فتح باب الزنزانة بصريرٍ طويلٍ، ودخل الحارس وهو يحمل مصباحاً ضعيف الإضاءة.
ضوء النهار المؤلم دخل فجأة إلى الزنزانة المظلمة، مما جعل جين تغمض عينيها المؤلمتين من شدة الحساسية.
“سيدتي الدوقة… لقد أُمرنا بإطلاق سراحكِ.” قال الحارس بصوت خشن.
لم ترد جين. فقط رفعت رأسها ببطء، عيناها حمراوان من البكاء والتعب.
شعرت كأن جسدها قد تحول إلى حجر، كل حركة تؤلمها.
نهضت بمساعدة الحارس، لكن ساقيها المرتعشتين رفضتا حملها.
سقطت على ركبتيها، فأمسك بها الحارس قبل أن تسقط تماماً.
“دعني… أستطيع الوقوف.” همست بصوت أجش.
لكنها لم تستطع. في النهاية، جاءت خادمة شابة وساعدتها على المشي.
الممرات الطويلة للقصر بدت وكأنها لا تنتهي. كل خطوة كانت كأنها تمزق جسدها الضعيف. الخدم الذين مروا بهم توقفوا لينظروا إليها بنظرات مختلطة بين الشفقة والخوف.
وصلت أخيراً إلى غرفتها، ذلك المكان الذي اعتادت أن تشعر فيه بالأمان.
لكن الآن، حتى رائحة العطر المألوفة بدت غريبة عنها.
“سيدتي… سأبقى معكِ حتى—”
“لا.” قطعتها جين بصوت ضعيف لكن حازم. “أريد أن أكون وحدي.”
“لكن حالتكِ”
“ارجعي!” صرخت جين فجأة، ثم انهارت في البكاء.
تراجعت الخادمة مذعورة، ثم أغلقت الباب بهدوء خلفها.
سقطت جين على الأرض أمام الباب، دموعها تنهمر كالنهر الجارف. ضغطت يديها على صدرها، وكأنها تحاول منع قلبها من الانفجار.
“لماذا؟ لماذا فعل بي هذا؟”
كل الذكريات عادت إليها: نظراته الباردة، يديه حول عنقها، صوته وهو يتهمها… ثم تلك الأيام الثلاثة في الظلام.
نهضت أخيراً، متكئة على الحائط. نظرت إلى نفسها في المرآة: شفتاها متشققتان، عيناها منتفختان، وعنقها ما زال يحمل آثار أصابعه.
‘أنا…
لم أعد أعرف حتى من أنا.’
سحبت جين نفسها إلى الحمام، حيث كان حوض الاستحمام الرخامي يلمع تحت ضوء الشموع.
فتحت الصنبور بيد مرتعشة، وملأت الحوض بالماء الدافئ.
ألقت بنفسها في الماء، وكأنها تحاول أن تغسل أكثر من مجرد وسخ الجسد. غرقت تحت السطح، تاركة فقاعات الهواء تتصاعد حولها.
‘ربما لو بقيت هكذا… ربما سيكون الأمر أسهل.’
لكن غريزة البقاء جعلتها تطفو مجدداً.
خرجت من الماء وهي تلهث، ثم انفجرت في البكاء مرة أخرى.
بعد ساعة، خرجت من الحمام، جسدها منهك لكنه نظيف أخيراً.
ارتدت ثوب نومها الأبيض، ثم زحفت إلى سريرها.
ذلك السرير الواسع الناعم الذي لم تنم فيه منذ أيام. ألقت بنفسها عليه، وغطت في نوم عميق فوراً.
لكن حتى في نومها، كانت الدموع تنزلق من عينيها المغلقتين.
***
في مكتبه، وقف الدوق أوتيس عند النافذة الكبيرة، يحدق في الفناء الأمامي للقصر. يداه كانتا وراء ظهره، وعيناه غائرتان من الأرق.
ثم رأى شيئاً جعله يتجمد في مكانه.
في الأسفل، كانت جين تسير بصعوبة، محاطة بحارس وخادمة يدعمانها.
