راود إيلينا إحساسٌ مبهم أنّ بيانكا قد تتحرّك قبل الإمبراطورة نفسها.
‘لا أدري كم اتفقتا من قبل، لكن لا أستطيع أن أطمئن حتى يحين وقت العودة.’
“لقد تأخر الوقت بالفعل. ولأننا أمضينا زمنًا طويلًا جلوسًا، فلنختم اجتماعنا بنزهة خفيفة في الحديقة.”
قالت الإمبراطورة وهي تتحقق من الوقت بعد أن مالت الشمس إلى الغروب. كانت حدائق القصر دومًا آيةً في الجمال، إذ صاغها أمهر البستانيين، أما حديقة الإمبراطورة بوجه خاص فقد عُرفت بروعتها في كل مكان.
“لا أدري إن كانت الآنسة لويس بحاجة إلى الذهاب معنا، فقد تجوّلت طويلًا في الحديقة.”
“بالعكس، إنها حديقة خلابة، وأيًّا كان عدد المرّات التي أراها فيها فلن أكفّ عن الإعجاب بها.”
أجابت إيلينا بردٍّ مهذّب على السخرية المبطّنة، وهي راضية عن نفسها لأنها التزمت بما علّمتها غلوريا من أساليب الحديث في المجالس. شعرت بفخرٍ داخلي؛ فقد رأت نفسها تلميذة مجتهدة تعرف كيف تطبّق ما تلقّته من دروس.
لم تتردّد الإمبراطورة، فألقت نظرة خاطفة على إيلينا التي نهضت بخفّة، ثم قالت: “فلننطلق إذن.”
فقامت النسوة جميعًا في مشهدٍ أنيق، واندفعن خلفها كأنهن أفراخ تتبع أمّها.
—
‘حتى لو كانت دعوتها اليوم لمجرّد اختبار تلك المرأة، فإن عمتي كانت متهاونة للغاية.’
خطت بيانكا بخفّة وهي تحدّق في الإمبراطورة.
كان والدها يردّد دائمًا أنّ فضل عمتها الإمبراطورة هو ما رفعهم من مقام الكونتية إلى مقام المركيزية، غير أنّ بيانكا رأت الأمر مختلفًا؛ فالفضل في رأيها يعود إلى مجد آل ساينز أنفسهم. وكانت تستشيط غيظًا كلّما رأت والدها خاضعًا لمشيئة عمتها، لا يعصي لها أمرًا.
لكن ما أزعجها أكثر أنّ عمتها صارت في الآونة الأخيرة تلتقي بأخيها ألبرت على انفراد، بمعزلٍ عن والدها.
‘أنا عليّ أن أطلب مقابلة رسميّة كي تأذن لي بلقائها، أمّا هو فيدخل ويخرج كما يشاء! كم ضاق صدري بتباهيه كلما عاد من القصر.’
“لابدّ أنّكِ محظوظة بزياراتك المتكررة للقصر، فلا شك أنّك تنعمين بمشاهدة هذه الحدائق الساحرة متى شئتِ.”
قالت إحدى الفتيات لها بحسدٍ ظاهر، إذ كانت زيارات بيانكا المتكررة تثير الغيرة بينهنّ. لكن بيانكا، التي ما زالت تضطرم في داخلها بمشاعر النقمة على أخيها، ردّت ببرود نفد صبره.
“بالطبع. الحضور إلى القصر بين حينٍ وآخر أجمل بكثير من الاكتفاء بزيارة يتيمة، فالمرء يألفه ويأوي إليه.”
“أه… صحيح.”
ارتبكت الفتاة التي كانت تميل إليها، وأحسّت بالإهانة حين رأت كيف جعلتها بيانكا تبدو تافهة، عاجزة حتى عن دخول القصر. ومع ذلك، لم تلبث أن أشاحت ببصرها بعيدًا حين لمحت الصرامة تلمع في عيني بيانكا.
‘تافهات لا يستحققن عناء الجدال.’
أحسّت بيانكا بشيء من الرضا وهي ترى منافستها تتراجع. ومنحتها لفتة كرمٍ يسيرة كي تُبقيها في صفّها.
“في المرة المقبلة، قد ندخل معًا إن سنحت الفرصة.”
“أحقًّا؟!”
أشرق وجه الفتاة من جديد، بينما كانت تسترق السمع إلى أحاديث من حولها.
