اتسعت أعين النبلاء من وقع الخبر الصادم، وكان من المستحيل كبح الرغبة في نقله فورًا، وكأن كتمان الأمر يعد أمرًا مريبًا في حد ذاته. نسي الجميع قواعد الهيبة والوقار، وأسرعوا يهرولون لينشروا ما سمعوه ساخنًا كما هو.
“إيلينا، هل أنت بخير؟”
“أظن أنّ ظهري يؤلمني قليلًا… ربما بسبب مشيتي الغريبة قبل قليل.”
“لا بأس. لقد رآك الخدم وبعض النبلاء، وسيشيع مع الخبر أنّك تعرضتِ لصدمة شديدة.”
وما إن جلس الاثنان داخل عربة الدوقية حتى انطلقت بهم. كان كارل يأمل أن تكون ملامحه الدرامية قد بدت مقنعة، فمذ بدأ يتنقّل مع إيلينا، صار يُظهر تعابير وجه لم يعتدها من قبل، حتى باتت تثير دهشة كل من حوله.
“ربما كان يجدر بي أن أذرف دموعًا؟”
“ذاك سيكون مبالغًا فيه.”
قالتها إيلينا وهي تصلح شعرها المبعثر، الذي كان وصيفات الدوقية قد صفّفنه بعناية، فإذا بها تُفسده حين تمدّدت متكاسلة على الأريكة. لكن النتيجة لم تزعجها، فقد أضفت على مظهرها طابعًا صادمًا ومغايرًا، وهذا ما أرادته.
“أتُرى الناس سيُخدَعون بهذا؟”
“ليس بالضرورة أن ينخدعوا. يكفينا أن يزرع الأمر بعض الشك في تحركات الإمبراطورة. والناس أصلًا لم يروا قوّتك مباشرة، فكثيرون يظنون أنّ مكانتك ما هي إلا بفضل دعم الدوقية.”
“صحيح، فقد كان هناك من يتعمّد إثارة المتاعب لأجلي.”
“وهم بالضبط من نستهدفه. أولئك الذين يظنونك ضعيفة. بعضهم سيقول إنك حاولتِ التخلص من آنسة ساينز لغيرتك منها، والبعض الآخر سيعتقد أنّ الإمبراطورة دبّرت لك هذه المكيدة.”
كان كارل يخطط لاستغلال الشائعات التي انتشرت عن إيلينا في المجتمع الراقي. وإن كانت محض أكاذيب، فقلة قليلة فقط تعرف الحقيقة، بينما معظم الناس لا يرون إلا القشور.
“هل عليّ التظاهر بالمرض إذن؟ لستُ بارعة في ذلك، فما مرِضتُ منذ كنت طفلة صغيرة.”
“أنا مثلك. لكنك ستُحالين إلى المحكمة، وحتى صدور الحكم لن يكون التنقّل سهلاً. وبما أنك لا تخرجين كثيرًا أصلًا، فالأفضل أن يظن الناس أنّك مصدومة من الظلم لا مريضة جسديًا.”
“سأخفّف من تدريباتي إذن، وأبقى في غرفتي أكثر.”
“وأنا بدوري سأنقل عملي إلى غرفتك لأبقى قربك وأواسيك…”
“لا، لا يصح أن تتخذني ذريعة لتتراخى عن عملك.”
قاطعته إيلينا بصرامة، مدركة أنّ وجوده إلى جانبها لن يفضي إلى عمل حقيقي.
“ألستِ بحاجة إلى مواساتي إذن؟”
اهتزّت مشاعرها للحظة أمام نظراته الممتلئة بالخذلان. لم يكن يقترح لهوًا، بل مجرد مكوث إلى جوارها. رأت في عينيه البنفسجيتين ظلّ الحزن وفي كتفيه ارتخاءً يوحي بالأسى، فترددت. غير أنها لم تستطع أن تومئ بالموافقة. فهي تعرف أنّه ما إن يبقى بقربها فلن يكتفي بالجلوس صامتًا.
“احتفظ بسلاحك الجمالي لمعارك أخرى.”
أمسك كارل بيد إيلينا وعيناه دامعتان، ثم تمتم بأسف:
«لو ضغطت قليلًا بعد لربما كنتِ ستلينين…».
فأجابته:
«بدلًا من ذلك، ليكن دخولك المتكرر إلى غرفتي ذريعة للاطمئنان عليّ. أما أن تمكث معي طول الوقت، فذلك سيجعلني أبدو في حالٍ أسوأ مما أريد.»
قال كارل وهو يزفر:
«صحيح، لا داعي للمبالغة في الضعف.»
فأضافت:
«وسأحرص بين حين وآخر على استدعاء بعض التجار إلى القصر، بحجة أن يسلّوني.»
