مرت الأيام ببطء، لكنها حملت معها تحسناً ملحوظاً في صحة جين.
كانت قد بدأت تستعيد قوتها تدريجياً، بفضل الرعاية الدائمة التي حظيت بها من مارغو ولينا ومارتا، وبالطبع… أوتيس. كانت الغرفة تملؤها رائحة الأعشاب الطبية والزهور البرية التي تحرص مارتا على تجديدها يوميًا بجانب سريرها، بينما تسلل ضوء الشمس الخفيف عبر النوافذ المزخرفة، داعب بشرتها الشاحبة التي استعادت شيئًا من لونها الطبيعي مع مرور الوقت.
كان أوتيس أكثر من مجرد ظل بجانبها؛ كان حضورًا حقيقيًا لا يغادر. لم يفارقها سوى عندما يُجبره كارل أو مارغو على أخذ قسط من الراحة، حتى يكاد التعب يرتسم على ملامحه أكثر منها.
كان يجلس بجوارها لساعات، أحيانًا يقرأ لها بهمسٍ خافت، وأحيانًا أخرى يكتفي بإمساك يدها، وكأن وجوده بجانبها كفيل بترميم كل ما كُسر داخلها.
مارغو كانت دومًا هناك أيضًا، تحضر لها الحساء الدافئ وتساعدها على تناول الطعام برفق، بينما كانت لينا تجلب لها قطع الخبز الطازج، وتهمس لها بالطرائف علّها ترى ابتسامة على وجهها.
أما كارل، فكان يتكفل بإحضار الأدوية والعلاجات التي وصفها الطبيب، يتنقل بلا كلل بين البلدة والمزرعة.
حتى مارتا، كانت تتهامس مع لينا كل مساء لتجهز نوعًا خاصًا من الشاي المهدئ خصيصًا لجين.
كانت جين تراقبهم جميعًا بصمت ممتن، شعور غريب يعتصر قلبها، إحساس لم تعتده منذ زمن بعيد.
كانت تخاف أن تعتاد هذا الدفء، تخاف أن تسمح لنفسها بالاعتماد على أحد.
لكنها وجدت نفسها، رغماً عنها، تسمح للحواجز أن تتصدع.
وذات صباح، عندما فتحت عينيها على صوت خافت يقرأ من كتاب، رأت أوتيس جالسًا بجانبها، رأسه منحنٍ على الأوراق، وعيناه مغمضتان كأنه يحفظ النص عن ظهر قلب.
لم تستطع أن تمنع نفسها من الابتسام، ابتسامة صغيرة بالكاد ارتفعت عند زوايا شفتيها.
لاحظ أوتيس حركتها، فتوقف عن القراءة وحدق بها بدهشة طفيفة، قبل أن تترسم ابتسامة مرتاحة على وجهه، ابتسامة جعلت قلب جين ينبض بقوة غير مألوفة.
“صباح الخير.” قالها بصوت أجش دافئ.
همست جين، بالكاد قادرة على النطق
“صباح الخير…”
مرت لحظات من الصمت بينهما، صمت كان يحمل ألف كلمة لم تُقال، ألف مشاعر متشابكة.
طوال الأيام التالية، توثقت علاقتهما أكثر.
لم يكن ذلك انفجارًا عاطفيًا مفاجئًا، بل كان بناءً هادئًا، كلمة تلي كلمة، لمسة تلي نظرة.
أوتيس لم يضغط عليها أبدًا. كان فقط موجودًا، ثابتًا كالصخر، لطيفًا كنسمة الصباح.
كان يستمع إليها حين تتحدث عن أمور بسيطة الزهور، الكتب، الطقس. كان ينصت حقًا، بعينيه وجسده وروحه.
وكان كل حديث بينهما يزيل طبقة من الخوف الذي كبل قلبها طويلًا.
وذات ليلة، حين كانت جالسة على الشرفة ملفوفة ببطانية خفيفة، دخل أوتيس حاملاً كوباً من الشاي الساخن.
“هذا سيساعدكِ على الاسترخاء.” قال وهو يمدّه لها بحذر.
أخذت الكوب بيديها، أصابعهما تلامسان لثانية. شعرت بذلك الدفء الغريب الذي ينتابها كلما اقترب منها.
“شكراً لك.” همست، ثم نظرت إليه وهو يقف بجانبها، عيناه الزرقاوان تتابعانها بقلق دائم. “أوتيس… لماذا لا تجلس؟ تبدو متعباً.”
هزّ رأسه. “لستُ متعباً.”
