“يقال إن جون حصل على كثير من المعلومات المفيدة، أليس كذلك؟”
كان جون ستاين قد دخل بيت ماركيز ساينز مرافقًا للبكر هناك، ثم راح ينقل شتى المعلومات إلى ديريك وإيلينا.
حين وُلد جون، أصغر أبناء أسرة لويس، كان الزوجان لويس يتمنّيان أن يكون هادئًا مطيعًا، لذا سَمَّياه تيمُّنًا بالبكر في أسرة ستاين.
وكان البارون ستاين دائم التباهي بابنه الأكبر، واصفًا إياه بأنه راشد، هادئ، ذكي. ولعله هو الآخر لم يكن يتخيّل أن تجري الأمور في العاصمة على هذا النحو، غير أن جون، بكر أسرة ستاين، ما إن رأى بكر الماركيز ألبرت يحيا حياة ماجنة، حتى هزّ رأسه مستنكرًا.
وكتب مرارًا إلى أبيه، البارون ستاين، طالبًا الإذن بالعودة إلى الإقطاعية، لكن البارون كان يتوسل إليه أن يصمد ويثبت له مكانًا في العاصمة بأي وسيلة.
وكانت إيلينا قد عرفت بذلك، فقرّبته من بيت الدوق.
قالت:
“صحيح. بل إن آخر معلومة أُقنعَت بها زوجة البارون كان هو من جاء بها. يبدو أن جون أحسن تثبيت أقدامه في بيت الماركيز.”
فأجابها:
“قدرة جون على كسب المودّة لا تقل عن براعة اللورد لويل. ولحسن الحظ أنّ آسنيل اكتشف أن الأعشاب التي كانت بيانكا تتناولها لا تلائم شاي الإمبراطورة.”
قال كارل:
“وقد تحققنا من الأمر حتى النهاية، فلا شك فيه إذن. لم يخطر ببالنا أن تلجأ الإمبراطورة إلى دسّ الأدوية في بيت الماركيز.”
ثم جلس في العربة يعانق إيلينا بقوة:
“الحمد لله أن هذا الاجتماع العجيب انتهى بلا لبس ولا سوء فهم.”
فأجابته وهي تبادله العناق مبتسمة بمرارة:
“الأحسن أن بيانكا أدركت بنفسها أن سلوكها يومها لم يكن طبيعيًا. وإن كانت لم تعلم بما سيأتي من اتهامات لاحقًا، فهي على الأقل أفسحت لنفسها مجالًا لتدارك المستقبل.”
—
“مولاتي الإمبراطورة، إن لم تأكلي ستنهك صحتك.”
“وكيف لي أن أبتلع الطعام وأنا متهمة اليوم بالخيانة؟”
كانت الإمبراطورة قد آوت إلى جناحها وأعلنت إضرابًا عن الطعام، مؤكدة أن كل ما جرى لم يكن إلا محض سوء فهم.
وبآخر ما تبقّى من حُظوة لها عند الإمبراطور، لم تُودع سجن العائلة الإمبراطورية، بل حُبست في جناحها الخاص. ومع ذلك، كان الدخول والخروج مراقبًا بعناية، وتناوب الفرسان على ملازمتها في الغرفة حتى لا تنفرد بنفسها. غير أن اعتبارًا لمقامها، كان الحرس من الفارسات.
جلست الإمبراطورة مسنِدة ظهرها إلى الفراش، تُهدِّئ من روع زوجة البارون التي كانت تكاد تبكي. وكانت هذه السيدة قد خضعت للتحقيق بوصفها أقرب الناس إلى الإمبراطورة، لكنها أُطلِق سراحها سريعًا لعدم معرفتها بشيء.
لقد وُجِد الدليل عليّ أنا، فكيف خرجت آنا بريئة بلا شبهة؟
ساورتها الريبة حتى في زوجة البارون، لكنها لم تجد أحدًا غيرها تعتمد عليه الآن. أمّا زوجة البارون، فكانت لا تدّخر وسعًا في محاولة إطعامها.
ولمّا رأت الفارسة أن الجدال بينهما طال، خرجت قليلًا تاركة الغرفة.
طَق.
سألت الإمبراطورة حال خروجها:
“كيف جرى التحقيق؟”
ثم أخذت ببطء الصحن الذي قدّمته لها زوجة البارون وتذوقت منه بحذر.
فأجابتها:
“ثبت أنني لم أكَد أفارق مولاتي، ولم يثبت أنني أعطيت أحدًا أوامر أو التقيت بآخرين، ولهذا استُبعدتُ من دائرة التحقيق. أما راتبي فيذهب جلّه لعلاج طفلي، ولذلك ارتأوا أنه لا شبهة فيه.”
ونظرت إليها بحنو وهي تُطعِمها بالملعقة:
“وهل جرى استرداد الأدوية التي وُزّعت على البيوت النبيلة؟”
“كلا. لم يُعثر عليها.”
