كان الليل في قصر آل دوفريه هادئًا على غير العادة. السماء ملبدة ببقايا غيوم خفيفة تحجب بعض ضوء القمر، لكن الهواء كان عليلًا، يحمل برودة لطيفة تلامس الوجوه كأنها تهمس بأسرار الليل.
أمام بوابة القصر الخلفية، توقّف حصان أسود فاحم، يتنفس بخفة، بينما ترجل منه رجل طويل القامة يرتدي معطفًا داكنًا. وقف لبرهة، يحدق نحو النوافذ العلوية للقصر، عيناه لمعتا تحت ضوء القمر.
كان هو… الدوق أوتيس.
خطى بخفة إلى جانب الجدار الحجري، ثم بدأ يتسلقه بثبات، كأن جسده قد اعتاد على هذا الطريق مسبقًا. تسلّق بخفة لا تشبه جسامة هيئته، حتى بلغ الشرفة العالية في الطابق الثاني.
كانت هناك نافذة مفتوحة نصف فتحة، والستائر تتحرك مع نسمات الليل، تنسحب قليلًا لتكشف له مشهدًا سكن قلبه.
إيريس.
كانت نائمة على جانبها، ملامحها هادئة كطفلة غافية وسط حلم دافئ. ضوء القمر تسلل عبر الستائر لينعكس على وجهها، فبدت كتمثال من نور. شعرها البني كان منسدلًا فوق الوسادة، وجزء من ردائها الفاتن كشف عن كتفها العاري.
ابتسم بخفة، نظراته علقت بها، كأن الزمن توقف في تلك اللحظة.
مدّ يده وطرق بخفة على زجاج النافذة.
تحركت إيريس في مكانها، ثم فتحت عينيها بتثاقل، فركت جفنيها بأناملها البيضاء، وحدّقت نحو النافذة، لتتسع عيناها فور رؤيتها له.
“أوتيس؟!” شهقت، ثم هرعت نحو النافذة تفتحها له. “ما الذي تفعله هنا؟! في هذا الوقت؟! هذا جنون! لقد تزوجت اليوم! ، ماذا عن جين ?”
لكن صوته جاء هادئًا، كأنه لا يعترف بما تقول: “لا تذكري تلك العاهرة أمامي.”
رمقها بنظرة طويلة، ثم تحرك بهدوء داخل الغرفة، خطواته لا تحدث ضجة، وكأن حضوره كان حلمًا آخر داخل ليلها.
“لا تناديها هكذا مجددًا… ليست زوجتي. ذلك الزواج كان صفقة، وسيزول كما بدأ, وأنت تعلمين ذالك ايريس ” قالها بصوت خافت، لكنه ممتلئ بالألم والغضب.
حدقت به إيريس، نظراتها متوترة: “لكنها بدت لي… فتاة طيبة. نظراتها لم تكن كاذبة.”
ابتسم بسخرية وهو يقترب منها، عينيه تتفحصان وجهها ببطء، ثم نظر إلى جسدها المكسو برداء نوم قصير من الدانتيل الأبيض، يكشف أكثر مما يخفي. شعرت بوجنتيها تحترقان، فشدّت ردائها قليلاً لتغطي نفسها.
لكنه لم يعقّب، فقط قال بصوت خفيض: “أنتِ… ما زلتِ تثقين بالجميع. بريئة كما كنتِ دومًا. لكن تذكري، يا إيريس… ليس الجميع مثلكِ.“
ثم تنهد بعمق، وعيناه تترنحان تحت ثقل مشاعره، وتقدم خطوة أخرى، يتكئ برأسه على كتفها.
“أنا متعب…” همس، كأنه طفل ضائع وجد مأواه.
رفعت يدها برفق، وبدأت تُمَرِّر أصابعها على شعره. كانت تلك اللمسة الوحيدة التي يثق بها، الوحيدة التي لم تؤذه قط.
رفع رأسه فجأة، نظر إلى عينيها من قرب، ثم أنزل نظراته إلى شفتيها. يده امتدت إلى ذقنها، رفعها برفق نحوه، ومال ليقبلها…
لكن قبل أن تلتقي شفتاهما، انفتح باب الغرفة فجأة.
“آنسة إيريس؟!” جاء صوت خادمتها من خلف الباب.
تجمدت إيريس، التفتت بسرعة نحو الباب، فيما ارتجف جسدها من المفاجأة. “ليزا؟!”
دخلت الخادمة بخطى مترددة. “سمعت ضجيجًا… هل كل شيء بخير؟ لما لم تنامي بعد؟”
ارتبكت إيريس، ووضعت يدها على صدرها تهدئ نبضها المتسارع. “أنا… شعرت بالحر، ففتحت الشرفة. لا شيء آخر.”
هزّت ليزا رأسها، ثم انحنت بلطف. “أفهم، أرجو أن تحاولي النوم. الغد يوم طويل.”
“بالطبع… شكرًا، ليزا. يمكنك الذهاب.”
خرجت الخادمة، وأغلقت الباب خلفها بهدوء.
استدارت إيريس بسرعة إلى الشرفة، لكن المكان كان فارغًا.
