بعد أيام قليلة، أصرّ الإمبراطور على أنّه سيُزيل كل لبس، فأقام ما سمّاه بتعبير مبالغ فيه: “الندوة الصريحة لإزالة سوء الفهم القائم بين الطرفين”، وهي في حقيقتها جلسة تحقيق في الحادثة. وما إن شاع الخبر حتى تدفّق النبلاء من كل صوب.
“هممم. محاولة قتل؟! لا يمكن أن يكون ذلك صحيحاً. أترى فارساً بلغ مرتبة سيّد السيف يفتقر إلى شيء حتى يرتكب فعلاً كهذا؟”
قبل أيام فقط، انتشر في المجتمع المخملي أنّ الإمبراطورة قد رفعت شكوى ضد الآنسة إيلينا لويس، فاشتعلت الأحاديث والهمسات. صحيح أنّ الناس صُدموا حين سمعوا أنّ آنسة من بيت ماركيز ساينز كادت تتعرض للقتل، لكن ما إن علموا أنّ المتهمة هي خطيبة كارل بيكمان، حتى هزّوا رؤوسهم نافين.
فقد كانت هواجس الآنسة بيانكا تجاه كارل بيكمان مشهورة في العاصمة. لم تكن تقوم بأفعال شريرة أو فضائح كبرى، بل كانت تلاحق كل آنسة تحاول الاقتراب منه بعينين دامعتين تستجدي العطف، أو تتسكع بالقرب من مقرّ فرسانه. حتى هذا السلوك وحده كان كفيلاً بأن يثير الامتعاض.
ولأنها لم تكن محكمة رسمية، تولّى الإمبراطور رئاستها بنفسه، وفتح باب الحضور لكل من يرغب من النبلاء. فغصّت قاعة الاجتماعات بالمدعوين، وقد نُظمت المقاعد على هيئة محكمة مصغّرة، يجلس فيها أصحاب الشأن في الوسط، وتحيط بهم مقاعد للحاضرين من كل الطبقات النبيلة. الكل كان يترقّب بشغف بدء تلك المحاكمة، أو بالأحرى الندوة الصريحة لإزالة سوء الفهم.
في الصف الأمامي جلس بيتا ساينز وبيكمان: الأول بوجه متجهم، والثاني بملامح جامدة لا تُقرأ. أما الأطراف المعنية مباشرة من العائلات الملكية فلم يظهر لهم أثر.
“من بحق السماء اخترع هذا العنوان؟” تمتم أحد النبلاء وهو يتأمل الاسم الطويل الفج.
“ومن تظن غيره؟”
“الإمبراطور نفسه؟”
“كخ، كخ.”
تظاهر بعض موظفي البلاط الذين أشرفوا على الإعداد بالسعال ليخفوا حرجهم، بينما أطلق الحاضرون ضحكات مكتومة.
“ألم يكن جلالته مشهوراً منذ أن كان ولياً للعهد بسوء اختياره للأسماء؟! حتى إنّ مسألة أسماء ولي العهد والأميرة طُرحت في المجلس ليُحال أمرها إلى المعبد!”
“وكنّا نحن أول المعارضين لذلك…”
غير أنّ الإمبراطور، بحجة ألا يساء الفهم، شدّد على أنّ ما وقع لم يكن محاولة قتل بل سوء تفاهم بسيط، ثم ختم بيده مرسوماً يحمل الاسم الغريب الذي كرهه الجميع. وما إن وُضع الختم الإمبراطوري حتى لم يعد هناك مجال للتراجع.
كلما وصلت إلى مكاتب الوزراء ملفات معنونة بتلك العبارة الطويلة، داهمهم الصداع. يكفي أن تلوح في الصفحة الأولى كلمة ‘الندوة الصريحة…’ حتى يشعروا بالدوار.
ولو أنّ الأمر تُرك للمحكمة كما طلبت الإمبراطورة لكان أسلم، لكن الإمبراطور آصر التدخل بنفسه قائلاً إنه لا بد من إزالة سوء الفهم بين الشباب، بل ووبّخ من عارضه مؤكداً أنّ النزاع بين العائلات النبيلة، التي هي عماد الإمبراطورية، غير مقبول.
“أي سوء فهم؟! من الواضح أنّ الأمر من طرف واحد لا غير!” همس بعض النبلاء ساخرين، وهم يتهكمون على آل ساينز الذين صعدوا من كاونتية إلى ماركيزية بفضل نفوذ الإمبراطورة. فكثيرون كانوا يمقتون الماركيز ساينز الذي سلب غيره حقه ليرتقي.
