“إن كنتِ حقًّا واثقة ببراءتك، فسوف تُطلقين بلا تهمة. وإن لم يكن عليكِ أي جرم، فالدوق الذي افتأت عليكِ سيؤدي ثمن افترائه.”
قال الإمبراطور بوجهٍ خالٍ من أي تعبير.
لم يكن بوسعي أن أقتل الإمبراطورة بيدي، غير أنّ العدوة التي شوّهت حياتي ستلقى قريبًا حتفها.
شعور الانتقام لم يكن حسنًا ولا سيئًا، إنما كان خواءً مفاجئًا لأن كل شيء قد انتهى. من أحببت لم يبقَ إلى جواري، ولم يتبقَّ غيري أنا وأطفالي الجراحى.
“ألن تحميني، يا جلالة الإمبراطور؟”
عضّت الإمبراطورة على شفتها بعد كلامه، ثم سألت وقد تعلّقت بخيطٍ أخير من رجاء.
لقد عاشا كالغريبين، لكنهما مع ذلك قضيا عشرين عامًا زوجين. لم يكن من المعقول أن يتخلى عنها الإمبراطور بهذه البساطة. ألم يكن بفضلها قد حافظت السياسة على توازنها؟!
الإمبراطور كان فذًّا، أما الإمبراطورة السابقة فكانت ضعيفة، امرأة طيبة حد الغباء، لا تعرف إلا الابتسام.
ولولا هي، لما تمكن الإمبراطور من ترسيخ نفوذه إلى هذا الحد.
“يا إمبراطورة، هذه القضية خرجت من يدي. الحكم أمر القضاة.”
“مولاي لا يزال كما عهدته، باردًا لا يلين.”
“وما من أحدٍ أشد قسوة منكِ، يا عزيزتي.”
ابتسم الإمبراطور وهو يردّ على كلماتها. كان قد عزم ألا يستجيب بعد اليوم لأي مطلبٍ أو رجاءٍ لها.
“وصلتني رسالتك يا مولاي. سأعود.”
“عودي بحذر، فلن أشيّعك. نلتقي يوم المحاكمة.”
لم ترد الإمبراطورة، بل استدارت بحدة وغادرت القاعة. وأعاد الإمبراطور في ذهنه تقارير المحققين.
فكلما تقدّمت التحقيقات، ازدادت دلائل وحشية الإمبراطورة، حتى بلغ بالمحققين القرف. كلما نقّبوا أكثر، تكاثرت جرائمها.
فلم تكن ذنوبها وليدة اللحظة، بل تراكمت عبر السنين. ومن بين ما دوّن في ملفات التحقيق، تورّطها في دسّ السم للإمبراطورة السابقة، وقتل ابن الدوق الأكبر.
لم يعد للإمبراطورة ولا للماركيز سبيل إلى النجاة. وما إن تعود إلى جناحها حتى تُستجوب مباشرة على يد المحقق.
أما الإمبراطور، فكان يترقّب جلسة استجوابها بشيء من الترقب.
—
“ألستِ متأكدة أنّك لم تقتربي من جلالة الإمبراطورة السابقة؟”
سألها المحقق، وقد حاد بصره وحاد صوته.
“لا أعرف من الفروسية إلا القليل، أما الخيل فلا خبرة لي بها.”
قالت الإمبراطورة ببرود، جالسة على كرسي صلب، وبنبرة وادعة.
لقد خدعت الإمبراطور نفسه وصارت إمبراطورة، فهل يُعجزها هذا المحقق الغِرّ؟
“إذن لا تذكرين حتى جواد الإمبراطورة السابقة؟”
“لقد مرّ زمن طويل حتى إني لا أذكر. لكن أظنه كان حصانًا جميلًا.”
“حقًّا؟ يومها كان الصيد الكبير، والجميع كانوا يمتطون الخيل، إلا أنكِ كنتِ تسيرين وحدك على قدميك؟”
“أفعلتُ ذلك فعلًا؟ لقد طال العهد، وذاكرتي تخونني.”
“نعم، فالسجلات يومها تُثبت ذلك.”
فتح المحقق بعض المدونات القديمة وأجابها.
“قد أكون مريضة ذاك اليوم فلم أقدر على ركوب الخيل.”
“رائحة الشاي الذي تشربين رائعة.”
