ستكون سعيدة بالتأكيد عندما ترى ما أنجزته. إنها تفعل أشياء مذهلة لدرجة أنني أتفاجأ بنفسي. في الواقع، إنها تتعامل مع الأمور بشكل ممتاز لدرجة أنها قد تكون خليفة أفضل لي كرئيسة للعائلة.”

“أشتاق إليكما كثيرًا. أرجو ألا تكونا قد نسيتاني. فصل الربيع يقترب، وشتاء الإقطاعية القاسي قد انتهى. ماذا عن قضاء هذا الصيف في العاصمة؟”

“أتطلع إلى اليوم الذي نلتقي فيه مرة أخرى.”

—كارل بيكمان.

—

بينما كان الدوق وزوجته يضحكان على رسالة ابنهما التي كتبها بأسلوب رسمي ومليء بالحنين، كان كارل في قصر العاصمة يستمع إلى تقرير أحد حراس الظل.

“هل هناك أي مواهب بين الخدم الجدد؟”

“ما زال الوقت مبكرًا للحكم، لكن هناك بعض الشخصيات البارزة. بين الخدم الذين أتوا من خلفيات عامة، هناك عدد قليل يتمتعون بذكاء استثنائي في المحاسبة والإدارة.”

“هذا النوع من المواهب دائمًا ما يكون نادرًا، لذا دعنا ننقلهم إلى الإدارة فورًا.”

“حسنًا. أما بالنسبة للمهارات القتالية، فلا يبدو أن هناك من يبرز بعد. الجميع بمستوى عادي، لكن لم أجد بعد من يتمتع بموهبة استثنائية. ومع ذلك، هناك خادمة واحدة تبدو غريبة بعض الشيء، قد نحتاج إلى مراقبتها أكثر.”

“إذا ظهرت أي نقاط استثنائية بين الخدم، أبلغني فورًا. ماذا عن الإمبراطورة؟”

“تدفق الأموال غريب. يبدو أنها بحاجة ماسة إلى النقود، حيث تقوم بجمع الأموال من كل مكان، لذا قمنا بزيادة عدد المراقبين.”

“لا نعرف ما الذي تحيكه، لذا تأكد من التحقق بدقة.”

بعد انتهاء التقرير، اختفى حارس الظل بسلاسة كما لو كان جزءًا من الهواء. 

“نحتاج إلى مواهب جديدة قادرة على إحداث تغيير.”

 أخفى كارل أفكاره وواصل مراجعة الأوراق كما لو أن كل شيء على ما يرام.