كانت الغرفة غارقة في صمت ثقيل حين دخلتها جين، تلك الغرفة الفاخرة التي اختارها لها الدوق لتكون “جناح الدوقة”، لكنها لم تكن ترى فيها شيئًا سوى سجن مطلي بالذهب.
الشموع المضاءة على الحائط ألقت ظلالًا مرتعشة على الأثاث الفخم، والسرير الكبير المزين بالحرير الأبيض بدا أشبه بكفن ناعم. خلعت حذاءها بصمت، وقبل أن تتحرك نحو السرير، فُتح الباب بخفة، ودخلت إحدى خادمات الدوقية، فتاة شابة ذات ملامح هادئة.
“سيدتي… هل ترغبين أن أعد لكِ حمامًا دافئًا؟” سألت بنبرة مهذبة.
نظرت إليها جين للحظة قبل أن تومئ برأسها بصمت.
لا رغبة لها في الكلام، فالكلمات باتت عبئًا ثقيلًا، تمامًا كفستان الزفاف الذي لم يعد يعني شيئًا.
في دقائق، كانت واقفة أمام المرآة، تراقب انعكاس وجهها الشاحب وهي تفك أربطة الفستان، ثم تركته ينزلق عن جسدها.
الخادمة انحنت لتأخذه دون أن تنبس بكلمة، ثم غادرت الغرفة، تاركة الباب إلى الحمام مفتوحًا.
دخلت جين إلى الحمام، حيث كان حوض الاستحمام الكبير مصنوعًا من الرخام الأبيض، تلمع جوانبه .
كانت المياه الدافئة تفور بخفة، وقد نُثرت فوقها بتلات زهور وردية وعطر اللافندر الذي ملأ الأجواء.
جلست ببطء داخل المياه، ووضعت رأسها على طرف حوض الاستحمام، وعيناها تحدقان في السقف كأنها تبحث فيه عن إجابات.
اليوم… كان جحيمًا.
من لحظة إمساك أوتيس بها على السفينة، إلى صراخ والدها، إلى ذلك الحفل الذي اضطرّت أن تكمله كدمية خرساء في يد القدر… كل شيء كان كابوسًا.
كانت تحاول الهروب من القصة… لكنها عادت إلى قلبها، بل إلى أعماقها، محاصَرة بكل السطور التي كتبتها الروائية الأصلية.
“لقد فشلت…” همست بصوت مبحوح.
يدها ارتفعت لتضغط على جبينها.
الألم هناك كان لا يُحتمل، وكأن صداعًا حادًا يطرق رأسها من الداخل.
“لا، يجب أن أستجمع نفسي…” تابعت حديثها لنفسها،
“الخطة فشلت، نعم… لكنني لن أستسلم. هناك دائمًا طريق آخر… سأضع خطة جديدة، طريق هروب مختلف، ربما من داخل القصر نفسه.”
تنهدت بعمق، وغاص جسدها أكثر داخل المياه.
‘لكن ليس الليلة… هذه الليلة سأنسى، سأنام فقط… أحتاج إلى راحة، إلى لحظة هدوء واحدة.’
بقيت في الحمام وقتًا طويلًا، حتى خفت حرارة الماء، ثم نهضت، ولفّت جسدها بمنشفة قطنية بيضاء ناعمة.
خرجت من الحمام بخطوات بطيئة، قطرات الماء تنزل من شعرها، ووجهها خالٍ من المساحيق، أكثر طبيعية من أي وقت مضى.
جلست أمام المرآة، وبدأت في تجفيف شعرها بلطف، تمشيط أطرافه بأصابعها.
في لحظة، سُمِع صوت الباب يُفتح خلفها.
ظنّت أن الخادمة عادت، فتابعت تنشيف شعرها على الجانب وطلبت من الخادمة مساعدتها في تمشيطه .
شعرت بأصابع تمسك المشط برفق منها، ثم بدأت في تمشيط شعرها بهدوء. أغمضت عينيها ، وسمحت لنفسها بلحظة هدوء.