“إنه شاي نفيس عندي، وطعمه لا يُضاهى.”
ارتشفت الإمبراطورة من فنجان الشاي الموضوع أمامها وحدها، فقد أُعدّ خصيصًا لها ما دامت لم تُصبح بعدُ متهمة رسميًا.
“آه، والآن تذكرت. الجواد الذي تسبب في حادث جلالة الإمبراطورة السابقة كان من سلالة ‘هِمولّي’ الأفضل في الإمبراطورية، أليس كذلك؟”
“لا… كان من سلالة ديفري… أيضًا.”
تلعثمت الإمبراطورة قليلًا وهي تجيب.
“ليس من سلالة هِمولّي؟ غريب. فجميع خيول جلالة الإمبراطورة السابقة كانت من تلك السلالة.”
“كلا، يبدو أنني أخطأت. فأنا لا أعرف كثيرًا في السلالات. ربما التبس عليّ الأمر بعدما سمعت أحدهم يتحدث مؤخرًا.”
ابتسم المحقق برفق وهزّ رأسه وكأنه يوافقها.
“لا بد أنكِ مرهقة. فلنؤجل الاستجواب إلى الغد بعد الظهيرة.”
ابتسم المحقق الشاب وهو يحيّيها مودّعًا، فقبضت الإمبراطورة على ثوبها حين خرجت.
ذلك الجواد الذي امتطته الإمبراطورة السابقة يوم الحادث كان هدية من الإمبراطور نفسه، جُلب خصيصًا من بلاد بعيدة ليلائم ذوقها الرقيق وحبها للأشياء الصغيرة واللطيفة. ‘إنه يعرف هذا بلا شك.’
‘حقيرة ألاعيبكِ.’
‘ابتداءً من الغد، لن أرتشف قطرة من شايٍ أو شرابٍ يقدّمونه لي. غرورهم يجعلهم يظنون أنهم يمسكون بزمام الموقف، فيفلت من فمي ما لا ينبغي أن يُقال.’
جمدت ملامحها وهي تعود إلى غرفتها، وأخذت تستعرض ما ارتكبته من أفعال واحدًا تلو الآخر.
شعرت بنظرات الفارس الحارس لها، وهو يتأملها باستغراب وهي جالسة على الأريكة. لم تعد تبكي وتصرخ بالظلم كما في السابق، بل كانت صامتة باردة القسمات، كأنها شخص آخر.
تجاهلت نظرته، وانشغلت بتجهيز أعذارٍ تتعامل بها مع كل اتهام، كأنها تُسلّم مسبقًا بأن جميع أفعالها باتت أدلةً ضدها.
“ما هذا؟”
زمّت شفتيها وهي تحدّق في العشاء الذي جاءت به وصيفة صغيرة.
“هـ… هذا ما أُعِدّ في المطبخ يا مولاتي.”
ارتجفت الصبية ولم تجرؤ حتى على رفع بصرها إليها.
“هل غيّر جلالة الإمبراطور أوامره، فصار يأمر أن يُعامَلَني كالمذنبة؟”
“لـ… لا، ليس الأمر كذلك.”
وكانت محقّة، فما زال التحقيق معها ومع آل الماركيز في بداياته. لكن أن يُقدَّم لها طعام بهذا السوء، فذلك دليل على تقلّص مكانتها حتى داخل قصر الإمبراطورة.
“أعيديه من حيث أتيت.”
رمقها الفارس بنظرة خاطفة، بينما نظرت الوصيفة إليه برجاء يائس. لكنه اكتفى بهز كتفيه، غير مبالٍ.
“لقد قالوا إن الطعام أُعدّ ولا يمكن تجهيز آخر!”
أغمضت الوصيفة عينيها خوفًا وهي تردد ما سمعته من المطبخ، ثم أسرعت بالخروج من الغرفة.
“هَه―.”
شهقت الإمبراطورة ساخطَة من التغير الفجائي في المعاملة منذ أول يوم استجواب. لقد كانت واثقة من إحكام قبضتها على خدمها، فإذا بهم أنذال لا يساوون شيئًا. حتى البارونة، التي طالما لازمتها، غابت منذ أيام، ربما لأنها تخضع هي الأخرى للتحقيق.
“دعيني أذهب بنفسي إلى المطبخ وأحضر لكِ عشاءً أفضل.”
