ساد الصمت في القصر بعد لحظات الفوضى، لكن توتره ظل عالقًا في الهواء، أثقل من أي صرخة.
أمام الغرفة التي وُضعت فيها إيريس، كانت جين واقفة كأنها تمثال، يداها متشابكتان، نظراتها مبللة بالقلق، وقلبها يدق بعنف.
الخدم يمرّون مسرعين، يفتحون الأبواب ويغلقونها، يهمسون ويشيرون، ولكن أحدًا لا يلتفت إليها.
كانت معزولة، كأنها منبوذة من الجميع. لم يجرؤ أحد أن يقترب، وكأن التهمة التي أُلقيت عليها قد ثبتت دون محاكمة.
ثم جاء الطبيب، رجل مسنّ يرتدي معطفًا داكنًا، يحمل حقيبة طبية ثقيلة، ووجهه مشدود بتجاعيد قلقة. دخل الغرفة دون أن ينظر نحو جين.
مرت دقائق طويلة كأنها دهر، قبل أن تُفتح أبواب الغرفة مجددًا، ويخرج منها الطبيب برفقة خادمتين تلوّنان وجهيهما بالقلق.
جرت جين نحوه بخطوات مرتبكة.
“سيدي الطبيب! كيف حالها؟ ما الذي حدث؟”
توقف الرجل، نظر إليها لحظة، ثم أجاب بصوت منخفض:
“لقد كانت نوبة تسمم … لكنها بخير الآن، استجابت للعلاج.
حالتها مستقرة، لكنها بحاجة إلى الراحة والمراقبة.”
“تسمم؟” كررت جين، وشحب وجهها فجأة.
“أجل.” أومأ الطبيب، “السبب غير واضح بعد، لكن لا داعي للذعر الآن. الأهم أنها على قيد الحياة.”
كادت جين تسقط على الأرض من هول الصدمة. ‘تسمم…؟ مستحيل. لم تلمس شيئًا، لم تضع شيئًا! كيف؟ لماذا؟’
رفعت عينيها نحو الباب المغلق، قلبها يغلي، وركبتيها ترتجفان.
ثم اقتربت بخطوات بطيئة وقلقة، وطرقت الباب بلطف، يدها ترتعش.
“دوق أوتيس… أرجوك… أيمكنني الدخول؟”
لم يصلها رد.
ثم، وببطء، فتحت الباب، ودخلت.
كانت الغرفة معتمة نسبيًا، الستائر مسدلة، والهواء ثقيل برائحة الأدوية والعطر الخفيف. على السرير، كانت إيريس مستلقية، وجهها شاحب، والتنفس يعلو ويهبط ببطء.
وعند حافة السرير، جلس أوتيس، منحنٍ نحوها، يمسك بيدها بين يديه، ووجهه مدفون في كفها كأنما يتوسلها أن تعود.
“دوق أوتيس…” همست جين، وصوتها بالكاد يُسمع.
رفع رأسه ببطء.
كانت عيناه حمراوين، والدموع متجمعة فيهما، لكن خلف تلك الدموع، كان غضبه يتقد كالنار.
“أنتِ…” قال بصوت خافت لكنه مشحون بالغضب، “كيف تجرئين على الدخول؟”
خطت خطوة أخرى، تتوسل بعينيها.
“أنا فقط أردت أن أطمئن عليها…”
في لحظة، وقف أوتيس . خطا نحوها بخطوات ثقيلة، كأن الأرض تهتز تحت قدميه.
“تطمئني؟ بعد أن كدتِ تقتلينها؟!” صرخ، صوته يشق الغرفة.
“أنا لم…” تكلمت جين، لكن صوته قاطعها.
“مشكلتكِ معي!” قال، ورفع يده فجأة، قبض على معصمها بقوة، شدّها نحوه، وجهاهما على بُعد أنفاس. “إن كان لك ضغينة، فخذيها مني. لكن ما ذنب إيريس؟ فتاة طيبة، جاءت إليك بحسن نية… لماذا؟ لماذا آذيتها؟!”
“أنا أقسم…” همست جين، تتألم من قبضته، “أنا لم أفعل شيئًا!”
