كان الهواء مشبعًا بالسكينة، وجين ما زالت واقفة أمام الباب، أطرافها ترتجف، وعيناها معلّقتان بالشخص الواقف أمامها.
“أوتيس…” خرج اسمه من شفتيها همسًا خافتًا، بالكاد يُسمع.
الدم تراجع من وجهها، وارتعشت ركبتيها.
وقبل أن تسقط، كان ذراعاه حولها، يُمسك بها بثبات.
ابتعدت عنه بسرعة، أنفاسها متلاحقة، ويداها ترتفعان لتسدّ المسافة بينه وبينها.
“ماذا… ماذا تفعل هنا؟! كيف وجدتني؟” صوتها خرج مرتجفًا، والخوف يكسو ملامحها كما لو عادت تلك الليالي المظلمة التي كانت تطاردها.
نظر إليها مطولًا، ثم تحركت عيناه نحو بطنها المنتفخ قليلاً تحت ثوبها الفضفاض.
شهقت، ووضعت يديها على بطنها سريعًا، تحاول تغطيته كما لو أنه يمكنها إخفاء الحقيقة التي صارت جليّة.
“لقد بحثت عنكِ في كل مكان، جين.” قالها بهدوء.
أخفضت نظرها، وصوتها مشوب بالغصة، “اذهب، أرجوك… لا أريد رؤيتك. انتهى كل شيء بيننا.”
كانت دموعها تلمع في عينيها، تحاول أن تبدو قوية، لكن صوتها المكسور فضح هشاشتها.
لم يقترب منها، فقط وقف في مكانه، صوته ناعم بشكل غريب: “لن أؤذيكِ… فقط أردت الحديث.”
جين كانت تتنفس بسرعة، عيناها تبحثان في وجهه عن أي خدعة.
لكن كل ما رأته كان إرهاقاً عميقاً، وشيئاً آخر… ندماً؟ لا، هذا مستحيل.
بعد صمت طويل، أشارت ببطء إلى الداخل. “خمس دقائق فقط.”
جلسا على الطاولة الخشبية الصغيرة، وجهاً لوجه.
كانت يداها متشابكتين في حجرها، تنظر إليه بصمت.
رأته بوضوح الآن. وجهه الشاحب، عينيه الرماديتين الغارقتين بالتعب، ولحيته الخفيفة التي نمت بإهمال، وشعره الاسود الذي كان دائمًا منسقًا… الآن بدا أشعث، فوضويًا.
تسارعت الأفكار في رأسها. هل أنا السبب؟ هل أرهقته إلى هذا الحد؟
لكن صوته قاطع سيل أفكارها: “كيف حالكِ؟”
رفعت نظرها إليه. “بخير.”
ثم تحركت عيناه نحو بطنها مرة أخرى، وقال بصوت منخفض: “والطفل؟ لقد كبر…”
وضعت يدها على بطنها بحركة لا إرادية، وأجابت: “بخير… أيضًا.”
ساد صمت بينهما.
نظراتهما التقت للحظة، لكنها سرعان ما أشاحت بوجهها بعيدًا.
“كيف… كيف وجدتني؟” سألت أخيرًا، بصوت مرتجف.
لم يُجب.
(فلاش باك)
كان القمر كاملاً تلك الليلة، والبحر يعكس نوره الفضي على سطحه. وقف أوتيس أمام طاولة الخرائط في إحدى غرف النزل، وحوله حراس الظل.
“نقّبنا كل البلدان المجاورة ، لا أثر لها، يا سيدي.”
صوته جاء حازمًا: “نبحث من جديد. افتحوا نطاق البحث ليشمل الجزر النائية.”
أخذ ينظر إلى خريطة كبيرة أمامه، تمرّ عينه على أسماء المدن والقرى، ثم… توقف بصره عند اسم جزيرة صغيرة منعزلة.
جزيرة “ليندور”.
حدّق بها مطولًا، قلبه ينبض بقوة، ثم قال: “سنبدأ من هنا.”
مرّ يومان على وصوله للجزيرة، كان يبحث في الأسواق، بين الحقول، يسأل الغرباء… حتى لمحها أخيرًا.
كانت جالسة تحت شجرة على أطراف أحد الحقول، شعرها يلمع تحت الشمس، وتضحك.
لكن قلبه انكمش حين رأى من كان معها.
رجل ?! لم ير وجهه جيدا
كانت تبتسم له… بابتسامة مشرقة لم يرها منها من قبل.
وجهها كان مضيئًا، وعيناها مليئتان بالدفء.
اختنق صدره.
راقبهما من بعيد، حتى حين ركبا حصانًا سويًا، وهي تضحك ، كاد يتقدم، كاد ينفجر… لكنه توقف.
‘لو ظهرتُ الآن، سأخيفها مجددًا.’
عاد إلى النزل في تلك الليلة، يجتاحه الغضب والغيرة والحيرة. لم ينم.
(نهاية الفلاش باك)
“لِمَ هربتِ مني مجددًا؟” سألها بهدوء.
