“أشكركم على تفهّمكم. لقد كنت مريضة آنذاك، ولأكون صريحة لا أذكر بدقة كيف تصرّفت. حتى إنني لم أدرك أن الخنجر قد سقط على الأرض إلا في وقت لاحق.”
تابعت كلامها وعيناها تترقرقان بالدموع:
“كما تعلمون جميعًا، منذ طفولتي كثيرًا ما كنت أتورّط في حوادث سيئة، وكان والدي قلقًا عليّ دائمًا. لذلك أهداني خنجرًا صغيرًا لأتمكّن من حماية نفسي. وغالبًا ما أنسى حمله، لكن وصيفات بيت ساينز كنّ لا ينسين، فيحرصن على مساعدتي كي أكون في أمان.”
بهذا التلميح، أوحت بيانكا بأن حيازتها للخنجر لم تكن بمحض إرادتها، بل بمساعدة الآخرين، وأنه لم يكن إلا وسيلة لحماية نفسها.
غير أن القانون كان واضحًا؛ فحمل السلاح داخل القصر الإمبراطوري، ولا سيما في أماكن إقامة الإمبراطور أو الإمبراطورة، أمر ممنوع تمامًا. أدرك الإمبراطور ذلك، وفكّر في إنزال العقوبة عليها لاحقًا، لكنه لم يرَ داعيًا لفتح الموضوع الآن وإفساد الجو.
“بوجه عام، سارت حفلة الشاي على نحو سلس، باستثناء تأخر الآنسة لويس. وحتى بعد وصولها مُنحت فرصًا عادلة للمشاركة في الحديث، لكنها بدت غير منسجمة مع الأجواء. شعرت بالأسف لذلك.”
في الواقع، عجز إيلينا عن الاندماج لم يكن بسببها، بل لأن كثيرات تعمّدن النيل منها في كل كلمة. بدا وكأنهن يرفعن من شأنها باعتبارها ‘سيّدة السيف’، لكن في باطن الأمر كنّ يسخرن من كونها مجبَرة على حمل السيف باستمرار، ويرونها أدنى شأنًا.
فهنّ لم يعترفن بأن تدريبًا قاسيًا يجرّح اليدين أو حياة قوامها السيف يليق بنساء نبيلات. بالنسبة إليهن، على السيدة الرفيعة أن تحافظ على يديها ناعمتين، وأن تنعم بخدمة الوصيفات من لحظة استيقاظها حتى عودتها إلى الفراش، دون أن تُحرّك أصبعًا، محافظةً بذلك على ما يرينه لياقة وسموًّا.
“هي بدت… كيف أصف الأمر… غير معتادة بعدُ على حياة العاصمة. حاولت قدر جهدي أن أفتح موضوعات تتيح لها الدخول في الحوار، لكن الحديث ظل محدودًا. كنت أود حقًا أن أقترب منها، كما قالت بنفسها، لكن الأمر لم يَسِر كما رغبت.”
تحدثت بيانكا بإخلاصٍ ظاهري، لتُظهر كم كانت ودودة مع إيلينا، ملمّحةً في الوقت نفسه إلى أن الأخيرة لا تزال عاجزة عن التكيّف مع مجتمع العاصمة الراقي.
لكن بعض السيدات النبيلات لم يُعجبهن ذلك، فعقدن حاجبيهن في استنكار؛ فإظهار نوايا النفس على هذا النحو اعتُبر خروجًا عن الرقيّ الواجب على ابنة بيت عريق.
“كنت أظنها أكثر رصانة وأقدر على انتقاء الألفاظ… يبدو أنها وجدت نفسها في مأزق.”
“لطالما تظاهرت بالعُلوّ والتعالي، فإذا بها تكشف عن حقيقتها.”
“لا ينبغي أن نتوقع الكثير من بيت ساينز لم يَمضِ على نشأته سوى جيلين أو ثلاثة. صحيح أن آل لويس يُنظَر إليهم باستخفاف، لكن آل ساينز أيضًا لم يَرْتقوا إلى رتبة ماركيز إلا لأن إحدى بناتهم أصبحت الإمبراطورة، وذلك لا يختلف كثيرًا.”
ومع امتداد إفادتها، بدأ همسٌ ساخر يتردّد في الصفوف الخلفية، استهزاءً ببيانكا.
أحسّت بيانكا بالغضب يتأجج في صدرها، لكنها كبحت نفسها. كانت مريضة فعلًا ذلك اليوم، وإخراجها الخنجر في لحظة انفعال كان حقيقة لا تنكرها. بعد الحادثة، صفعها والدها لأول مرة في حياتها. هي لم ترَ في نفسها خطأً يستحق العقاب، لكن ما دام الأمر قد وقع، وجب عليها أن تُسوّي عواقبه.