قال الفارس، وقد رقّ قلبه لها أخيرًا.
“دَع الأمر. ليس الطعام سيئًا إلى حدٍ لا يُحتمل، سأكتفي به.”
“سأحرص ألا يتكرر هذا غدًا.”
أومأت برأسها على مضض وبدأت في تناول الطعام.
كان الأمر موحشًا بغياب البارونة التي اعتادت أن تخدمها كظلها. كل ما كانت تفعله بدأ معها وانتهى بها.
‘لن تبوح بالحقيقة ولو تعرّضت للتعذيب.’
كانت في الأساس ذات طبع هادئ ووفية غاية الوفاء. وبسبب بساطتها كان من السهل خداعها. في البداية ترددت في تنفيذ أوامري، لكنها تحركت في النهاية من أجل الطفل.
ولأن دواء طفلهل كان مرتبطًا بي، لم تكن لترضخ لأي تهديد عابر. ثم إنها نبيلة، فلن يجرؤوا على تعذيبها كما يُعذَّب عامة الناس.
ومع ذلك، لم يخلُ قلب الإمبراطورة من قلق.
‘ليتها تتجرّع السم وتنتحر فحسب.’
ابتسمت برفق وهي تتمنى موت خادمتها المخلصة.
—
“سيّدتي، نحن بحاجة إلى شهادتك.”
جلست سيدة آل ويلز، مرتدية ثوبًا أنيقًا، تتأمل الدوقة بيكمان التي كانت تجلس قبالتها تخاطبها ببرود. كانت في مثل سنها تقريبًا، لكنها لا تزال جميلة كما بدت أول مرة ظهرت في المجتمع المخملي.
حين أُودِعت الإمبراطورة في الحبس وخضعت هي للتحقيق ثم أُطلق سراحها، تنفست البارونة الصعداء. بدا الأمر كأن التحقيق انقضى بلا جدوى، حتى إنها عادت لتخدم الإمبراطورة وتؤدي أوامرها الخفية. وظنت أن سيدتها ستبرأ قريبًا.
لكن التحقيق استؤنف من جديد، كأنما ليسخر من توقعاتها.
وبخلاف المرة السابقة، اشتدّت حدة الاستجواب. وانهالت عليها أسئلة لا يمكن التملص منها، لكن البارونة ظلّت صامتة، متماسكة، رغم حدّة الأصوات التي واجهتها بالتهم صراحة.
أيام عديدة مرّت، وهي تُستجوب بلا توقف، فاستُنزفت قواها، لكنها أصرّت على الصمت.
لم تكن مكانتها رفيعة، لكنها مع ذلك تنتمي إلى طبقة النبلاء، ولذلك لم تُعذّب كما يُعذّب العامة، غير أنّ معاملتها كانت قاسية.
حتى الحيوان يعرف الوفاء لمن أحسن إليه. لذلك لم تستطع أن تخون الإمبراطورة أبدًا.
“أتظنين أن صمودك هذا سيجعلها تُبقيك حيّة؟”
قالت الدوقة وهي تنظر إليها بعين الشفقة، فيما التزمت البارونة الصمت.
مضى أسبوع بلا طعام، ومع ذلك لم تتزعزع عزيمتها. ولأنها كانت وصيفة جاءت مع الإمبراطورة من بيت أبيها، فهي تحمل أدلة كثيرة على جرائمها. لكن من الواضح أنها لم تُدرِك بعد خطورة وضعها.
“وإن حُكم للآنسة الإمبراطورة بالبراءة، فأنتِ أول من ستقضي عليه. لقد لازمتِها زمنًا طويلًا، وأنتِ أعلم الناس بأسرارها. وسيُدمَّر أنتِ وعائلتك معها.”
“مولاتي ليست من تفعل ذلك.”
أخيرًا، تكلمت البارونة ، بصوت متهدّج بعد طول صمت.
فأشارت الدوقة إلى أحد خدمها الواقفين، فتقدّم بأدب ووضع كأس ماء أمامها وصبّ شيئًا من الماء الفاتر.
طوال أسبوع كامل لم تتناول غير هذا القليل الذي يُقدَّم لها عرضًا. ومع ذلك، كلما تذكرت مولاتها، أطبقت شفتيها وأبت أن تقول شيئًا. فما من كلمة واحدة تستطيع أن تنطق بها ضد الإمبراطورة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "176"