“كاذبة!” صرخ بها، وعيناه تشتعلان كأنما يرى فيها عدوًا.
ثم، دون مقدمات، رفع يديه، ولفّها حول عنقها.
“أخبريني الحقيقة!” زمجر، وضغط بأصابعه.
شهقت جين، رفعت يديها تمسك بمعصميه، تحاول دفعه، لكن قبضته كانت حديدية. شعرت بالهواء ينقطع، بعينيها تغبشان، وبصوت قلبها يتباطأ.
‘لا… ليس هكذا…’
ركبتاها تخلتا عنها، وبدأت تنهار، لكنها لم تقدر حتى على السقوط.
كانت عالقة في يده، كدمية لا حول لها.
ثم… في اللحظة الأخيرة، حررها.
سقطت على الأرض، تلهث بعنف، تمسك بعنقها، تسعل بقوة، والدموع تتدفق من عينيها.
رفعت رأسها، نظرت إليه.
“لم… أفعل… شيئًا…” تمتمت بصوت متقطع.
كان يقف فوقها، أنفاسه ثقيلة، وعيناه مليئتان بالكراهية.
“سأجعلكِ تندمين.” قال بصوت جليدي، ثم صرخ: “أيها الحراس!”
دخل اثنان من الحراس بسرعة، وجفلا حين رأوا جين على الأرض، وجهها شاحب، وعنقها عليه آثار ضغط.
“خُذوها إلى الزنزانة.” أمر أوتيس دون أن يلتفت إليهم.
تبادل الحراس النظرات، مترددين.
“لكن سيدي… إنها دوقة…”
“قلت خذوها!” صاح، والعروق بارزة في جبينه.
انحنى الحراس، وسحبوا جين من ذراعيها، رغم مقاومتها.
“لا… لا، أرجوك! أنا لم أفعل شيئًا! صدقني!”
صرخت وهي تُسحب، تحاول التملص، عيناها متوسلتان.
لكنه لم ينظر إليها.
عاد إلى السرير، جلس بجانب إيريس، أمسك بيدها من جديد، كأن لا شيء آخر في العالم يستحق انتباهه.
“أوتيس!” صرخت جين، “انظر إلي! أرجوك… صدقني!”
لكن الباب أغلق خلفها.
وانتهى كل شيء بصوت القفل يُغلق.
***
بعد أن أُغلقت أبواب غرفة إيريس، وقف أوتيس للحظة في مكانه، كأنما يسكنه إعصار هائج لا يعرف أين يتجه.
قبضته ما تزال مشدودة رغم أنها لا تمسك شيئًا، ووجهه متصلب، يتنفس بصعوبة.
لكن داخله… كان يتشقق.
خرج من الغرفة بخطوات ثقيلة، صوته الجليدي يأمر الخادم عند الباب:
“اجمع لي الطهاة فورًا. وكل من كان له علاقة بإعداد مائدة الشاي في الحديقة.”
“حالًا يا سيدي.”
بعد أقل من نصف ساعة، اجتمع خمسة أشخاص في غرفة الاستجواب الصغيرة داخل القصر.
الطهاة، الخادمة المكلفة بتقديم الشاي.
جلس أوتيس على الكرسي الجلدي في صدر الغرفة، بينما وقف الحاضرون في صف واحد، رؤوسهم منخفضة، والقلق ظاهر على وجوههم. خلفه وقف أحد قادة الحرس، يدوّن الملاحظات.
“أعيدوا عليّ ما حدث بالتفصيل.” قال أوتيس بنبرة جامدة.
تقدمت الخادمة أولًا، ارتجف صوتها وهي تتحدث:
“كنتُ أنا المسؤولة عن تحضير الطاولة في الحديقة، يا سيدي. طلبت الآنسة جين أن نقدم شاي الفانيليا وكعك الفواكه… الكعك كان قد أُعدّ مسبقًا في المطبخ.”
“من أعدّ الكعك؟” سأل بنبرة أكثر حدة.