قالت الإمبراطورة ببرود وقد ومضت عيناها:
“إذن، أتباع تلك البيوت ما زالوا يشربونها في الشاي من غير أن يدروا أنها دواء.”
ردّت زوجة البارون:
“نعم، ومع التكرار سيجدون أنفسهم مولعين به بلا وعي، متشوّقين إليه.”
فأشاحت الإمبراطورة بعينيها اللامعتين وقالت:
“راقبي الأوضاع جيدًا في الخارج. ولا تَغفلي عن إيلينا لويس. إن لاحظتِ أي أمر مريب فأخبِريني حالًا.”
ثم توقفت عن الأكل بعدما شبعت بعض الشيء، إذ لو قلّت الكمية كثيرًا لربما أثارت الشكوك.
فما كان من زوجة البارون إلا أن قلبت الصحن بخفّة، موهمةً أنها أسقطته أثناء الجدال. وعندئذ دخلت الفارسة إلى الغرفة من جديد.
“مولاتي الإمبراطورة، دعيني أطلب من المطبخ أن يُحضِر لك الأطعمة التي تحبينها.”
“لا حاجة. وما جدوى أن آكلها الآن؟”
ما إن دخلت الفارسة حتى تبادلت المرأتان نظرات سريعة وأخذتا تُغيِّران مجرى الحديث. وحين خرجت زوجة البارون لجمع الأواني، غاصت الإمبراطورة في الفراش كمن فقد كل إرادة.
راحت تتذكّر ما جرى بينها وبين إيلينا في حفلة الاحتفال بالنصر.
الآن هو الوقت المناسب…
في أثناء الحفل سنحت فرصة عابرة للإمبراطورة أن تتحادث مع إيلينا. وكان حولهما أناسٌ كثيرون يتحدثون في أمور أخرى، فكأنما هيأت الصدفة لهما مجالًا منفردًا. عندها أومأت الإمبراطورة إلى إيلينا لتبتعدا قليلًا إلى ناحية أخرى.
قالت الإمبراطورة:
“كيف وجدتِ حياتكِ في بيت الدوق؟”
فأجابت:
“بخير، بفضل عظيم من الرعاية والمساعدة التي أُحيط بها.”
قالت مبتسمة:
“حسنٌ إذن. فالانتماء إلى بيت الدوق يعني اتصالًا وثيقًا بالقصر الإمبراطوري.”
“سأبذل جهدي كي لا أكون عبئًا على أحد.”
كان جواب إيلينا هادئًا رصينًا، بلا بادرة انفعال أو ارتباك، حتى وقد نالت ثناء الإمبراطورة وتشجيعها.
أحقًا هذه طبيعتها؟ يقال إنها باردة الطبع… فهل حتى الفرح لا يُرى على ملامحها؟
استغربت الإمبراطورة هذا الفتور، إذ لم يُقابل أحدٌ مدحها بمثل هذا الجمود من قبل، فزمّت حاجبيها دون أن تشعر. ثم هزت رأسها تنفي قولها:
“أي عبء تتحدثين عنه؟ وجود سيفين من سادة السيوف في بيت الدوق، ذاك البيت الذي سيقود مع ابني الإمبراطورية، هو نعمة كبرى على الإمبراطورية كلها. إن جلالته نفسه يعلّق آمالًا عظيمة.”
ربّتت الإمبراطورة على يدها وهي تبتسم. لكن إيلينا لم تبدُ عليها سوى الجدية.
“سأسعى أن أكون عند حسن الظن.”
“لتجالسيْني من حين إلى آخر.”
“مجرد أن تستدعيني شرف عظيم لي.”
ابتسمت الإمبراطورة ابتسامة باردة وقالت:
“حسن، يبدو أنك تعرفين قدرك، وهذا يريحني.”
كان في كلماتها مسحة من البرودة. أما إيلينا فأخفت تعبير وجهها واكتفت بالصمت.
“أليس على المرء أن يعرف قدره ويحيا وفق مقامه؟”
قالتها الإمبراطورة وهي تبتسم من وراء مروحتها.
فأجابتها إيلينا:
“سأحرص على ألّا أسبّب أدنى ضرر لبيت الدوق ولا للإمبراطورية.”
“أتوقع منك أداءً كاملًا للواجب. فإذا تم الزواج رسميًا، فعليكِ أن تُظهري ما يليق من الولاء والإخلاص.”
أي هراءٍ هذا؟!
خطرت هذه الفكرة في ذهن إيلينا من دون أن تُظهرها. ثم تخلّت عن وقفتها الخاضعة، واستقامت في جلستها مشدودة الظهر، رافعة كتفيها باعتداد. لم يكن ثمة داعٍ لتكليف نفسها التوقير لمن يتحدث بالجنون. ولو أن الإمبراطورة اختتمت الحديث بعبارة وُدٍّ أو تسامح، لربما تغاضت إيلينا وتظاهرت بالجهل.