وتوقع البعض أن تكون ابنته بيانكا قد لجأت هي الأخرى إلى طرق ملتوية للاقتراب من إيلينا.
“ألَم يكن آل ساينز ماكرين منذ أيامهم ككونتية؟ ما أكثر ما أخفوا المؤامرات وراء الستار.”
“وما جدوى نبش الماضي؟”
“ألا ترون وقاحتهم؟ ليس فقط يتكئون على قوة الإمبراطورة، بل يطمعون أيضاً في مكانة أرقى أسرة دوقية في الإمبراطورية!”
“لكن ألم يُقال إنّ ما حدث لم يكن سوى سوء فهم سببه الحب؟! الشباب هذه الأيام ليسوا مثلنا!”
أخذ أحد الحاضرين يهدّئ من غلواء من أظهروا عداءهم لبيت الماركيز ساينز قائلاً كلمات مموّهة، بينما راح بعضهم يتهامسون ضاحكين ساخرين وهم يرمقون آل ساينز. وكان واضحاً أنّ الماركيز، الذي اعتاد أن يحيط نفسه بأبنائه ويدافع عنهم، يضطر اليوم لأن يبتلع غصّة مريرة.
“نعم، حين يجنّ الشباب بالحب قد يفعلون أي شيء. أليست هذه من امتيازات الصبا؟”
“بلى، ولا يجوز أن نعيب على نزواتهم لمجرد أننا شخنا.”
“لكن ذلك ينطبق على آنسة ساينز بالذات. فهي لم تترك سبيلاً إلا طرقته لتتبع الدوق بيكمان، وقد بذلت الغالي والرخيص لتصير دوقة، أفلا تطيق أن تزيح خطيبته من الطريق؟”
صراحة هذا النبيل الفائضة جعلت من حوله يتبادلون النظرات المتوجسة، إذ لم يرغب أحدهم أن تصل كلماته إلى أسماع آل ساينز فيجرّوا على أنفسهم المتاعب. لكن لحسن الحظ كان هناك كثيرون يتحدثون علناً بفضول عن كيفية سير ما سُمّي بجلسة “إزالة سوء الفهم”، فلم يلتفت أكثر الناس إلى تلك النبرة العدائية.
“والحق يُقال، من يفوز بكارل بيكمان فقد فاز بالحياة كلّها. المكانة شيء، لكن انظروا إلى هيئته! جمال يجعل حتى الرجال يندهشون. أليس هناك آنسات لم يستطعن إخفاء إعجابهنّ به رغم دموع آنسة بيانكا ومحاولاتها؟”
“دموعها لم تكن عائقاً أمامهن. هاهاهاها.”
كان النبلاء يرمقون كارل من طرف خفي، وهو جالس بوجه خالٍ من أي تعبير، متسائلين في سرّهم: ما الذي يدور في صدره الآن؟ فقد تحدّثت الشائعات مؤخراً أنّه، من شدّة حرصه على مواساة خطيبته المتهمة، حملها بنفسه من القصر إلى العربة، بل واستدعى تجاراً كباراً إلى القصر وبذل أموالاً طائلة لإرضائها.
“لو كنتُ أنا آل بيكمان، لاخترت بلا تردّد الآنسة لويس، سيّدة السيف. أيّ نفع في آنسة لا تجيد سوى الابتسام والبكاء؟”
“ألم تكونوا تقولون سابقاً إنّ الجمال يكفي؟”
“لكن أيّ جمال هذا إذا وُضع في كفّة أمام سيّدة السيف؟”
وبينما كان ضجيج الهمسات يملأ القاعة، أدرك كارل أنّ أكثر مما ظنّ من النبلاء يقفون في صف إيلينا، لا في صف بيانكا. وكان هذا على خلاف ما اعتاده، إذ لطالما كسبت بيانكا القلوب بضحكاتها العذبة. ارتسمت عندها ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يحدّق إلى الأمام.
تصفيق!
ظهر كبير الحجّاب وصفّق بيديه، فارتفعت الأبصار إلى المنصّة. كان ذلك إعلاناً عن دخول الإمبراطور وأفراد الأسرة الإمبراطورية، بل وأطراف القضية أيضاً.