أجاب أحد الطهاة، رجل أصلع في منتصف العمر
“أنا يا سيدي. استخدمت الوصفة المعتادة… مزيج من التوت والفراولة وبعض المكسرات. لم يُطلب مني أي تعديل خاص.”
“هل أُضيف شيء غير معتاد؟”
“لا يا سيدي، أقسم بذلك.”
صمت أوتيس، لكن فكيه كانا مشدودين بقوة.
“وهل كانت جين الدوقة قريبة من الطاولة أثناء التحضير؟ هل لمست شيئًا؟”
ترددت الخادمة، ثم قالت:
“لا… كانت جالسة طوال الوقت، تتجنب حتى النظر للطاولة.
في الحقيقة، بدا عليها التوتر، لكنها لم تقترب.”
رفع أوتيس يده إشارة للتوقف، وأغمض عينيه للحظة.
كل شيء كان يقول إن جين بريئة… لكن، ماذا عن نظرتها؟ عن نبرتها؟ عن كرهها الواضح لإيريس؟
هل يمكن أن تكون تمثّل؟ وهل يعقل أنه أخطأ؟
صورة جين وهي تنهار بين يديه، تسعل وتحاول التنفس، كانت تطارده كظل لا يرحل.
نهض فجأة.
“اخرجوا جميعًا.”
“سيدي؟” همس القائد.
“قلت اخرجوا!”
خرج الجميع بسرعة، يتهامسون في قلق.
وبقي أوتيس وحده، يحدق في الفراغ، يضغط أصابعه على صدغه.
كان بحاجة إلى إجابة حاسمة… وكان قلبه يأبى تصديقها.
***
مرت ثلاثة أيام.
ثلاثة أيام في ظلام دامس، لا يُسمع فيه إلا أنين الريح بين شقوق الحجارة، وصوت قطرات الماء وهي تتساقط من السقف المهترئ.
كانت الزنزانة باردة، رطبة، لا تدخلها الشمس. الحجارة المبللة تحت جسدها وكأنها تنبض بالوحشة، والغبار المتراكم كأنه غبار النسيان.
في الزاوية، كانت جين جالسة، ركبتيها تضمّان صدرها، وذراعيها تحيطان بنفسها كمن يتشبث بآخر ما يملكه من دفء أو عقل.
وجهها شاحب إلى درجة لا تُصدّق، وعيناها منتفختان من البكاء.
لم تأكل، لم تنم، لم تتكلم. فقط تبكي.
بصوت خافت، متقطع، كانت تهمس لنفسها:
“أنا لم أفعل شيئًا… لم أفعل شيئًا…”
فتحت باب الزنزانة صريرًا ثقيلًا، ودخلت خادمة شابة تحمل طبقًا صغيرًا فيه خبز يابس وماء.
وقفت للحظة تنظر إلى جين بشفقة، ثم اقتربت بهدوء، وجلست القرفصاء قربها.
“سيدتي… من فضلك، عليك أن تأكلي شيئًا. لقد مرّت ثلاثة أيام…”
لم تجب جين، فقط أدارت وجهها للجهة الأخرى.
“أعلم أنكِ خائفة… وأن الأمر ليس عادلًا.” قالت الخادمة بصوت مكسور.
“لكن إن واصلتِ رفض الطعام، ستسقطين مريضة. جسدكِ بالكاد يقوى على التنفس.”
رفّت جفون جين، وبالكاد فتحت عينيها، قالت بصوت أجش
“هل… أخبروكِ أنني حاولت قتلها؟”
ترددت الخادمة، ثم همست
“الجميع يقولون أشياء كثيرة… لكن لا أحد يعرف الحقيقة، سيدتي.”
“ولا أحد يهتم أن يعرف.” تمتمت جين.
نظرت إليها الخادمة بحزن، ووضعت الطبق على الأرض بقربها.
“سأترك الطعام هنا، فقط… فكّري في نفسك. لا أحد يستحق أن يُهمل نفسه بهذا الشكل… أرجوكِ.”
ثم انسحبت ببطء، وتركَت الباب يُغلق بصوتٍ أجوفٍ، كأنه يُغلق على روح جين نفسها.
وعادت الوحشة من جديد، تزحف في الزوايا، وتبتلع الصمت الموجع.
