حين التقت عيناه بعينيها، شعر كارل وكأنه انكشف ما يجول في رأسه من خواطر غير بريئة. مدّ يده إلى كأس النبيذ يعبث بها، يحاول أن يخفي ارتباكه. لم تكن هذه المرة الأولى، لكن المكان وحده جعل حتى أطراف أصابعه مشدودة. ولإظهار رباطة جأشه، ارتشف النبيذ ببطء وسلاسة.
بينما كان هو يحترق من الداخل، وجدت إيلينا نفسها تنظر إلى ملامحه المختلفة عن المعتاد، ثم عضّت شفتها، وراحت تتأمل الغرفة حولها لتبدّد التوتر. عندها فقط رأت بوضوح تفاصيل حجرة النوم. تذكّرت أن بعض الخدم قالوا لها أن تترك الأمر لهم فحسب.
“يبدو أن توماس والبقية بذلوا جهدًا كبيرًا.”
ابتسمت وهي ترى اللمسات الحانية في كل زاوية، من السرير إلى الستائر، وحتى الإضاءة التي بدت كأنها تفيض بالعاطفة. تذكرت صوت إحدى الوصيفات حين همست لها بلهفة أن تتوقع مفاجأة، والآن رأت بوضوح صدق ذلك الحماس. ‘ما من عروس أوفر حظًا مني.’
“هاها، أليس كذلك؟ روبن توماس قالا لا تشغل بالك، لكن يبدو أنهما خططا بعناية لكل شيء.”
ضحك كارل بخفة، غير أن عينيه كانتا تلمعان بانتظار وفرح كالجواهر تحت الضوء. نظرت إيلينا إلى تلك العيون، ثم انزلقت نظرتها تدريجيًا نحو جسده، مليئة بالانبهار كما ينظر المرء إلى تحفة نادرة.
‘كم من الجهد بذل ليصنع مثل هذا الجسد؟ صحيح أنني لست ضعيفة، لكن من الواضح أن بنيته وعضلاته فريدة.’
في الحقيقة، ما إن دخلت الغرفة حتى سرقت هيئته بصرها فلم تجد وقتًا لتأمل غيره. كتفاه العريضان، وانسياب العضلات بسلاسة نحو خصره، جعلتها تتخيل كم هو صلب جلده وناعم في الوقت ذاته.
كل مرة كان السيف يرتطم بسيفه، كانت تراه يتحرك بدقة عبر عضلات متماسكة طالما أعجبت بها. وحتى يده الكبيرة الطويلة وهي ترفع الكأس، ومع انثناء معصمه، كانت العروق والعضلات البارزة ترتسم بوضوح في ذاكرتها.
‘وكل ذلك… ملكي أنا.’
ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة. ‘تراه يفكر مثلي؟’
“هل أنت سعيد؟”
سألت بصوت بدا مشدودًا، وكأنها تخشى الإجابة.
“نعم. إلى حد لا أجد له وصفًا.”
أجاب بلا تردد، وهو يبتسم ابتسامة ساطعة حملت في عينيه يقينًا راسخًا. كان يريد أن يصرخ أمام العالم أجمع أنه يعيش أسعد أيامه. كان يشعر أن شيئًا ناقصًا في صدره قد امتلأ أخيرًا.
حياته لم تكن سيئة من قبل؛ صحيح أن الإمبراطورة السابقة سببت له كثيرًا من الضيق، لكنه عاش حياة مستقرة بفضل أسرته. لو سأله أحد عن سعادته، لكان يفكر قليلًا ثم يجيب بأنه راضٍ. لم تكن حياة سيئة، لكنها كانت خالية من شيء ما، كأن فراغًا يبتلعه في صمت، ومعه غضب لم يجد له مخرجًا.
“لقاء إيلينا كان أعظم حظ في حياتي.”
منذ ظهرت في أيامه، دخلت إليها الحياة. أحبّ امرأة بعينين لامعتين، وما عاد يتخيل كيف ستكون حياته إن لم تكن معه.
‘لو اندلعت الحرب قبل أن ألتقيها… كيف كان سيكون مصيري؟’
كل ما اجتازاه معًا لم يكن يومًا سهلًا، رغم أنها جعلته يبدو كذلك بابتسامتها ورباطة جأشها.
“وأنا أيضًا. لقائي بك في قصر الدوق، ولقائي بأناس طيبين هناك… كان فرصة لا تعوَّض.”
ابتسمت إيلينا بخفة وهي تجيب.
ربما كان تدخّل الإمبراطورة السابقة في شؤون الدوقية ولويس سببًا غير مباشر لأن تسير الأمور إلى هذا النحو. كما أن المطر الذي يثبّت الأرض، فإن الشدائد تصنع من الناس قوةً وصلابة.