حتى من هذه المسافة، يمكنه رؤية كيف كانت شاحبة، وكيف كانت ترتجف مع كل خطوة.
‘هكذا… هكذا أصبحت؟’
دق الباب فجأة، ودخل كبير الخدم.
“سيدي… لقد أُطلق سراح الدوقة كما أمرت.”
“أعرف.” قال أوتيس دون أن يلتفت.
“هناك شيء آخر… لقد رفضت تناول الطعام طوال الأيام الثلاثة. الخادمة تقول أنها بالكاد تستطيع الوقوف.”
انقبضت يد أوتيس خلف ظهره.
“احضر… احضر بعض الطعام. شيئاً خفيفاً. سآخذه بنفسي.”
نظر كبير الخدم إليه بدهشة، لكنه انحنى وغادر بسرعة.
بقي أوتيس وحيداً مع أفكاره المتناقضة.
‘هي مذنبة… لا بد أنها مذنبة!’
لكن صورة جين الضعيفة لم تغادر عينيه.
حمل أوتيس صينية الطعام، وذهب إلى غرفة جين. فتح الباب بهدوء، ليجدها نائمة.
كانت تنام في وضع الجنين، يداها تضمان وسادة، ودموعها الجافة لا تزال مرئية على خديها.
وضع الصينية على الطاولة، ثم اقترب منها ببطء.
رفع يده، ومسح بإبهامه آثار الدموع من وجهها.
‘ما الذي أفعله؟’
فجأة، انتفض كما لو لسعته نار.
“لا… لا يمكن أن أشفق عليها. هي مجرد عاهرة شريرة.” همس لنفسه.
أغلق الباب بعنف خلفه وهو يغادر، مما جعل جين تستيقظ فزعة.
جلست في السرير، تنظر حولها في حيرة. ثم شمت رائحة الطعام.
نظرت إلى الطاولة، حيث كانت الصينية الموضوعة حديثاً.
‘لابد أنها الخادمة…’
زحفت إلى الطاولة، وبدأت تأكل ببطء، بينما دموع جديدة تنهمر على طبقها.
***
كان ضوء الصباح الذهبي يتسلل عبر نوافذ قاعة الطعام الكبيرة، حيث جلس الدوق أوتيس بمفرده أمام طاولة طعام فاخرة.
أصابعه كانت تدق بإيقاع متوتر على سطح الطاولة المصقول بينما عيناه تتجهان بين الحين والآخر نحو الباب الكبير.
فجأة، انفتح الباب ببطء لتدخل إيريس بخطوات خفيفة.
وجهها كان مشرقاً بالصحة والعافية، وشعرها البني المموج يتدلى على كتفيها بإطار أنيق.
“أوتيس! صباح الخير!” نادت بفرح وهي تقترب من الطاولة.
نهض الدوق فوراً، عيناه تتسعان من الدهشة. “إيريس! ما الذي تفعلينه هنا؟ كان عليكِ أن تستريحي أكثر!”
أومأت إيريس برأسها وهي تبتسم. “أنا بخير تماماً الآن. في الحقيقة، يجب أن أعود اليوم إلى قصر عائلتي. لقد تأخرت كثيراً هنا.”
جلس أوتيس مجدداً “كما تريدين. لكني آمل أن تكوني قد استعدتِ قوتكِ تماماً.”
أثناء تناولهم الإفطار، رفعت إيريس عينيها نحو الكرسي الفارغ المقابل لها. “أين… أين جين؟ لماذا لم تنزل لتناول الطعام معنا؟”
تجمد أوتيس للحظة، ثم استدار نحو أقرب خادمة. “اذهبي وأخبري الدوقة أننا ننتظرها على الإفطار.”
بعد دقائق من الانتظار، عادت الخادمة بخطوات متعثرة. “سيدي… الدوقة تقول أنها… أنها لا ترغب في النزول.”
رفعت إيريس حاجبيها باستغراب. “هذا غريب. هل هي مريضة؟”
“هذا لا يهم.” قطع أوتيس الحديث بسرعة. “تناولي طعامكِ، إيريس. لا داعي للقلق.”