“كاذب.” ابتسمت، ثم أشارت إلى الكرسي المقابل لها. “تعال، اجلس.”
تردد للحظة، ثم أطاع.
جلس على حافة الكرسي، يداه متشابكتان بين ركبتيه، وكأنه يحاول كبح نفسه من الوصول إليها.
“تعلمين…” بدأ يقول بعد صمت طويل، صوته أشبه بالهمس، “لم أعد أتصور حياتي بدونك.”
شهقت جين بصمت، لم تتوقع سماع تلك الكلمات.
قلبها خفق بقوة، وجف حلقها. لكنها هذه المرة لم تهرب، لم تختبئ خلف قناع من البرود أو السخرية.
نظرت إليه، رأت فيه الحقيقة الخالصة، ورأت انعكاس نفسها فيه.
“وأنا…” تمتمت، تكاد لا تصدق أنها تتكلم، “أنا… لم أعد خائفة، ولم أعد اريد الهروب ”
التفت نحوها ببطء، كأن العالم كله توقف، وعيناه العميقتان تغمرانها بدفءٍ يكاد يحرقها. لم يقل شيئًا. فقط ابتسم، تلك الابتسامة التي كانت خاصة بها وحدها، ومن دون وعي وجدت يدها تمتد نحوه، تلمس أطراف أصابعه.
ليلة بعد ليلة، تحولت المسافات بينهما إلى جسور، إلى أمان.
أصبحت تضحك أكثر، تتحدث بحرية أكبر. كان هناك ماضٍ، ألم لا يمكن إنكاره، لكنهما معًا، صمما على بناء شيء جديد فوق ركام ما مضى.
في إحدى الأمسيات، بعد تناول الغداء معًا، اقترح كارل على أوتيس الخروج إلى القرية الصغيرة القريبة لشراء بعض المستلزمات.
وافق أوتيس على مضض، لا يريد ترك جين طويلاً، لكنها ابتسمت له برقة وشجعته.
“اذهب، سأكون بخير.” قالت وهي تربت على يده بلطف.
“سأعود بسرعة.” وعدها، ونظراته لم تفارقها حتى غادر مع كارل.
كانت تجلس مع مارغو ولينا ومارتا في الحديقة الخلفية، يستمتعن بشمس الظهيرة الدافئة.
“أنتِ تبدين أفضل بكثير!” قالت لينا وهي تقدم لها كعكة محلاة صنعتها مارتا.
“نعم، أشعر بذلك.” ابتسمت جين
جلست لينا بجانبها، تتلاعب بأطراف قميصها بتوتر واضح، بينما كانت مارغو تراقبها بفضول صامت. أما مارتا، فكانت تجهز بعض الشاي على الطاولة.
“يورا…” بدأت لينا بتردد.
رفعت جين حاجبيها بانتباه.
“نعم؟”
“هناك شيء… أردنا أن نسألك عنه منذ فترة…” لينا خفضت بصرها، خجلت من متابعة الحديث.
“يورا…” مارغو تدخلت، تبتسم بتشجيع، “إن كنتِ لا تريدين الحديث عنه، فلا بأس. لكن فقط، أردنا أن نعرف.”
“عن ماذا؟” سألت جين، قلبها يخفق بتوجس.
تبادلت لينا نظرة متوترة مع مارغو، ثم تمتمت أخيرًا
“حين كنتِ… في غيبوبتك… أوتيس… كان يناديك باسم آخر.”
شهقت جين بخفوت، يديها انقبضتا على طرف ثوبها.
“باسم آخر؟”
أومأت لينا ببطء:
“كان يناديك… بجين.”
ساد الصمت. حتى صوت الشاي المغلي خفت فجأة. نظرت جين إليهم بصدمة مكشوفة، جسدها كله تيبس للحظة.
اكملت لينا
“حتى معاملته لك … وايضا معاملتك له في الفترة الاخيرة جعلتنا نتسائل كثيرا عن ما هية علاقتكم ببعض “
“لا داعي للقلق.” قالت مارغو بسرعة، محاولة التخفيف عنها. “إن لم تريدي أن تخبرينا، فنحن لا نريد أن نضغط عليك.”
ظلت جين صامتة. أفكار كثيرة تدافعت في عقلها.
طوال هذا الوقت، هؤلاء الناس، هؤلاء الذين اعتنوا بها، عاملوها بلطف ومحبة دون أن يسألوا شيئًا… ألم تستحق عائلتها الحقيقية أن تعرف الحقيقة؟
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 26"