“طبعًا. سأطلب من عمتي أن توجه لك الدعوة.”
“إنكِ حقًّا كريمة القلب يا آنسة بيانكا.”
برغم أنها قبل لحظاتٍ كانت قد جرحَت مشاعرها، فإن الفتاة لم تفوّت فرصةً كهذه لدخول القصر. فأخذت منذ ذلك الحين تجتهد في التقرّب إلى بيانكا. أما بيانكا، فمع سيل النظرات المليئة بالإعجاب التي أحاطت بها، أحسّت أنّ الغضب الذي أثقَل صدرها بدأ يهدأ.
ومع استعادتها لرباطة جأشها، راحت تفكر في أمر إيلينا بهدوء.
‘عمتي محقّة… لو بادرتُ من اللقاء الأول إلى خطوة عدائية، لكان الأمر فاضحًا أكثر مما ينبغي. والجميع يعرف أنني سعيتُ إلى كارل بيكمان بشغف، ثم قلتُ إنني تراجعتُ فقط لأنه وجد خطيبته.’
ذلك الموقف قد أكسبها في الحقيقة نظرات شفقةٍ وتعاطف من كثيرين.
نعم، لقد استرعى قدوم إيلينا اهتمام الناس، لكنّه لم يكن أكثر من فضول تجاه شخصٍ جديد، خاصة وأنها ظهرت خطيبةً للرجل العظيم كارل.
ومع ذلك، ظلّ اهتمام المجتمع منصبًّا عليها، بيانكا ساينز، التي لم ينافسها في سطوتها الاجتماعية إلا غلوريا بيكمان نفسها.
‘لن أصبح دوقة قريبًا، وإن أعرض الناس جميعًا عني فسيظلّ المشهد ممتعًا.’
ابتسمت بيانكا في سرّها، وقد عقدت العزم على نسج فضيحة تطيح بإيلينا من صدارة المجتمع في العاصمة، لتُدفن إلى الأبد فلا تنهض مجددًا. كانت فكرة إسقاطها ببطء، حتى تُنتزع من مقعد الخطيبة نفسها، تمنحها متعة خفيّة.
وأثناء ذلك تظاهرت بأنها تلقي نظرة عابرة على الجمع، قبل أن تُثبّت بصرها على إيلينا التي كانت تتبعهم من الخلف.
“…….”
“آنسة بيانكا؟ ألستِ بخير؟”
سألتها بعض الفتيات اللواتي كنّ يسعين لإرضائها، وقد فزعن من شحوب وجهها المفاجئ.
“أظن أني شعرتُ بدوارٍ من طول الوقوف تحت الشمس.”
ابتسمت بيانكا ابتسامة واهنة لتطمئنهن، ثم أشارت إليهن بالذهاب دونها، مؤكدة أنها بخير. غير أن ارتجاف ذراعها العلني دلّ على شدّة حالها.
عندها التفتت الإمبراطورة التي كانت تمشي في المقدمة، وقالت:
“بيانكا، إن كنتِ متعبة، فالأفضل أن تعودي إلى الداخل. أخشى أن تسقطي.”
لكن بيانكا أجابت بأنها ستكتفي بالجلوس على مقعد في الحديقة قليلًا، وسرعان ما تستعيد عافيتها. بدا التردّد على الإمبراطورة وهي تراها على تلك الحال، غير أنها تراجعت أمام إصرار ابنة أخيها وغادرت مع البقيّة.
وما إن ابتعد الجمع، حتى خفضت بيانكا بصرها تُخفي اضطرابها، وهي تعرف السبب الحقيقي لارتجافها: تصرّف إيلينا لويس.
‘هل يعني هذا أنّني لا أُعَدّ حتى ندًّا لها؟’
حين التفتت إلى الخلف، وجدت إيلينا تنظر إلى ما وراء الحديقة ببرود. بدت كأنها لا تعبأ بشيء، بل ولا حتى بها. وفي اللحظة التي التقت فيها نظراتهما، ولو طرفة عين، أيقنت بيانكا أنها واجهت عينيها مباشرة. لكن إيلينا لم تُبدِ أدنى ردّ فعل.
لقد قرأت بيانكا في تلك العينين الخالية من كل ودّ أو اهتمام ما أصابها في الصميم. فشدّت على فكّيها؛ كان ذاك تمامًا هو النظر الذي اعتاد كارل بيكمان أن يخصّها به: نظرة خاوية من كل رجاء، نظرة لا ترى فيها أي قيمة لإنسان.