لكن نظرات إيريس المتسائلة لم تتوقف، حتى أنها حاولت تغيير الموضوع عدة مرات، لكن الفضول كان يقتلها.
بعد الانتهاء من الإفطار، وقفت العربة الفاخرة أمام القصر جاهزة لرحيل إيريس.
عند البوابة الرئيسية، احتضنت إيريس أوتيس بحرارة، ثم وضعت قبلة خفيفة على خده.
“اعتنِ بنفسك، أيها الدوق العزيز.” همست بابتسامة.
ابتسم أوتيس لها، لكن ابتسامته لم تصل إلى عينيه. “سافري بسلام. سأزوركِ قريباً.”
بينما كانت العربة تتحرك مبتعدة، التفت أوتيس ليعود إلى القصر، وفجأة… وقعت عيناه على شرفة في الطابق العلوي.
هناك، واقفة خلف الستائر الشفافة، كانت جين تنظر إليه بنظرة لا يستطيع تفسيرها.
عندما التقت عيناهما للحظة، استدارت جين فوراً واختفَت داخل الغرفة، تاركة الستائر تتهاوى خلفها.
شعر أوتيس بوخز غريب في صدره.
الأيام التالية مرت بطريقة غريبة. جين لم تنزل لتناول أي وجبة. لم تظهر في أي مكان عام في القصر. حتى الخدم بدأوا يهمسون عن كيف أن الدوقة لم تعد تغادر غرفتها إلا نادراً.
في وقت الغداء، كان أوتيس يجلس وحيداً على رأس طاولة الطعام الفاخرة، عيناه تتجهان بين الحين والآخر نحو الكرسي الفارغ المقابل له.
“سيدي…” همس كبير الخدم، “الدوقة تطلب أن يتم إرسال وجباتها إلى غرفتها.”
أغلق أوتيس عينيه للحظة. “افعلوا كما تريد.”
حتى عند العشاء، عندما كان القصر يغرق في صمت ثقيل، كان أوتيس يجلس بمفرده، كأس النبيذ الأحمر بيده، محدقاً في الفراغ.
(لماذا يشعر بهذا الشعور الغريب؟ لماذا يهتم؟)
لكن كلما حاول إقناع نفسه أنها مجرد عاهرة، وأن ما فعله كان ضرورياً، كلما عادت إليه صورة عينيها وهي تنظر إليه من الشرفة.
تلك العيون التي كانت ممتلئة بالألم… ولكن دون كراهية.
في احدى الليالي ، بينما كان أوتيس يسير في الممرات المظلمة للقصر، توقف فجأة أمام باب غرفة جين. يده ارتفعت كما لو كانت ستطرق، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة.
(ماذا سيقول لها؟ كيف يمكنه حتى أن يبدأ؟)
بدلاً من ذلك، تنهد بعمق وابتعد، تاركاً المسافة بينهما تزداد أكثر من أي وقت مضى.
***
في غرفتها المعتمة، جلست جين على حافة النافذة العريضة، عيناها تحدقان في الأفق البعيد حيث تلتقي السماء بأشجار الغابة الكثيفة.
أصابعها النحيلة كانت تعبث بلا وعي بطوق الستارة المخملي.
‘لماذا يبدو أن القصة مصممة لتتكرر؟’ تساءلت في صمت.
‘مهما فعلت، مهما حاولت، النهاية تبقى نفسها…’
أغلقت عينيها المتعبتين، مستذكرة كل الأحداث منذ وصولها إلى هذا العالم.
الإهانات، الظلم، ذلك الشعور الدائم بأنها مجرد دمية في مسرح كبير.
‘لا… لا يمكنني الاستمرار هكذا. يجب أن أجد مخرجاً.’
فتحت عينيها فجأة، نظرة الحزم تتوهج في أعماقها.
بدأت ترسم خطة في ذهنها، كل تفصيلة محسوبة بعناية. الطرق السرية في القصر التي اكتشفتها خلال تجوالها، مواعيد تبديل الحراس، حتى أفضل وقت للهرب تحت جنح الظلام.