وفجأة، همس صوت دافئ عند أذنها:
“رائحة شعرك… مذهلة.”
تجمدت جين.
عيناها فتحتا فجأة، نظرت في المرآة، لم يكن هناك انعكاس لوجه الخادمة ، بل انعكاس لوجه مألوف… وجهه.
“الدوق”.
صرخة صغيرة خرجت منها وهي تقفز واقفة، تقبض على المنشفة وتغطي صدرها .
كان أوتيس يرتدي قميصًا أسود مفتوحًا عند العنق، وعيناه الرماديتان تتفحصانها بهدوء، وكأن دخوله المفاجئ أمر طبيعي تمامًا.
اقترب منها بخطوة، وهو يكمل ببرود:
“ما الذي تعتقدين أن العريس يفعله في غرفة عروسه ليلة الزفاف؟”
تراجعت جين خطوتين، وقلبها يدق بعنف.
“أنت… لا تفكر حتى في الاقتراب!” قالت، والغضب والرعب يتصارعان في صوتها.
ضحك بخفة، ضحكة خافتة جعلت شعر جسدها ينتصب.
“اهدئي. لا أحد يخطط لليلة رومانسية هنا، اطمئني.” قالها بسخرية واضحة وهو يتقدم خطوة أخرى.
“اخرج من غرفتي حالًا!” صاحت، وهي تقبض على طرف المنشفة بقوة حتى أصبحت مفاصلها بيضاء.
“غرفتك؟” قال وهو يرفع حاجبه، “هذه غرفتي. كل شيء هنا ملكي، بما في ذلك أنتِ.”
شعرت بالدم يغلي في عروقها، وصرخت:
“أنا لست ملكك! ولن أكون!”
اقترب منها حتى باتت على بعد خطوة واحدة فقط.
اضطرت للتراجع حتى شعرت بجسدها يلامس طرف السرير، تعثرت وسقطت جالسة عليه، بينما اقترب هو أكثر، ينحني قليلاً حتى أصبح وجهه مقابلًا لوجهها.
كانت أنفاسه قريبة، دافئة، لكنها باردة كالصقيع في معناها.
“هل تعتقدين أنني سألمسكِ؟” همس في أذنها، شفتاه تلمسان أذنها عن قصد.
“أنتِ أقل من خادمة في عيني…لو أردتكِ، لكنتِ الآن تصرخين تحتي… لكن حتى جسدي يشمئز من لمسكِ.”
شهقت، مصدومة من كلماته.
“هل لازلت تعتقدين فعلًا أنني أريدك؟ أنني أرغب بكِ؟ أنتِ مجرد واجب. اتفاق. عار يتنفس باسم النبلاء.”
“أنت…” تمتمت، تحاول النهوض لكنه ضغط بكفه على السرير بجانبها، محاصرًا إياها بنظرته.
“أنت لا تعرف شيئًا عني!” صرخت بعينين دامعتين. “لا تعرف لماذا هربت، ولا ما أعانيه!”
“لا يهمني.” قاطعها ببرود، ثم انحنى قليلًا، يهمس لها:
“كل ما يهمني هو أنني حصلت على ما أريد. دوقة باسم فقط… لن تغير شيئًا في خططي.”
ثم وقف مستقيمًا، نظر إليها من رأسها إلى أخمص قدميها، وكأنها لا تساوي شيئًا.
استدار وغادر الغرفة بخطوات هادئة، وكأن شيئًا لم يحدث. الباب أغلق خلفه بصوت خافت لكنه كان أقسى من أي صراخ.
ظلّت جين جالسة على السرير، تنظر للباب المغلق، ووجهها شاحب.
ثوانٍ فقط… ثم بدأت دموعها تنساب على خدّيها.
غمرها الإحباط والغضب والخزي. لا من أوتيس فقط، بل من نفسها.