تمكنت من حل عقدٍ كانت عصية، ورأت أن أمورًا كثيرة تحققت دون أن تبذل جهدًا مباشرًا. لذلك لم ترَ نفسها أبدًا محقّة في التفاخر أو رفع رأسها بتكبّر. ‘كل ما فعلتُه أنني أحببت السيف، ولوّحت به بيدي.’
“لقد مرّت سنة أو سنتان فقط، لكن حدثت أمور كثيرة.”
قال كارل وهو يستعيد ذكريات الأيام التي قضياها معًا.
وسط حياة قاسية ومشحونة، دخلت هي كمن يوقظه من غفوة طويلة، لتذكّره أن هناك أشياء ثمينة لا يجوز التخلي عنها. هذه الفتاة التي تبدو هادئة مهذبة، كانت في حقيقتها جريئة، واثقة، ولا تعرف التردد.
في البداية، كان الأمر مجرد تسلية لإضفاء بعض الحيوية على رتابة الأيام، نصفه لعب ونصفه فضول. لكن كارل وجد نفسه ينجذب أكثر فأكثر إلى يقين إيلينا الصلب الذي لا يتزعزع. كل حركة صغيرة منها، كل انحناءة في عينيها، كل بريق أخضر كان يطل منها، أسر بصره.
كانت نظراتها كما هي منذ البداية؛ خالية من أي طمع أو حساب. غير أن تلك العيون نفسها الآن تلمع كشرارة نار، تثير قلبه وتؤجج اضطرابه. في النهاية، كان هو أول من وقع أسيرًا لتلك العيون الجميلة.
“هل ندمتِ يومًا على لقائي؟”
كان سؤالًا طالما أراد أن يطرحه.
فمنذ انتهاء مراسم الزواج، كان يكبح جماح رغبته بكل ما أوتي من صبر، حتى لا يبدو مجرد رجل شهواني يطمع في عروسه لحظة دخولهما إلى الغرفة. لولا نصائح روبن التي انهالت عليه وهو يلوّح بكتاب جلبه من مكان ما، لكان خطف يدها منذ اللحظة الأولى وقادها إلى السرير.
قال له إن العروس يوم الزفاف تكون مرهقة، وأن عليه أن يكون لطيفًا ورقيقًا معها، لا أن يرعبها بتعجله. ولأن كارل لم يشأ أن يجرح قلبها ولو هنيهة، فقد اتخذ من تلك النصائح ذريعة ليكتم ما يفيض في داخله.
لكن القلق ظل ينهشه. تذكّر كيف تورطت مع آل الدوق، وكيف جرت لويس إلى المتاعب، وكيف عانَت من مضايقات الإمبراطورة السابقة. تذكّر كيف كادت تتهم ظلمًا بالقتل، وكيف تحملت نظرات الحسد والغيرة في الحفلات. بل إنه أدرك متأخرًا أن بعض أفعاله التي اعتقدها حماية قد تكون أرهقتها في الحقيقة.
لذلك كان يسأل نفسه بين حين وآخر: ‘ترى، هل تندم إيلينا على لقائي؟ هل تتمنى حياة أكثر بساطة؟’
ومع كل مرة يلح فيها هذا الخاطر، كان يريد أن يسمع الجواب منها مباشرة.
ضوء المشاعل المتوهّج انسكب على بشرتها المغطاة بملابس النوم الخفيفة، فجعلها تتلألأ كأنها مرسومة من نور. لم يستطع صرف نظره عنها. وربما كان ذلك طمعًا صغيرًا أو أنانية، لكنه أقسم أنه لن يسمح لأحد أن ينتزعها منه. حتى لو كان قربه يومًا ما يؤلمها، فلن يتركها أبدًا.
ابتسم وهو يخفي مشاعره المضطربة، لأنه يعرف كم تضعف أمام ابتساماته. كان مستعدًا أن يتشبث بها إلى الأبد، بالسيف وبالعناد، مستغلًا كل نقطة ضعف يعرف أنها تحملها تجاهه.
‘تحب ملامحي أيضًا… سأجعلها، مرارًا وتكرارًا، تقع في حبي أكثر فأكثر.’
هكذا همس في نفسه وكأنه يقسم.
عندها ابتسمت إيلينا وقالت بخفة:
“أظن أنك في الحقيقة تخفي قلبًا خائفًا يا كارل.”
لم يعرف أحد قبله كم كان هذا الرجل البارد يملك باطنًا رقيقًا ولينًا إلا هي. كارل بيكمان الواثق القوي، والطفل الذي تكشّف داخله عن جراح الحياة العميقة، كلاهما كان لها وحدها.