‘ثلاثة أيام… فقط ثلاثة أيام وأستطيع الهرب إلى الأبد.’
في تلك اللحظة، سمعت طرقة خفيفة على الباب. “سيدتي الدوقة؟”
“ادخلي.” قالت جين بصوت أجش.
دخلت الخادمة ، وهي تحمل رسالة مزينة بالشمع الملكي. “سيدتي، هذه دعوة من القصر الإمبراطوري. حفلة في نهاية الأسبوع القادم.”
أخذت جين الرسالة بيد مرتعشة، فتحتها ببطء. عيناها اتسعتا وهي تقرأ المحتوى. الدعوة موجهة لها وللدوق معاً.
“و… ماذا قال الدوق؟” سألت وهي تحاول إخفاء ارتعاش صوتها.
“أمرني أن أخبركِ أن نذهب للتسوق غداً، سيدتي. لشراء فستان للحفلة.”
شفتا جين ارتختا للحظة. ‘هذا مستحيل! كيف سأذهب معه بعد كل ما حدث؟’
لكن فجأة، خطرت لها فكرة. ‘الحفلة… قد تكون فرصتي المثلى للهروب! كل النبلاء سيكونون هناك، الفوضى، الزحام…’
“حسناً.” قالت بهدوء. “سنذهب غداً.”
في صباح اليوم التالي، وقفت جين مع الخادمة في أشهر متجر أزياء في العاصمة.
الحراس يقفون على مسافة محترمة عند المدخل.
“هذا الفستان جميل، سيدتي!” قالت الخادمة بحماس وهي ترفع ثوباً من الحرير الأزرق.
لكن جين هزت رأسها. “لا… ليس ما أبحث عنه.”
طافت بين الأرفف، تلمس الأقمشة بلا حماس. كل الفساتين بدت لها متشابهة، باهتة، كأنها مجرد نسخ مكررة من بعضها.
فجأة، وقعت عيناها على زاوية تحتوي على لفات من الأقمشة الفاخرة.
اقتربت ببطء، أصابعها تمتد لتلمس قطعة من الحرير الأسود المرصع بخيوط فضية رفيعة.
‘هذا… هذا ما أحتاجه.’
“سآخذ هذه.” قالت فجأة، صوتها أكثر حيوية مما كان منذ أسابيع. “وبعض أدوات الخياطة أيضاً.”
نظرت إليها الخادمة بدهشة. “لكن سيدتي… أتريدين أن تخيطي فستانكِ بنفسكِ؟”
ابتسمت جين لأول مرة منذ فترة طويلة. “نعم. لدي… فكرة محددة في ذهني.”
أكملت جين تسوقها بخطوات أخف، اشترت بعض المجوهرات البسيطة، إبراً وخيوطاً خاصة، وحتى حقيبة صغيرة من الجلد الناعم. كل شيء كان جزءاً من خطتها.
عند العودة إلى القصر، حملت الخادمة الأغراض بينما كانت جين تحمل لفة القماش الأسود بحرص، كأنها كنز ثمين.
“هل تحتاجين مساعدة في الخياطة، سيدتي؟” سألت الخادمة وهي تضع الأغراض في الغرفة.
“لا شكراً.” أجابت جين بلطف. “أريد أن أفعل هذا بنفسي.”
بعد أن غادرت الخادمة، نشرت جين القماش على الطاولة الكبيرة، بدأت تقص وتخيط بتركيز شديد.
بينما كانت تعمل، كانت تخطط في ذهنها لكل التفاصيل. الفستان لن يكون مجرد ثوب للحفلة… بل سيكون تذكرة هروبها.
في زاوية الغرفة، كانت الحقيبة الجلدية الصغيرة تنتظر، بداخلها بعض المجوهرات الثمينة التي يمكن بيعها، وخريطة صغيرة للطرق خارج العاصمة.
لكن بينما كانت تخيط آخر غرزة في الفستان الأسود المرصع بالفضة، لم تلاحظ أن عيناها امتلأتا بالدموع.
دموع على كل الألم، كل الظلم، وربما… على شيء آخر لم تكن مستعدة لمواجهته بعد.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 7"