ابتسم كارل بعينين متلألئتين:
«أي أنك تريدين القول إنني، عاشق مهموم، سأجلب لك الهدايا لأخفف كربك؟! فكرة رائعة! وهل يوجد أحمق أعظم من رجل غارق في الحب؟ إذن يمكنني انتهاز الفرصة لأشتري لك كل ما رغبتُ فيه من قبل، أليس كذلك؟»
كان صوته مليئًا بالرجاء، وقد أيقنت إيلينا أنّ رفضها مرة أخرى سيجرحه. لذا أومأت برأسها قائلة:
«لكن بقدر معقول.»
—
«جلالتك، لِمَ ترفض إحالة القضية إلى محكمة النبلاء؟!»
رفعت الإمبراطورة صوتها على غير عادتها وهي تخاطب الإمبراطور. لم تستطع كبح الغضب المتأجج في صدرها. صحيح أنّ ما جرى كان من فعل بيانكا الطائش بلا مشورتها، لكنها لم تكن لتفوت هذه الفرصة. لقد كانت حجّة ذهبية لتوجيه الضربة إلى دوق بيكمان وإلى بيت لويس معًا.
أمرت بأن تبقى بيانكا في جناحها لتلقي العلاج. لم يكن في يد الفتاة سوى جرح طفيف من نصل، لكنها تشبّثت بادعاء الانهيار النفسي، وما لبثت أن ذرفت الدموع غزيرة.
مشهدها وهي تبكي بعد أن صنعت بنفسها الفضيحة بدا مضحكًا، لكنه كان مثاليًّا لتلطيخ سمعة إيلينا لويس.
وما إن عادَت إيلينا إلى قصرها حتى بادرت الإمبراطورة باستدعاء وصيفتها، وقدمت شكوى رسمية تتهمها بمحاولة قتل بيانكا ساينز، مدعومة بادعاءات وأدلة صاغتها على عجل.
ثم مع بزوغ الفجر استدعت الصحف إلى جناحها بحجّة الإعلان عن “الواقعة المأساوية التي حدثت في قصرها”. جلست أمامهم بوجه كسير تفيض ملامحه بالحزن، تروي معاناة بيانكا ومرارة انكسار هيبتها. كانت تدرك أنّ بيت الدوق سيحرّك بدوره الرأي العام، لذلك أرادت أن تسبقهم وتكسب زمام المبادرة.
غير أنّ الإمبراطور أبلغها بقرار قاطع: لا محاكمة.
صحيح أن السلطة العليا بيد الإمبراطور، لكن نزاعات النبلاء عادةً ما تُفصل عبر المحكمة. أما الآن فقد تجاوز كل ذلك وأعلن أنّ إيلينا بريئة.
قال وهو يشيح برأسه مستنكرًا:
«الكونتيسة لويس إحدى قلائل السيّافين العظام في الإمبراطورية. أتزعمين أنها حاولت قتل بيانكا ساينز، ابنة الماركيز؟! وما الذي ستجنيه من ذلك؟!»
هزّ رأسه متعجبًا، فهو يعلم أنّ بيت لويس لم ينل لقب الماركيز إلا مؤخرًا. فمهما بلغ اعتدادها بنفسها كسيّافة أسطورية، فلن تقدم على فعل أرعن كهذا. ثم ما حاجتها أصلًا إلى قتل بيانكا؟ لا دافع ولا منفعة. إنما كانت محاولة يائسة من بيانكا، المتعلّقة بكارل حدّ الهوس، لتلصق التهمة بها.
ولم يقلها صراحة، لكن حتى محكمة النبلاء نفسها أعربت عن حرجها وطلبت من الإمبراطور التدخل. لم يرغب القضاة في أن يدخلوا في مواجهة مباشرة مع سيّافة خارقة، ولا في خصومة مع بيت بيكمان.
صرخت الإمبراطورة بانفعال:
«أيعني ذلك أن ابنة أخي تكذب؟! هنالك من شهد كيف أمسكت لويس بمعصمها بعنف!»،
ثم أضافت بعينين تقدحان شررًا:
«لقد استخدمت السيف! في جناحي، على فردٍ من أسرتي! أتريد مني أن أكتفي بالمشاهدة؟! إن كنت تحسب لهيبتي حسابًا، فلا يمكنك أن تفعل هذا بي، يا مولاي!»
لكن الإمبراطور ردّ بهدوء صارم:
«بل إنني أفعل ذلك صونًا لهيبتك. ألستِ تستمدين سلطانك من هذه الإمبراطورية القوية؟ والسيّاف العظيم وحده يعادل في قوته جيشًا بأسره. أتريدين حقًا أن نجعلهم أعداء لنا؟!»
أدركت الإمبراطورة أنّ العاطفة لن تُجدي مع رجل مثله. يظهر للناس وجهًا ودودًا، لكنه في قرارة نفسه لا يزن إلا بمكيال مصلحة الإمبراطورية. إن أردت أن تلوي ذراعه، فعليها أن تواجهه بالمنطق لا بالبكاء.