كانت تعتقد أنها تسيطر على القصة، أنها يمكن أن تغيّر قدر الشريرة التي تجسدت بها.
لكنها الآن… ليست إلا دمية مكسورة في يد رجل لا يرحم، وأسيرة قصر يلمع من الخارج ويختنق من الداخل.
دفنت وجهها في يديها، تبكي بصمت.
“لماذا أنا؟” همست، “لماذا دائمًا أنا؟”
المنشفة حول جسدها بدأت تبرد، وارتعشت، لكنها لم تتحرك. لم تعد تملك القوة. لا جسديًا… ولا عاطفيًا.
كانت وحيدة. مجبرة. ومحبوسة في كابوس، لا يبدو أنه سينتهي قريبًا.
***
كانت الغرفة مظلمة، لا يضيئها سوى شعلة خافتة في المصباح الكريستالي المعلق فوق السرير الضخم.
جدران الغرفة المكسوة بالمخمل الداكن بدت وكأنها تضيق على أوتيس كلما زادت حرارة أفكاره.
ألقى قميصه على الأرض بعنف، وسار نحو الطاولة الصغيرة بجوار السرير، صب كأسًا من النبيذ الأحمر وأفرغه في جرعة واحدة، لكن حرارة المشروب لم تكن كافية لإخماد النار التي تشتعل بداخله.
وجه جين، تلك النظرات المذعورة التي رمقته بها… لم تكن تبارح ذهنه.
“تبًا…” تمتم وهو يدفع الكأس جانبًا ليتهشم على الأرض دون اهتمام.
جلس على طرف السرير، يداه تضغطان على جبينه، يحاول طرد صورتها من عقله، لكن كل ما يتذكره هو المنشفة البيضاء، قطرة الماء التي انزلقت من عنقها الرقيق وتدحرجت إلى صدرها… كيف ارتجف جسدها أمامه… كيف التقت عيناهما للحظة وهو يهمس بتلك الكلمات الجارحة.
ابتسم بسخرية.
“خائفة…” قالها بمرارة، “أخافتكِ نظرتي، كلماتي؟” “انت مجرد عاهرة “
نهض مجددًا وبدأ يسير في الغرفة ذهابًا وإيابًا. ملامحه قاسية، مشدودة، وكل عضلة في جسده كانت توحي بالغضب.
“هذه العاهرة الصغيرة… كانت ستهرب من زفافها، وكادت تلطخ سمعتي واسم العائلة، ثم تنظر لي كأنني أنا المذنب؟”
ألقى بيده على الحائط، والضربة أحدثت ارتجاجًا خفيفًا في اللوحة المعلقة بجانبه.
كانت يداه ترتجفان. كأن هناك ما يتسلل داخله… ليس فقط غضبًا. شيء آخر…
توقف عن الحركة، وعيناه تحدقان في الفراغ، ثم تنهد ببطء.
“أنا أكرهها…” قال، وكأنها الحقيقة الوحيدة التي يتمسك بها. “أنا أكرهها، مخادعة… متصنعة… “
لكن رغم كلماته، لم يستطع طرد الصورة من ذهنه… جين، وهي تجلس أمام المرآة، تلمس شعرها المبلل، وجهها بلا مساحيق، صادق بطريقة مؤذية.
أغمض عينيه يستبدل افكاره عنها باخرى وتسللت صورة أخرى إلى عقله… ضحكة دافئة، عيون بريئة، فتاة ذات جدائل بنية تركض خلفه في حديقة القصر القديم.
“إيريس…” همس باسمها.
إيريس، صديقة طفولته.
الوحيدة التي لم تخنه يومًا. الفتاة التي رافقته في سنواته السوداء، التي أعطته دفئًا حين جفّت العاطفة من حياته.
كم اشتاق لها. كم أراد أن يراها اليوم، أن يتحدث إليها… أن يهرب من تلك العاصفة التي صنعتها جين.