جلس الإمبراطور على المقعد الأعلى، فيما اتخذ وليّ العهد والإمبراطورة والأميرة أماكنهم في مقاعد جانبية. رفع النبلاء أبصارهم بحذر، وبدت على وجوههم أمارات الفضول، خاصة أنّ أطراف القضية لم يدخلوا بعد.
قال الإمبراطور بصوت مزيج من الابتسام والعتاب:
“لقد جرى الإعداد لهذه الندوة على عجل، ومع ذلك حضر الكثيرون. كما تعلمون من الشائعات، فقد وقع في القصر الإمبراطوري قبل أيام حادث هزّ الناس. ولشدّة سرعة الألسن، لم يكد يمضي يوم حتى كانت الأخبار قد ملأت العاصمة.”
ضحك النبلاء بارتباك، وحاولوا صرف أنظارهم حياءً.
وتابع الإمبراطور:
“لقد قدّم آل ساينز شكوى ضد الآنسة إيلينا لويس بتهمة محاولة القتل، غير أنّ الإمبراطورة قدّرت أنّ في الأمر سوء فهم، وطلبت منهم سحب الدعوى. وأنا أرى كما ترى هي: لا أظن أنّ من كان أحد أبطال الحرب الأخيرة، ومن بزغ نجمه بين سيّدي السيف، قد يرتكب فعلاً مشيناً كهذا.”
عندها أدرك النبلاء جميعاً أنّ جلالته لا ينوي أبداً التفريط بهذه السيّدة المباركة الملقّبة بسيّدة السيف. نعم، آل ساينز نافعين، لكن إيلينا التي لم تتجاوز العشرين بالكاد وصارت سيّدة السيف، أثمن من أن تُترك.
لم يكن ثمة دولة تجرؤ على إعلان الحرب على إمبراطورية بهذا الحجم، غير أنّ تبدّل الملوك كما حدث في تينتان مؤخراً قد يجرّ بعض الحماقات، ولذلك كان من الأجدى الحفاظ على علاقة ودّية مع سيّدة السيف بدل الدخول في عداوة معها.
وكذلك، فإن معظم النبلاء المجتمعين في قاعة المناظرة لم يصدقوا إشاعة أنّ إيلينا حاولت قتل بيانكا، وكانوا يأملون أن لا ينحاز الإمبراطور إلى بيت الماركيز لمجرد أنّه بيت الإمبراطورة.
قال الإمبراطور:
“ولهذا السبب اجتمعنا هنا، كي يُزال سوء الفهم بين الطرفين. وربما يرى بعضكم أنّ في هذا الإجراء ما لا يوافق العدل، لكن…”
وهنا توقّف لحظة ليلتقط أنفاسه، وعيناه تمرّان سريعاً على الإمبراطورة.
“لكن لن يكون في الأمر أي إكراه. على كل طرف أن يعبّر عن حجّته، وأن يسعى لقبول ما يُطرح أمامه. وأنتم جميعاً الشهود على ما يجري هنا. فإن لم يُحلّ الخلاف بينهما في هذه القاعة، فلن يبقى إلا أن يتقاضيا أمام المحاكم.”
هزّ النبلاء رؤوسهم إقراراً، فأعلن الإمبراطور ابتداء المناظرة. وعندها تقدّمت بيانكا وإيلينا إلى الأمام.
“أوه…”
لم يملك بعض النبلاء إلا أن يطلقوا شهقة إعجاب حين وقعت أبصارهم على مظهر الفتاتين. وبعد أن انحنتا أولاً للإمبراطور، التفتتا إلى الحضور وأدّتا تحيّة خفيفة. ظلّت العيون مشدودة إليهما لا تتحوّل.
كانت بيانكا ترتدي فستاناً زهرياً باهت اللون، بسيطاً متواضعاً على غير عادتها في الحفلات والاجتماعات، وقد بدا وجهها شاحباً إلى حدّ المرض، يكاد يخلو من الدماء. لم تستعمل زينة تذكر، وكان الإرهاق بادياً على محيّاها. أذرعها النحيلة مكشوفة تحت شال رقيق، مما أضفى على مظهرها هيئة مريضة مثيرة للشفقة. بعض السيّدات الحاضرات نظرن إليها بعطف ظاهر.
وعلى النقيض تماماً، ظهرت إيلينا بزيّ الدوقة الرسمي، وقفت بثبات وبساطة، بلا مساحيق على وجهها، وقد رفعت شعرها عالياً في عقدة واحدة أنيقة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "166"