أدركت أنها لم تكن تعلم عن نفسها هذا القدر من الأنانية. نشأت وسط إخوة وأخوات كثيرين، وتعلّمت أن المشاركة والتنازل أمر طبيعي. لكن مع كارل… لم يكن الأمر مطروحًا أصلًا. لم تستطع تخيّل أن تتقاسمه مع أي أحد. أرادته كاملًا، بلا شريك.
“لم أشعر يومًا بالندم على اختياري. نعم، أحيانًا أرتكب أخطاء وأتمنى لو لم أفعل، لكن تلك قراراتي، وأنا أتحمل تبعاتها. لذا لا داعي لأن تقلق أكثر.”
وما إن أتمت كلماتها حتى نهضت من مقعدها، ومدّت يدها نحوه. مدّ يده مرتبكًا، فما لبثت أن قبضت عليها بلطف وسحبته لتقيمه واقفًا أمامها.
“هـه؟ إ… إيلينا؟”
ناداها بارتباك، لكنها لم تُعره اهتمامًا. مضت بخطوات واثقة نحو السرير، تقوده خلفها. ثم دفعت صدره العريض بخفة حتى وقع مستسلمًا على الفراش الكبير.
“بوم!”
ارتطم جسده بالمفارش الناعمة، ورفع بصره إليها بذهول. كانت عيناه البنفسجيتان ممتلئتين بالحرارة والارتباك في آن.
ابتسمت وهي تميل نحوه:
“إذن، لندع القلق جانبًا… ولنثبت الأمر بختم لا يُمحى.”
وفي عينيها الخضراوين انعكس بريق من الدعابة والتوق. صعدت بخفة فوق السرير، وجلست على بطنه فوق عضلاته الصلبة بلا تردد.
“لكنني… قد لا أكتفي بختم واحد فقط.”
كارل ابتسم ابتسامة عميقة وهو ينظر إلى إيلينا التي اعتلت فوقه. كان جسدها المرتسم على ردائه تحت ضوء المشاعل غايةً في الجمال.
غاص بصره أكثر فأكثر، وكان يعجبه دائمًا ذلك اللمس الثابت الذي يشدّه كلما اضطرب قلبه. مدّ كارل يده مرحّبًا بإيلينا التي اقتربت منه، فاصطدمت شفاههما بحرارة متقدة.
من حرارة الجسدين المتلاصقين شعر كلاهما بما يضمره للآخر. وأدرك كارل أخيرًا أنها قد نضجت، واكتملت أمامه كإنسانة كاملة.
“هاه… كم أنا سعيد لأننا التقينا.”
“هيهي. لقد كان حظًا حسنًا.”
انتهى القُبُل العميق، لكن ذلك لم يكن إلا بدايةً جديدة.
أتُراه كان محض صدفة؟ أم قدَرًا مكتوبًا؟
“مثل هذا الحظ… سأرحّب به دائمًا.”
ومع انحناءة ابتسامته اللطيفة، أومأت إيلينا أيضًا. كانت تتساءل: لو عاد بها الزمن، هل كانت لتتخذ الخيار نفسه؟ هل كانت لتحبه مرة أخرى؟ لم تكن تعلم. لكن لم يكن أمامها سوى أن تتمسك بقوةٍ بمن هو بجانبها الآن.
وبينما هي غارقة في ذلك، تبدّلت مواضعهما. صار كارل هو الأعلى، يحدّق فيها بوجهٍ تغمره الابتسامة. لم يكن وجهًا مصطنعًا أو قناعًا متكلّفًا، بل ملامح طبيعية خالصة.
فكّرت إيلينا أن وجهه الطبيعي هذا أجمل ما رأت. لقد كان خطأً فادحًا منها أن تحكم عليه فقط من ملامحه القاسية الباردة. لقد كان في الحقيقة إنسانًا دافئًا ومليئًا بالحرارة. كانت ممتنة لأنها لم ترفضه رفضًا قاطعًا يومها.
“أتظن أنّا سنستطيع الاستيقاظ مبكرًا غدًا؟”
“الجدول يبدأ بعد الظهر، فلا تقلقي.”
ابتسم كارل ابتسامة مطمئنة، حين سألته إيلينا بقلقٍ خشية أن يطول نومهما. وبعدها التصقت شفتاهما من جديد، بداية خفيفة راحت تتعمّق شيئًا فشيئًا.
واستمرّت الليلة طويلة… في عيونهما المتقابلتين كان الدفء يعكس أمنيةً واحدة: أن يظلا معًا حتى آخر يومٍ في حياتهما.
―<خادمة الدوق هي سيّدة السيف> النهاية.
150 تعليق=الفصول الجانبية
نريد تعليقات لها علاقة بالرواية انطباعكم وارائكم عن الرواية
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 189"