***
كان الضوء يتسلل ببطء عبر الستائر، ليكشف عن غرفتها التي كانت مليئة بالزهور الميتة والألوان الباهتة.
إيريس استفاقت ببطء، رافعةً جفنيها المثقلين، قبل أن تتفاجأ بحالة الغرفة حولها.
شعرت بشيء من الإرهاق الشديد، وعندما حاولت أن ترفع نفسها عن السرير، شعرت بدوار خفيف جعلها تعود للراحة مجددًا.
وبينما هي تهمس لنفسها بألم، دخل الدوق أوتيس الغرفة، وكان يبدو أكثر قلقًا مما كانت عليه إيريس، عيونٌ محمرة من السهر.
رآها مستيقظة، فاقترب منها بسرعة، وقام بحني رأسه ليهمس لها بصوت هادئ ومقلق في نفس الوقت:
“إيريس، يجب أن تستريحي أكثر. حالتكِ لم تتحسن بعد.”
إيريس حاولت الجلوس على السرير، ولكنها شعرت بضعفٍ في جسدها.
نظر إليها أوتيس بشفقة، ثم جلس إلى جانبها على السرير، يضع يده على يدها بلطف.
“لاكن أين هي ؟” سألته إيريس، عيونها تبحث عن جواب.
“من تقصدين؟” رد أوتيس بحذر.
“جين.” همست إيريس. “لم أراها في الغرفة… ماذا حدث؟ لابد انها متوترة مما حدث “
صمت أوتيس لحظة، ثم تنفس بعمق قبل أن يجيب بصوت منخفض:
“لا داعي للقلق بشأنها… إنها ستأخذ عقابها.”
لكن إيريس، التي كانت لا تزال في حالة من الذهول، شعرت بصدمة الكلمات التي خرجت من فم أوتيس. “عقاب؟ لماذا؟”
تبدل تعبير وجهه لحظة، لكن عينيه امتلأتا بغضبٍ مختلط بالقلق. “لقد كانت جزءًا من مؤامرة لتسميمك.”
أوتيس كان يتجنب النظر إليها، وأعينه تغطيها سحابة من الحيرة.
ثم قال بصوت بارد: “لقد كانت تحمل ضغينة ضدكِ، إيريس. ولهذا فعلت ذلك.”
لكن إيريس هزت رأسها بسرعة وقالت بصوت يملؤه القلق: “لا! هذا ليس صحيحًا! لم يكن تسممًا… كنتُ… أعاني من حساسية شديدة تجاه الفراولة، وكانت تلك الكعكة تحتوي عليها. لم أستطع أن أميز ذلك حتى كان الأوان قد فات…”
توقف أوتيس عن التنفس للحظة، ثم نظر إليها كما لو أن الحقيقة أخيرًا صدمت عقله.
“حساسية…؟” قال باندهاش، وفجأة، ظهر أمام عينيه شكل جين وهي تكاد تختنق في يده، وذكرياتها وهي تقاد إلى السجن.
“لا! هي بريئة!” قالت إيريس بشدة، “أوتيس، من فضلك، عليك أن تُطلق سراحها. يجب أن تكون هنا، عليك أن تعتني بها.”
حاول أوتيس أن يطرد التفكير الذي أخذ منه طريقًا مظلمًا، لكن إيريس كانت تُصرّ على ما قالته.
كانت عيونها مليئة بالدموع، وكان الألم واضحًا في نبرتها.
“أوتيس، أنا أطلب منك… أطلق سراحها. إنها بريئة.” قالت بصوت خفيض، لكن أكيد.
صمت لفترة طويلة، كان عليه أن يواجه الحقيقة.
ثم وقف فجأة، وعيناه تبدو غاضبةً، لكنه كان محاصرًا بين رغباته وحقيقة ما حدث.
في النهاية، صرخ في الحارس الذي كان يقف على الباب:
“أطلق سراح الدوقة فورًا.”
والباب أغلق خلفه، وترك إيريس على السرير. كان قد فعل ما طلبته، لكنه لم يكن واثقًا من عواقب قراره.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 6"