مرت ثلاثة أيام منذ أن وصل الدوق أوتيس إلى دوقية “ميرالد”، ثلاثة أيام من العمل المتواصل لإخماد الفوضى التي خلفها التمرد الأخير.
كان يقف في قاعة الحكم العتيقة، يوقع على وثائق المصادرة والعقوبات، بينما حراسه يقفون كالتماثيل عند الأبواب.
في منتصف ذلك اليوم، بينما كان ينهي أمرًا بإعدام أحد المتمردين، دخل عليه رسول القصر، يرتجف كالورقة في مهب الريح.
“سيدي… رسالة عاجلة من القصر.”
أخذ الورقة المختومة بختم العائلة المذهب، وفتحها ببرود.
لكن مع كل كلمة يقرأها، كان وجهه الشاحب يتحول إلى لونٍ أقرب إلى الرماد. “لا… لا يمكن!”
“سيدي؟” تجرأ أحد المستشارين على السؤال.
لكن الدوق لم يسمعه.
قبض على الورقة بيده حتى تجعدت، وعضلات فكه تشدت كأنها ستنكسر.
“لقد فعلتها مجددًا…” همس بصوتٍ غليظ·
ألقى بالرسالة على الأرض، ثم التفت فجأة إلى قائد فرسانه، “سير إيفان!”
اقترب الفارس الطويل، درعه يصدئ ضوء الشموع الخافت. “أمرك، سيدي؟”
“ستتولى قيادة المهمة هنا بدلاً عني. عليك إنهاء إعدام المتمردين ومصادرة أملاكهم قبل نهاية الأسبوع.”
“سيدي؟!”ارتسمت الصدمة على وجه سير إيفان. “لكن… الدوقية لا تزال غير مستقرة. نحتاج إلى وجودك هنا!”
“لدي ما هو أهم!” انفجر الدوق، وصوته يدوي في القاعة كالرعد. “الدوقة … لقد هربت من القصر!”
ساد صمت ثقيل للحظة.
“كيف؟” سأل سير ايفان بحذر .
“خدعت الخدم!” زمجر الدوق اوتيس وهو يفرك جبهته المتوترة. “أمرتهم بعدم إيقاظها، وعندما دخلوا الغرفة عند الظهيرة… كانت قد اختفت! والرسالة استغرقت أيامًا لتصل!هاذ يعني انها ابتعدت جدا”
سير إيفان أدرك أن الجدال غير مجدٍ خصوصا انها تجمل وريثه .
انحنى قليلاً. “كما تأمر، سيدي. لكن… من سيرافقك في العودة؟”
“لا أحد. سأعود بمفردي، والخيل السريع.” ثم أضاف بنبرة أخفض، لكنها أكثر رعبًا: “ولكن… أريدك أن تستدعي فرسان الظل إلى القصر في الحال.”
فرسان الظل… وحوش الدوق الحقيقية. رجال لا يعرفون الرحمة، مهمتهم الوحيدة هي الصيد والإرجاع… أو القتل.
“كلهم، سيدي؟”
“كلهم.” تأكد الدوق، وعيناه تشتعلان بنار غريبة.
في غضون ساعة، كان أوتيس يمتطي صهوة حصانه الأسود، يغادر دوقية ميرالد في عاصفة من الغبار والغضب.
سير إيفان وقف عند البوابة، يشاهد ظله يختفي في الأفق تنهد وعاد ادراجه .
***
مرّت أيام منذ حادثة السرقة في الزقاق، وجين لا تزال تقيم في “نزل القمر الفضي”. كانت شمس الظهيرة تخترق نوافذ غرفتها الصغيرة عندما استيقظت من نوم مضطرب. وضعت يدها على بطنها المنتفخ بحنان، ثم همست
“حان الوقت للخروج يا صغيري… يجب أن نجد طعامًا جيدًا لك.”
في البداية، لم تكن تخرج كثيرًا، خائفة من أن يلمحها أحد أو يصل إليها خبر عن اقتراب أوتيس.