تقدّمت بخفة، تطل من الشرفة، نظرت إلى الأسفل… لا شيء. لا أثر للحصان، ولا للرجل.
تنهدت بخيبة، ثم ابتسمت بسخرية مريرة.
“كالعادة… يختفي قبل أن ألتقط الحقيقة.”
دخلت مجددًا، أغلقت النافذة، وسحبت الستائر.
استلقت على سريرها، وعيناها تحدقان في السقف. مشاعرها مختلطة بين الدهشة، الحزن، والقلق عليه.
“ماذا يحدث لك، يا أوتيس…؟”
وببطء، أغمضت عينيها، وتركَت النوم يسحبها من عالم الحيرة.
***
تسللت أشعة الشمس الذهبية من خلف الستائر المخملية، تنير قاعة الطعام الواسعة بقصر الدوق. الخدم كانوا قد أنهوا ترتيب المائدة الفخمة، صفّوا الصحون الفضية بعناية، وسكبوا العصائر الطازجة في كؤوس بلورية. جلس الدوق أوتيس في طرف الطاولة، يتناول طعامه بصمت تام، تقطعه فقط أصوات أدوات المائدة.
خطوات خفيفة نزلت عبر الدرج، تبعتها رائحة عطر ناعم.
ظهرت “جين” مرتدية ثوبًا صباحيًا أنيقًا بلون بنفسجي فاتح ، شعرها منسدل بأناقة، وعلى وجهها هدوء مصطنع. مشت بخطوات ثابتة حتى وصلت إلى الطرف المقابل للطاولة، وجلست دون أن تلقي حتى نظرة واحدة نحو الرجل الجالس في الطرف الآخر.
أمسكت بالملعقة وبدأت بتناول حساء الفطور بصمت.
لكن السكون لم يدم طويلًا.
“من الغريب أن يتانق شخص ما بهذا القدر لمجرد الإفطار… هل تأملين أن يعجب بك أحد الخدم؟” قال أوتيس، وهو يقطع قطعة صغيرة من الخبز، نبرة صوته هادئة لكن لاذعة كالسكين.
توقفت يدها في الهواء، ثم وضعت الملعقة ببطء على حافة الطبق، ونظرت إليه بنظرات محتدة.
“أفضل أن أبذل جهدي في الظهور بشكل لائق، بدلًا من أن أبدو كتمثال بارد فاقدٍ لأي ملامح بشرية.”
ارتفعت إحدى حاجبيه، ثم ابتسم بسخرية، ووضع الشوكة جانبًا تابعا باستفزاز، “يبدو أن الدوقة بدأت تتصرف كمالكة للمكان. لا عجب… بعد الهروب الكبير، لا بد أنكِ وجدتِ طريقة أخرى للتمثيل.“
توقفت يدها عن الحركة، رفعت عينيها إليه بغضب مكبوت. “كفى، إن لم تكن تستطيع الأكل دون إطلاق السم من فمك، فالأفضل أن تصمت.”
رفع حاجبيه، متفاجئًا من نبرتها. ثم ضحك بخفة، نبرة خالية من الدفء. “لا بأس، فقدت شهيتي منذ رأيتك على الطاولة على اي حال .” نهض من مكانه، رافعًا كرسيه خلفه بلا مبالاة، ثم التفت نحو الخدم. “أكملوا تنظيف الطاولة.”
ثم توجه خارج القاعة دون أن ينظر خلفه، تاركًا صمتًا ثقيلاً خلفه.
لم تُعلّق جين، فقط عادت لتناول طعامها ببرود، وكأن كلماته لم تمسها.
حين أنهت، وضعت المنديل على الطاولة برقي، ثم نظرت إلى إحدى الخادمات الواقفات بهدوء جانب الباب.
“أريد استكشاف القصر، هل يمكنك مرافقتي؟”
انحنت الخادمة بخفة. “بكل سرور، سيدتي.”
بدأت جولتها من غرفة الاستقبال، ذات الأرائك الفخمة والسجاد الشرقي الفاخر، حيث تقام اللقاءات الرسمية. بعدها مرّت بالمطبخ الكبير، المزدحم بالطهاة الذين أدّوا التحية لها سريعًا، وقد بدت علامات الانبهار عليهم.
ثم عرجت إلى غرفة الحياكة، وغرفة الغسيل، والمكتبة الواسعة التي عبقت برائحة الورق القديم.
لكن ما جذب انتباهها حقًا كان صوت التصادمات المعدنية.
“ما هذا الصوت؟” سألت وهي تتوقف.
ابتسمت الخادمة. “هذا تدريب الفرسان يا سيدتي، خلف هذا الممر تمامًا.”
بفضول، تقدمت جين إلى الساحة الخلفية المخصصة لتدريبات الجنود. اتسعت عيناها وهي ترى عشرات الرجال يتدربون، يتصببون عرقًا، عضلاتهم مشدودة وعيونهم مركّزة.
لم تستطع إلا أن تعجب بمظهرهم، خاصة حين لاحظوا حضورها وتوقفوا عن التدريب ليؤدوا لها التحية.