“حين شارف اللقاء على الانتهاء، بدأنا نتنزه في الحديقة. كنت بخير وأنا جالسة، لكن ما إن وقفت حتى بدأ رأسي يؤلمني قليلًا.”
لم تكن ابنة الأخ تعلم أن عمتها، الإمبراطورة، وضعت في الشاي عنصرًا معيّنًا كانت تُظهر حياله حساسية مفرطة كلما شربته.
أما إيلينا، فقد أدركت الأمر منذ اللحظة التي بدأوا فيها السير في الحديقة؛ فقد كان جسد بيانكا يرتجف بخفة، وعيناها تتسعان وتنقبضان بصورة غير طبيعية.
“مع ذلك، رغبت في البقاء حتى النهاية، والاستمتاع بالوقت. لقد مضى زمن الحرب ونحن جميعًا نتحفظ، وحين عادت حفلات الشاي أردت أن أستغلها لأتقرّب من كثيرات، ومن بينهن الآنسة لويس أيضًا.”
أظهرت بيانكا بوضوح مدى حرصها على توطيد علاقتها بالآنسة لويس، واستمرت في التشديد على براءتها، مؤكدةً أن ما حدث لم يكن سوى سوء فهم.
‘في الحقيقة، لو تحوّل الأمر إلى محاكمة حقيقية، لكنت أنا الخاسرة. ولذا كنت راضية في داخلي لأن الإمبراطور ببلاهةٍ غيّرها إلى جلسة مناظرة عامة. أبي أيضًا سيكتفي إن انتهى كل شيء إلى مجرد سوء فهم تافه. بل سيشعر بالندم لأنه صفعني.’
تفكّرت بيانكا في تلك الصفعة؛ كانت أول عنفٍ تتعرض له في حياتها. وأقنعت نفسها أن والدها رفع يده لا لأنه قصد إيلامها، بل لأنه قلق على ابنته التي قد تتورط مستقبلًا في شؤون خطيرة.
أما هي، فلم تكن ترى أن ما بدر منها يستحق كل ذلك الانفعال. لكنها كانت مريضة حقًا ذلك اليوم، وتشوش ذهنها، فلم تَسِر أفكارها على نحو سليم. وكما تتذكر، لم يخطر ببالها أبدًا مواجهة إيلينا، بل إن إخراجها للخنجر لم يكن سوى فعلٍ طائش في لحظة غضب.
ولهذا السبب، حين كتبت إفادتها تحت رقابة فارسٍ أوفده الإمبراطور، أوضحت بالتفصيل كم كانت متعبة ومنهكة.
فالإنسان، حين يضعف جسده، يَفزع من أمور تافهة أكثر مما يفعل عادة. وقد بررت بيانكا أنها نفسها ارتاعت من تصرفها، وأنها لم تكن تنوي لا إيذاء الآنسة لويس ولا إلصاق التهمة بها.
وبناءً على مضمون إفادتها، ظلت محافظة على خطاب متماسك أثناء الشهادة. حتى الحضور شعروا بأنها مريضة حقًا، وأن ما وقع كان أمرًا أدهش بيانكا نفسها.
قالت بصوت مرتجف وهي مطأطئة الرأس:
“أشعر بالغرابة لأنني تصرفت بانفعال وعصبية دون وعي. صحيح أنني كنت مريضة، لكن لم يحدث لي أمر كهذا من قبل.”
أثار مظهرها وهي تبكي خفضًا لأنظارها شفقة الحاضرين.
“لكن، أعترف أنني أخطأت في ذلك اليوم. ويؤسفني أن ذاكرتي حول ما جرى آنذاك وما تلاه غير مكتملة، لذا لا أستطيع أن أشهد بما حدث في تلك اللحظة بالذات.”
ما إن أنهت بيانكا أقوالها حتى خيّم الصمت.
بعضهم تساءل في نفسه: هل يمكن لمجرد وعكة صحية أن تدفعها إلى مثل هذا السلوك؟ بل ظهرت شكوك لدى آخرين بأنها ربما تعاني عِلّة أخطر أو داءً دفينًا.
“لدي سؤال.”
“تفضل بالكلام.”
رفع أحد النبلاء الشباب يده. نظرت بيانكا إليه بوجه متوتر. كان هو نفس الشاب الذي التقت به للمرة الأولى في حفل النصر الأخير، وقد حاول أن يقرّب المسافة بينهما بكلمات لطيفة ورقيقة.
‘كان يبتسم لي وكأنه معجب بي… والآن يبدو أنه ينهض لمساعدتي.’
سأل بصوت حذر ينمّ عن قلق:
“بما أنك لم تكوني على ما يرام ذلك اليوم، هل تناولتِ دواءً ما أو طعامًا خاصًا لتقوية جسدك؟”
“دواء…؟”
أعادت بيانكا التفكير في صباح ذلك اليوم.