‘إيلينا لويس تجرؤ أن تحدّق في وجهي بالبرود نفسه… نظرة شبيهة بنظرته!’
“آنسة لويس، أيمكنك مساعدتي قليلًا؟”
قالتها بيانكا بنبرة هادئة، رغم أن باطنها كان في فوضى. جلست متماسكة، تستردّ أنفاسها، وعينيها تُطلقان بريقًا غريبًا وهي تتشبّث بإيلينا المارّة.
“ما الأمر؟”
سألتها إيلينا وقد انعكس الاستفهام صريحًا في عينيها الفارغتين من أي عاطفة. وشعرت بيانكا لأول مرة منذ لحظات أنّ غصّتها بدأت تهدأ، بل وأحسّت أنّ رؤية وجهٍ ممتقع بالذهول والمهانة أمامها كفيل بأن يريحها أكثر.
تحجّجت بيانكا سريعًا، فيما كانت أصابعها تلمس في جيب فستانها الخفي برودة الخنجر الصغير. ثم أضافت بصوت ملحّ:
“أرجوكِ، قدّمي لي هذه المساعدة.”
تأمّلتها إيلينا بدهشة، وهي تفكّر: لقد شعرت طوال الحفل بنظراتها المترصّدة، تعرف يقينًا أنّها لم تكن نظرات حياد بل اشمئزاز دفين، نظرات شخص يكرهها حتى العظم.
‘لا، الأمر ليس مجرّد رغبة في العودة إلى الداخل. لعلّها تريد محادثة ما، لكن على طريقتها المتعالية.’
وفيما تردّدت إيلينا في الرد، بدا القلق واضحًا على وجه تيا التي كانت إلى جانبها. فقد علمت أنّ من ارتبط اسمُه ببيانكا لا يخرج سالمًا قط. كم من أشخاصٍ اختفوا من المجتمع بلا أثر بعد احتكاكهم بها!
“تيا، لم تقولين إنكِ رغبتِ في التجوّل بالحديقة؟ الحين هي فرصتكِ.”
قالت بيانكا مشيرةً إلى بقية الجمع. ابتلعت تيا ريقها، ثم نظرت إلى إيلينا كأنها تستأذنها.
“إن كانت إيلينا وحدها، فقد يصعب عليها الأمر، لذا سأطلب مساعدة من الأخريات.”
“لا، آنسة. لستُ بحاجة إلى مساعدة أحدٍ آخر.”
شعرت تيا وكأن عيني بيانكا تومضان بضياءٍ أحمر مخيف. عندها ربتت إيلينا بخفة على ظهر يدها المرتجفة، كأنها تهدّئها.
“تيا، سأهتمّ بالأمر بنفسي. لا تقلقي، واذهبي للتجوّل في الحديقة مع البقيّة.”
ترددت تيا لحظة، تنقل بصرها بين إيلينا وبيانكا، ثم حسمت أمرها وأحنَت رأسها نحو بيانكا قائلة:
“آنسة، يبدو أن صحتك ليست على ما يرام. الأفضل أن تعودي وتستريحي جيّدًا. أرجو أن أراكِ بخيرٍ في المرة القادمة.”
“كفى! اذهبي فحسب.”
انفجرت بيانكا بصوت حاد وقد بلغ توتّرها ذروته، فارتجفت تيا وفتحت عينيها بدهشة، ثم التفتت بقلق نحو إيلينا.
فقالت إيلينا بهدوء:
“أخبري جلالة الإمبراطورة أن آنسة ساينز متوعكة وستعود قبل الجميع.”
“نعم! نعم، سأخبرها بالتأكيد!”
أسرعت تيا بخطوات متعجلة وهي ترفع طرف ثوبها قليلًا حتى اختفت عن الأنظار. عندها التفتت إيلينا نحو بيانكا وقالت:
“حسنًا إذن، آنسة ساينز. فلنعد إلى جناح جلالة الإمبراطورة. حقًا، ملامحك لا تبدو بخير.”
“ها… ما أوقحك.”
تمتمت بيانكا وهي شاحبة الوجه. كانت إيلينا تعاملها بلطف رغم كل شيء، وحتى إن كانت ترفضها في قلبها، إلا أن رؤية ملامحها القريبة من الانهيار نزعت منها الرغبة في أي مواجهة حقيقية.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "162"