قالت ببرود:
«أنا لا أطلب أن نعاديهم، لكن هل من ضمان ألا يتكرر مثل هذا الحادث؟! وإن كنت في كل مرة تتذرع بمصلحة الإمبراطورية لتدهس كرامة النبلاء، فمن ذا الذي سيخدم الإمبراطورية طائعًا؟!»
أشارت الإمبراطورة في كلامها إلى أنّ ما جرى قد يوقع الإمبراطور في خصومة مع بيت ساينز. فهذا البيت، الذي اتكأ على ظهرها، تمكّن خلال فترة وجيزة من ترسيخ نفوذ معتبر، إذ تصدّى لخدمة الإمبراطور، عاملًا كيديه ورجليه، مقدّمًا له ما أراد. فمهما بدا أنه يميل لحماية سيّافة عظمى، لم يكن بوسعه أن يتخلى عن آل ساينز بهذه البساطة.
غير أنّ الإمبراطورة لم تعلم أنّ كارل يبيت خططًا ليجتثّها هي وآل ساينز معًا. لذلك لمّحت ببراعة إلى احتمال نشوب معارضة بين النبلاء. عندها رمقها الإمبراطور بنظرة طويلة. بدا له أنّ هذه المرأة لا تدرك أنّها مقبلة على سقوط مدوٍّ.
ذلك أنّه هو الآخر، كان يُعدّ العدّة منذ زمن لعزلها عن العرش. فما إن وُلدت اليزا الصغرى حتى اكتشف أنّ زوجته الراحلة، التي أحبها بصدق، قضت حتفها بسبب هذه المرأة الفظيعة. ولم تفقده وحدها، بل أيضًا الجنين الذي لم يُعرف إن كان ذكرًا أم أنثى، والذي كان ليغمره هو الآخر بالحب.
ومنذ ذلك اليوم أقسم أن يُري الإمبراطورة نهاية حياة بائسة أشدّ من الموت. ولهذا، تعمّد ألّا يعترض طريقها، بل تركها ترتقي إلى أعلى المراتب، ليتضاعف وقع السقوط ساعة الحساب.
قالت الإمبراطورة بصوت مرتجف:
«أتقصد، جلالتك، أن تتخل عن بيانكا؟!»
فردّ ببرود:
«ابنة أخيك ابنة أخي أيضًا. لذا فلفظة “التخلي” ليست في محلها. إنما سأدخُل لأصلح ما بينهما من سوء فهم، ولا أكثر.»
لم يستطع إلا أن يبتسم ساخرًا. حتى هذه المرأة القاسية يظلّ لذويها مكان في قلبها، وقد بدا عليها الأسى وهي تسأله إن كان سيرمي بقريبتها. لكنها نسيت أنّ قريبه الحقيقي كان كارل. كم مرة تغاضى عن اقتحامات بيانكا غير المشروعة لقصر الدوق، وعن تشبثها المستميت بكارل؟
آل ساينز تجاوزوا حدود كل ضمير. أما الماركيز نفسه، فقد كان يتربص بالفرص ليلتحق بروديان، حتى خطط الإمبراطور شخصيًّا لاقتلاعه من جانبه. ولحسن الحظ أنّ روديان واليزا لم يشبها أمهما في شيء. وهذا وحده ما حمله على غضّ الطرف عنهما.
سألت الإمبراطورة بعينين ضيّقتين:
«وما قصدك من هذا الكلام؟»
فأجاب محددًا:
«أقصد أنّني لا أستطيع أن أُعير اعتبارًا للمشاعر الخاصة التي تكنّها بيانكا لابن خالها كارل.»
أطرقت الإمبراطورة وقالت بلهجة متصنعة:
«ولستُ أرجو منكم ذلك. فشؤون القلوب لا تُحكم بالعقل. كل ما أريده أن تنال المذنبة العقاب المستحق على ما جرّته على بيانكا من فاجعة.»
فتبدّل وجهها قليلًا، غير أن باطنها كان مغايرًا تمامًا لظاهرها. فـ”سوء الفهم” الذي تحدث عنه الإمبراطور لا تدري أي معنى يُخفي وراءه. لكنها كانت واثقة من أمر واحد: لن تمرّره مرور الكرام.
لقد أوهمت الحضور بأنّها تقبل كلماته، لكنها في أعماقها لم تجد أي باعث لتسليم قيادها له. كان منظر الإمبراطور وروديان وهما يدافعان عن الدوقية ويميلان إليها يقضّ مضجعها ويمزّق أحشائها.
وفي الختام، قالت بوجه يفيض مسكنة:
«أنا واثقة أنّ جلالتك ستفصل في الأمر بعدل»، ثم انصرفت بملامح حزينة، تخفي خلفها غيظًا عارمًا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "165"