فعداوة كارل لا تعني بالضرورة أنها يجب أن تحملها هي أيضًا. بل لقد قال لها كارل بوضوح: إن مساعدتها لبيت الدوق أمر محمود، لكن لا حاجة أن تتكلف خصوماتٍ زائدة.
غير أن الإمبراطورة هي من أهدر آخر فرصة بيديها.
هل يجدر بي أن أشكرها لأنها منحتني فرصة الاندماج الكامل في بيت الدوق؟
وحين بدّلت إيلينا جلستها وواجهتها بعينين ثابتتين، اضطربت الإمبراطورة فجأة، إذ شعرت بوهلة من الرهبة تتسرب من جسدها أمام الهيبة التي فاضت من إيلينا.
“ما معنى هذه النظرة؟ لم أقل قولًا خاطئًا. أيضايقك أن أطلب منك أن تُظهري قدرًا من اللباقة لأجل مساعدتكِ على التكيف مع مجتمع النخبة؟”
أشارت الإمبراطورة إلى تغيّر موقف إيلينا المفاجئ. فما إن بدّلت وقفتها قليلًا حتى انبعث منها جوّ بارد مهيب. عندها جالت عينا الإمبراطورة باحثةً غريزيًا عمّن يحميها.
قالت إيلينا ببرود:
“أظن أنني أستطيع التأقلم مع المجتمع الراقي بمعونة بيت الدوق. أما معونة مولاتي، فسأعتذر عن قبولها.”
لم يكن قصدها أن تدوس على الإمبراطورة وتعلو فوقها، بل كل ما فعلته أنها انحنت في البداية محافظةً على اللياقة حين أظهرت الأخيرة وُدًّا. لكن الآن صبّت عليها إيلينا شيئًا من هالتها، فارتعشت الإمبراطورة رغم أن ما أفاضته لم يكن إلا مقدارًا يسيرًا.
صرخت الإمبراطورة مرتجفة:
“أأنتِ… أأنتِ تُرهِبِينني الآن؟! في هذه الإمبراطورية لا امرأة أرفع مقامًا مني!”
ولم تُدرِك أن جسدها يرتجف بلا وعي منها، فراحت تَرمق إيلينا وكأن رفضها لكرمها أمرٌ لا يُصدَّق.
“أتجرئين على ردّ يدي؟ أفتظنين أنكِ ستسلمين بعد ذلك؟”
فأجابتها إيلينا بثبات:
“لست أدري… أترى كرم مولاتي أعظم من كرم جلالة الإمبراطور نفسه؟”
كانت تستحضر ذكرى الإمبراطور حين توسّل إليها أن تتولى منصب قائدة لإحدى فرق الفرسان في القصر، لكنها رفضت قائلة: إن خدمة فرسان الدوق تكفيها، وإنها ستظل وفيّة للإمبراطورية كزوجةٍ مستقبلية لدوقها. ومع ذلك ظلّ الإمبراطور يُلحّ عليها.
قالت الإمبراطورة ساخرة:
“هاه! أتتصرفين بهذه الغطرسة لأنكِ تستندين إلى جلالته؟! أيظن قلبك أن الإمبراطور قادر على حمايتك في مجالس النساء كما يحميك في ساحات الرجال؟”
رمقتها الإمبراطورة بنظرات حادّة. رغم أنها ظفرت بالسلطة التي رغبت بها طويلًا، ما زال يظهر أمامها من لا يطأطئون الرؤوس. أحقًا عليها أن تصير إمبراطورًا بنفسها كي يخضع لها الجميع؟ لقد أخذ الخوف ينهش عقلها.
“يا آنسة لويس، حين يُبدي ذو مقام رفيع لك لطفًا، فمن الواجب أن تبادليه بقدرٍ من المجاملة. يؤسفني أنكِ تتوهمين أنكِ صرت عظيمة لمجرد زواجك من وريث الدوق. لم أرد إلا أن أكون قريبة منكِ.”
لكنها كتمت غيظها في صدرها. إيلينا تحدّتها وجهًا لوجه، وهذا أثبت لها من جديد أن أبناء بيت الدوق لا يجوز تركهم وشأنهم.
فقالت إيلينا بنبرة صافية:
“وأنا بدوري كنتُ أرجو أن أحافظ على علاقة وديّة مع مولاتي.”
“هكذا إذن؟ كدتُ أن أسيء الفهم. حسن، سأدعوكم ثانية فيما بعد، فبما أنكِ ترغبين بذلك، فلدينا متسع من الوقت لنقترب.”
“نعم، سأكون بانتظار الدعوة.”
ابتسمت الإمبراطورة وقالت:
“تأملي جيّدًا… أي جانبٍ يقف إلى جواره سيكون أنفع لبيت الماركيز.”
عندها ارتسمت ابتسامة قصيرة على شفتي إيلينا.
‘إذن فأنتِ من تجرّأ على المساس بـلويس…’
وتلألأت عيناها ببريق حاد.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "174"