“هي الوحيدة التي تفهمني… الوحيدة التي يمكنها تهدئتي.”
لم يحتمل أكثر، التفت نحو خزانته، سحب معطفًا داكنًا وارتداه على عجل، ثم خرج من غرفته بخطوات سريعة دون أن ينطق بكلمة.
لم تكن الليلة طويلة بما يكفي لتحبس كل غضبه…
لكنه يعرف إلى أين يذهب، ومن التي ستنقذه من دوامة الجنون.
في الجناح المقابل، كانت جين ما تزال مستيقظة، رغم مرور وقت على مغادرة الدوق غرفتها .
ارتدت رداء نوم بسيطًا من الحرير الأبيض، جلست على أريكة صغيرة أمام الشرفة، حيث ستائر الشيفون تتراقص بخفة مع نسيم الليل.
كان الليل هادئًا، ساكنًا بشكل غريب، كما لو أن القصر بأكمله دخل في سبات ثقيل. ورغم كل ما مرت به خلال اليوم، كانت جين ترفض النوم.
وقفت واستندت إلى سور الشرفة، عيناها تتعلقان بالقمر.
“القمر…” همست لنفسها، “الشيء الوحيد الذي لم يتغير… حتى بعد أن تجسدت في هذا العالم، ظل القمر كما هو، بنفس الشكل، بنفس البرودة، بنفس الضوء.”
كان يبعث فيها راحة غريبة، كأنه رابط أخير يربطها بعالمها الحقيقي، بحياتها قبل أن تستيقظ داخل جسد الشريرة “جين”.
ربما لهذا السبب هي مرتاحة للنظر اليه … ربما لأنه الشيء الوحيد الذي لا ينتمي لهذه القصة.
أغلقت عينيها، وأخذت نفسًا عميقًا، سمحت للهواء العليل أن يمر عبر صدرها ويوسع رئتيها المتعبتين.
ثم سمعت الصوت.
وقع حوافر حصان.
فتحت عينيها ببطء، وحدقت إلى الأسفل من الشرفة.
رأت هناك، في ساحة القصر، رجلاً يرتدي معطفًا أسود يخطو بخفة نحو حصانه. لم تحتج إلا لثوانٍ لتعرف من هو.
“أوتيس?!”
كان يسير بخطوات سريعة، كما لو كان يهرب من شيء، أو يطارد شيئًا آخر.
“إلى أين…؟” همست وهي تراقبه يعتلي صهوة جواده.
لم يكن يراها، لكن ملامحه كانت واضحة بما فيه الكفاية تحت ضوء القمر… وجهه مشدود، عيناه تحدقان في الأفق، كأنهما ترفضان العودة.
ثم أغمضت عينيها بسرعة وهزت رأسها.
“لا يهم… لا يهمني إلى أين يذهب “
أدارت ظهرها للشرفة، وعادت إلى الداخل.
تسللت إلى سريرها، وسحبت الغطاء على جسدها، تحاول دفن الأفكار كما دفنت دموعها منذ ساعة.
لكن حتى وهي مغمضة العينين، ظلت تسمع صدى صوته يهمس في أذنها وهو يهينها .
رفعت الغطاء أكثر على رأسها، محاولة كتم كل شيء.
كانت الغرفة باردة، لكن داخلها كان يغلي. بين الغضب، الخزي، والضعف.
“سأهرب…” همست، “سأجد طريقة… لن أظل عالقة هنا إلى الأبد.”
ثم نامت أخيرًا، على وسادة ما تزال رطبة من دموعها السابقة .
———–🦋lunetta🦋———-
لا تنسو تعطوني رايكم في البارت وانتقداتكم للتحسن .
دمتم فرعاية الله وحفظه 💫💕
سبحان الله العظيم
سبحان الله وبحمد
استغفر الله واتوب اليه
ولا تنسو اخواننا في غزة وجنين والعراق وسوريا وكل المسلمين المضطدهين من دعائكم
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"