“همم… لم أستدعِ طبيبًا ليصف دواء، لكن لدي عشبة طبية أتناولها حين أشعر بالتعب، وقد أحضرتها وصيفاتي لي. تلك العشبة تساعدني على الصمود ليوم واحد على الأقل.”
قال الشاب بابتسامة دافئة:
“فهمت. يسعدني أنك تعافيت الآن.”
مع أنه لم يكن وسيماً مثل كارل، إلا أن نظرته القلقة وابتسامته الهادئة أشعلت في قلب بيانكا دفئًا.
‘حتى لو لم يكترث كارل بيكمان لأمري، فأنا لا أزال الأجمل في أعين مجتمع العاصمة.’
هذا التفكير أعاد إليها ثقتها بنفسها، ودفعها لتتأمل ما وقع يومها.
“نعم… لقد كان يومًا غير طبيعي على الإطلاق.”
سألها الإمبراطور بسرعة، ملتقطًا عبارتها:
“غير طبيعي؟ ما معنى كلامك؟”
فتحت بيانكا عينيها دهشةً من مفاجأته:
“نعم؟”
“لقد قلتِ بلسانك إن ذلك اليوم لم يكن طبيعيًا.”
“آه…”
شهقت بيانكا، ثم رفعت يدها تغطي بها فمها من الدهشة.
‘لِمَ… لِمَ تصرفت هكذا؟ ما الذي كان غريبًا حقًا؟’
اهتزّت عينا بيانكا الزرقاوان الصافيتان بحيرةٍ وارتباك، فيما كان الإمبراطور والحضور يراقبونها عن كثب.
قالت وكأنها تخاطب نفسها:
“نعم، ما السبب في أن ذلك اليوم كان غريبًا؟”
أخذت تنقّب في ذاكرتها، وأدركت أن شيئًا غير عادي قد وقع لها.
فهي لم تعتد قط، مهما كانت الظروف، أن تُظهر انزعاجًا أو غضبًا أمام الآخرين، إذ كانت تحرص دائمًا على ترك انطباعٍ رقيق ومشرق في مجالس النخبة. لكن يوم حفلة الشاي، بدا وكأنها طوال الوقت في حالة توتر حاد.
قال الإمبراطور بنبرة متأملة:
“لا بد أن جسدك كان مرهقًا حقًا.”
“نعم، أظن الأمر كذلك. ولهذا وقع حادث لا يُصدَّق. وأود في هذه المناسبة أن أقدّم اعتذاري الخالص للآنسة لويس.”
رغم أن والدها لم يُخفِ نظرة استياء، إلا أنها لم تعد ترغب في الاستمرار بهذا الحوار الغريب ولا في إطلاق المزيد من التبريرات.
كانت عمتها قد أوصتها بالإنكار التام، مدّعيةً أنها لا تذكر شيئًا، مؤكدة أن ذلك سيتيح لهم استغلال الأمر للإيقاع ببيت لويس وبيت الدوق. غير أن بيانكا لم تشأ أن تنهي المسألة بمثل هذا الغموض المقيت.
أما إيلينا، فنظرت إليها بدهشة، وهي تنحني بعمق أمامها. لم تكن تتوقع منها أن تتراجع بهذه السهولة، فأحسّت بشيء من الخيبة، وكأن المشهد انتهى على نحوٍ باهت.
ضحك الإمبراطور بصوت عالٍ وقال:
“ها قد زال سوء الفهم بعدما بُسط الحديث بينكما.”
والحقيقة أنه لم يكن يظن أن بيانكا ستعتذر بهذه السرعة، فشعر في داخله ببعض الارتباك. بل إن الأمر انتهى أسرع مما كان يتوقع.
فقد كان يرجو أن تُبدي بيانكا مزيدًا من المقاومة، ليزداد تورّط الإمبراطورة وبيت ساينز في محاولة إلصاق التهمة بإيلينا، وعندها سيغدو سقوطهم أتعس وأشد إيلامًا.
لكن، وهو يرمق ببرودٍ وجوه الإمبراطورة وال ساينز المتجهمة، أدرك بوضوح أن ما جرى لم يكن مُتفقًا عليه بينهم وبين بيانكا، فآثر أن يتغاضى ويمضي مبتسمًا.
“لقد وقع الحادث غير المتوقع بسبب وهن الآنسة بيانكا ساينز، لكن تدخّل الآنسة إيلينا لويس حال دون أن تتعرض بيانكا لخطرٍ أكبر. أليس كذلك؟”
“نعم، جلالة الإمبراطور.”
“نعم.”
أما الحضور، فوجدوا أنفسهم محبطين قليلًا؛ إذ بدت نهاية القضية هزيلة مقارنة بالضجيج الكبير الذي سبقها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "172"