“صباح الخير، سيدتي الدوقة!” صاح أحدهم.
تقدّم رجل أطول من البقية، له عينان حادتان وابتسامة واثقة. انحنى أمامها باحترام.
“أنا القائد العسكري للقصر، اسمي سير ايفان . يشرفنا وجودك بيننا، وإن احتجتِ شيئًا، فلا تترددي في القدوم إليّ.”
أجابته بابتسامة لطيفة: “شكرًا، يا سير ايفان . سأفعل إن احتجت.“
تابعت جولتها إلى الحديقة الخلفية، حيث أزهار الزنبق واللافندر تملأ الأرجاء بعطر هادئ، وأشجار التوت تتدلّى بأغصانها المورقة.
توقفت تتأمل المكان. “هذا سيكون مكانًا رائعًا لحفلات الشاي…” تمتمت، لكن ابتسامتها تلاشت تدريجيًا، وتذكّرت واقعها.
“…وما الفائدة؟ سأهرب قبل أن أستمتع بأيٍّ من ذلك.”
تابعت خطواتها حتى وصلت إلى ممر حجري تتوسطه بوابة مغطاة بالنباتات المتسلقة، أشبه ببوابة سرية تنتمي إلى قصة قديمة.
مدّت يدها لتفتحها، لكن يد الخادمة أوقفتها بسرعة.
“أرجوكِ سيدتي، لا تلمسيها. هذه المنطقة ممنوعة.”
استدارت جين باندهاش. “لماذا؟”
أجابت الخادمة بتردد: “الدوق لا يسمح لأي أحد بالاقتراب منها. كل ما نعرفه أنها كانت المكان المفضل لوالدته الراحلة.”
لم تُعلّق جين، فقط نظرت للبوابة طويلاً بصمت، ثم أكملت طريقها وحدها بعد أن اعتذرت الخادمة وذهبت لإكمال مهامها.
سارت عبر الممرات الطويلة للقصر، غارقة في أفكارها. كل زاوية تحمل طابع الفخامة، لكن الروح… كانت غائبة.
وبينما تتجول بلا هدف داخل القصر ، وجدت نفسها أمام بوابة كبيرة من الخشب الثقيل تعلوها زخارف ذهبية.
“هل هذا… المخرج؟” همست.
دفعت البوابة ببطء، فُتحت دون مقاومة… لكنها لم تؤدِ إلى الخارج.
بل إلى مكتب الدوق.
في الداخل، كان أوتيس جالسًا خلف مكتبه، وإلى جواره رجلان وامرأة من مستشاريه. جميعهم كانوا منغمسين في خرائط ومستندات.
تجمدت خطواتها، عيناها اتسعتا بالصدمة.
رفع أوتيس رأسه، حدّق بها، ملامحه تحوّلت في لحظة إلى صلابة غاضبة.
“ما الذي تفعلينه هنا؟!” صرخ فجأة.
ارتجف جسدها، تراجعت خطوة، ثم تمتمت: “لقد… ضعت. ظننت أنها طريق الخروج…”
ضرب الطاولة بكفه، فاهتزت الأوراق. “هل تعتقدين أن القصر لعبة؟ أنتِ لستِ في نزهة! هذا مكتب رسمي، وليس مكانًا تتجولين فيه بحرية!”
أحد المستشارين سعل بإحراج، وآخر أنزل رأسه محرجًا من المشهد.
لكن جين… هذه المرة لم تكن ضعيفة.
نظرت إليه بثبات، رغم ارتعاش قلبها.
“توقف.” قالتها بثقة. “كفى صراخًا عليّ وكأنني لا أساوي شيئًا. لست عبدة لديك لتُهينني أمام الآخرين. أنا زوجتك حتى وإن كانت زواجًا قسريًا هل فهمت حضرت الدوق “
ساد صمت ثقيل في الغرفة المستشارون المجتمعون نظروا لبعضهم بدهشة. لم يجرؤ أحد على رفع صوته على الدوق… من قبل.
حدق بها أوتيس بذهول، وعيناه تلمعان بالغضب… أو بشيء آخر لم تستطع تفسيره.
دون أن تنتظر رده، أغلقت الباب بقوة خلفها، وغادرت الممر بخطوات سريعة.
في الطريق، صادفت خادمة شابة تحمل سلة من المناشف النظيفة.
“أوه! سيدة الدوقة!” قالت وهي تنحني.
قالت جين وصوتها لا يخلو من التوتر. ” أريني الطريق إلى جناحي، من فضلك.”
“من هذه الجهة، سيدتي. اتبعيني.”
سارت خلفها، تحاول تهدئة نبضات قلبها.
لكن بداخلها، كانت نار خفية تشتعل.
و لأول مرة… تشعر أنها لم تكن ضعيفة.
———-🦋lunetta 🦋———-
لا تنسو اعطائي رايكم وانتقداتكم المحترمة اتقبلها بصدر رحب
دمتم فرعاية الله وحفظه سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم استغفر الله واتوب اليه
ولا تنسو اخواننا في فلسطين و العراق و لبنان وسوريا و السودان وكل المسلمين من الدعاء .🍃
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 4"