تصلبت.
مرت ثوانٍ طويلة قبل أن تهمس: “لأنك… تخيفني يا أوتيس.”
رفعت عينيها إليه، “وجودي معك يجعلني أشعر أنني سجينة، دائمًا تحت الاتهام، دائمًا في موضع شك…”
ابتلعت ريقها بصعوبة، “أنا… أنا سعيدة هنا. صنعت لي حياة جديدة. حياة خالية من الألم… من الاتهام… من الخوف.”
دموعها انهمرت على خديها، “رجاءً، لا تُفسدها. دعني وشأني، أرجوك. أنا تعبت… تعبت منك، من جراحك، من قسوتك.”
وضعت يدها على صدرها المرتجف، “أنت لا تحبني. تحب إيريس، دائمًا كنت تفعل… وأنا لا أبادلك شعور الحب، لذا… علينا أن ننفصل.”
كانت الشمس بالكاد ارتفعت في السماء حين خرجت جين من منزلها، تضع وشاحًا خفيفًا على شعرها وتشد عباءتها حول جسدها.
قلبها ما يزال مثقلًا بأحداث الأمس، لكن خطواتها كانت ثابتة نحو كوخ العجوز مارتا. تلك المرأة الحكيمة كانت الملاذ الذي تلجأ إليه حين يعجز العالم عن احتوائها.
لكنها ما إن اقتربت من الكوخ، حتى توقفت فجأة.
تجمدت في مكانها، والعالم حولها بدا وكأنه تباطأ.
كان هناك… واقفًا أمام باب الكوخ، يتحدث مع مارتا، ويبتسم.
أوتيس.
اتسعت عيناها، وارتدت خطوة إلى الوراء، تكاد تفقد توازنها.
ماذا يفعل هنا؟ ألم يغادر بالأمس؟ ألم يرحل كما وعد؟ لماذا… لماذا هو هنا؟
تسللت أفكارها مسرعة، تخبطها الذعر.
هل يخبر مارتا بالحقيقة؟ هل كان يكشف سرها لهؤلاء الناس الطيبين الذين احتضنوها؟
كانت على وشك الاستدارة والهرب، لكن صوت مارتا القوي قطع عليها هروبها
“يورا! تعالي، عزيزتي!”
تسمرت جين في مكانها
لحظة صمت.
لكن المفاجأة كانت عندما التفت أوتيس نحوها، وعيناه الرماديتان تلتقيان بعينيها ببراءة تامة. “يورا؟” قال الاسم بلهجة الاستغراب.
اقتربت جين ببطء، خطواتها مترددة، ونظراتها لا تفارق عينيه.
في قلبها سؤال واحد يحترق ‘هل سيفضحني؟’
لكن ما فعله فجّر مفاجأتها.
ابتسم بلطف، مد يده نحوها بكل لباقة يدها ارتعشت عندما وضعتها في يده الكبيرة.
ثم صدمت أكثر عندما رفع يدها برقة وقبلها بطريقة أرستقراطية .
“تشرفتُ بمعرفتكِ، آنسة يورا.”
كادت تتراجع، كادت تهمس باسمه… لكن الكلمات اختنقت في حلقها.
لم يفعلها. لم يفضحها.
مارتا ضحكت بحنان، وقالت: “إنه السيد أوتيس، جاء من البلاد المجاورة. هو احد النبلاء ، ومحترم. استأجر البيت المجاور لنا، ويبدو أنه قرر الإقامة هنا لبعض الوقت.”
ثم نظرت إلى أوتيس بفخر: “وقد جاء اليوم ليرحب بي، رجل نبيل، أليس كذلك؟”
جين لم تستطع الرد. كانت تنظر إليه وكأنها تراه لأول مرة.
ما الذي يلعبه؟ ولماذا…؟
أما هو، فابتسم لها برقة، ثم قال بنبرة هادئة:
“آمل أن تعتني بي، آنسة يورا. فأنا جديد هنا.”
وبدون أن ينتظر رداً، انحنى تحية لمارتا ومشى بعيداً، تاركاً جين واقفة هناك، فمها نصف مفتوح، وعقلها في دوامة.
مارتا لوحت له بيدها ثم التفتت إلى جين. “يا لها من مفاجأة سارة! جزيرتنا الصغيرة تجذب أناساً طيبين أكثر فأكثر!”
جين لم تستطع حتى أن ترد. عيناها كانتا تتبعان ظل أوتيس وهو يختفي عند المنعطف. ماذا كان يخطط؟ لماذا لم يكشفها؟ وما هذا الادعاء بأنه سيقيم هنا؟
يدها لا تزال تشعر بدفء شفتيه عليها، وكأنه أحرقها بلمسة ناعمة.
كل شيء في هذا الموقف كان خاطئاً، لكن الأكثر إثارة للرعب… أنه كان مقنعاً جداً.
***
بقيت جين تجلس مع مارتا لبعض الوقت، تحاول أن تبدو هادئة ومهتمة، لكن أفكارها كانت تهيم في مكان آخر تمامًا.
مارتا كانت تتحدث بحماس عن الزوار الجدد، عن الزهور التي بدأت تتفتح مبكرًا هذا الربيع، وعن جارهم الجديد “السيد أوتيس” الذي بدا لها رجلًا نبيلاً ومحترمًا.
لكن جين؟ لم تكن تسمع سوى طنينٍ في أذنيها. كلمات مارتا تتلاشى في الضباب الذي احتل عقلها.
أوتيس هنا… يعيش قربها… يمثل أنه لا يعرفها… لماذا؟
كيف استطاع التصرف بذلك الهدوء؟ وتلك الابتسامة… ذلك الانحناء الذي طبع به قبلة على يدها كأنها ليست هي… كأنها ليست تلك التي حاولت الهرب منه، والتي انكسر قلبها مرارًا بسببه.
“يورا، هل أنت بخير؟” سألت مارتا، تلاحظ شرودها.
هزّت جين رأسها بسرعة، وأجابت بصوت خافت: “نعم… فقط أشعر ببعض التعب. أظنني سأعود للمنزل لأرتاح قليلًا.”
ابتسمت لها مارتا بلطف، ونهضت بتلك الحركة البطيئة التي اعتادت عليها بسبب عمرها. “انتظري، خذي هذا.” ناولتها زجاجة صغيرة فيها حليب دافئ. “قمت بحلبه هذا الصباح، طازج تمامًا. سيساعدك على الاسترخاء.”
أخذته جين، شكرتها برقة، وودعتها، ثم غادرت بخطوات هادئة.
لكن ما إن ابتعدت قليلًا عن الكوخ، حتى تغير وجهها، ونظراتها بدأت تمسح الطرقات بدقة.
تأكدت أن لا أحد يراها، واستدارت في الاتجاه المعاكس، تمشي بخفة وسرعة على الطريق الضيق المؤدي إلى المنزل الصغير المجاور، والساكن فيه ليس سوى الدوق أوتيس.
توقفت أمام الباب الخشبي، قلبها يخفق بشدة، ثم رفعت يدها وطرقت الباب بقوة.
دون تفكير، طرقات متتالية… غاضبة… متوترة.
لم تمضِ لحظات حتى فُتح الباب، ظهر أوتيس أمامها، يرتدي قميصًا بسيطًا وبنطالاً داكن اللون، شعره غير مرتب وعيناه الرماديتان رمشتا في دهشة.
“جين؟ ما الذي-“
لم تمنحه الفرصة لإكمال جملته. دفعت الباب بكلتا يديها، دفعت صدره بقوة خفيفة، ودخلت بسرعة، مغلقة الباب خلفها.
اتسعت عيناها بدهشة، وصاحت: “أنت…! كل مرة تفعل هذا! ، تجرحني، تكسرني، ثم تعود وكأن شيئًا لم يكن! تقول آسف، وتبتسم، وتتصرف وكأنك لم تحرق قلبي مرات ومرات! أنت لا تتغير اوتيس “
اقترب خطوة أخرى، وأمسك بيدها فجأة. حاولت التراجع لكنها لم تستطع.
رفع يدها، ونظر في عينيها، ثم طبع قبلة طويلة على كفها، قبلة ناعمة لكنها مشحونة بكل ما لا يُقال.
“إذًا…” همس بصوت حنون. “علميني كيف أتغير.”
تجمدت الكلمات على شفتيها.
نظرت إليه، لا تعرف إن كانت غاضبة أم مذهولة.
قلبها يصرخ بألف شعور، لكنها لا تستطيع أن تختار واحدًا لتتمسك به.
اقترب أكثر، ووضع راحة يده على خدها.
أغمضت عينيها… للحظة واحدة فقط، تركت نفسها تستشعر دفء لمسته، الأمان الكاذب الذي لطالما أحبته.
ثم استيقظت.
ابتعدت عنه، خطوة حادة.
“لا تتعب نفسك، أوتيس.” قالتها بصوت مرير. “لن أسامحك. لا اليوم، ولا غدًا، ولا حتى بعد عام. عد إلى دوقيتك… المكان الذي تنتمي إليه.”
ثم استدارت ببطء، تنظر إلى المنزل البسيط حولها.
“وهذا المكان؟ لا يناسبك. لا يمكنك العيش هنا بدون خدم يلبون طلباتك، ولا حاشية تفرش لك الأرض ورودًا. هذا العالم… ليس عالمك.”
لكن أوتيس لم يتزحزح. ابتسامته لم تتغير.
“أنتِ مخطئة في كل هذا.” قال بهدوء. “أنا لن أعود إلا وأنتِ معي. لن أترككِ مجددًا، مهما حدث.”
نظرت إليه، عيناها تتوهجان بين الدهشة والغضب.
ثم أدارت ظهرها، وذهبت نحو الباب.
“اراك لاحقا يورا!” ناداها باسمه المستعار، بنبرة مرحة مقصودة.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 23"