كانت كل ليلة تمرها تنام وهي تتخيل صدى خطواته في الطرقات، أو صوت صهيل حصانه وهو يقترب. لكنها… نجت.
مرّت الأيام ولم يظهر شيء. لا فرسان، لا أسئلة من الغرباء، لا همسات تشير إلى كونها مطلوبة. ومع ذلك، لم تكن تملك الطمأنينة الكافية لتتنفس براحة، كانت تنام كل ليلة بثيابها تحسّبًا للهرب إن اضطرّت.
في هذا اليوم، كانت الشمس قد بدأت تغيب، ترسم بأشعتها خطوطًا ذهبية على النوافذ الخشبية البسيطة.
كانت جين تقف أمام المرآة المتشققة في الغرفة التي استأجرتها تُعدّل من وشاحها .
“حسنًا، هذا أفضل.” قالت لنفسها وهي تتنهد.
نظرت في المرآة الصدئة في الغرفة، وكانت تلمح لأول مرة منذ أسابيع ملامح المرأة التي كانت قبل كل هذا الرعب.
ارتدت فستانًا بسيطًا بلون الخزامى، شعرها مربوط للأعلى بعناية، وملامحها هادئة رغم القلق الساكن في عينيها.
اليوم قررت زيارة ذلك المطعم الفخم الذي رأته من بعيد أثناء تجولها ذات صباح. كانت قد حاولت دخوله من قبل حين تنكرت بزيّ رجل، لكنهم طردوها قبل أن تطأ قدماها عتبة الباب. “مكانٌ للنبلاء فقط.” هكذا قال الحارس.
اقتربت من المبنى الكبير، زجاج نوافذه يعكس الأضواء الدافئة، وأصوات الأوتار الخافتة تتسلل منها.
رفعت رأسها إلى الأعلى، حيث يمتد السطح المزدان بالأضواء، والنجوم تلمع فوقه كأنها تستمع إلى الموسيقى أيضًا.
خطت خطواتها بثقة مصطنعة، وعندما تجاوزت البوابة لم يعترضها أحد هذه المرة.
الحارس انحنى قليلًا وهو يسمح لها بالمرور، وعامل الاستقبال ابتسم لها بلطف.
صعدت السلم الداخلي بخطوات هادئة، وكلما اقتربت من السطح، ازداد بريق المكان في عينيها.
كان المطعم مدهشًا.
أرضيته من الخشب الداكن اللامع، الطاولات مستديرة مغطاة بمفارش عاجية، والمصابيح المعلقة ترقص بظلال ذهبية على السقف المفتوح.
كانت أنفاسها تحبس وهي تدور بعينيها على المنظر، لم تلحظ حتى حين اصطدمت بأحدهم فجأة وكادت تقع.
يد قوية أمسكت بذراعها برفقٍ قبل أن تسقط.
“هل أنتِ بخير؟”
رفعت رأسها بسرعة، متوقعة وجهًا غريبًا، لكنها صُدمت.
الشعر الأسود ذاته، لكن مرتب هذه المرة، وعيناه الزرقاوان العميقتان تتأملانها بدهشة خفيفة.
كان يرتدي سترة داكنة بلمعان خفيف، وأزرار فضية صغيرة تلمع على صدره.
“أنت…” تمتمت بغير تصديق.
ابتسم بلطف وهو يترك ذراعها بهدوء. “أجل، “إنها مفاجأة سارة أن أراكِ هنا… وبصحة جيدة.” ثم أضاف بنبرة مرحة: “وبملابسك الحقيقية هذه المرة.”
“وأنا كذلك. يسعدني رؤيتك بخير.”
أخفضت رأسها بابتسامة خجولة، “وشكرًا مجددًا… على إنقاذي في المرة السابقة.”
” هممممم… اذا إن كنتِ ممتنة، فدعيني أتناول الطعام معكِ هذه الليلة.”
رفعت حاجبيها بدهشة، لكنها سرعان ما ابتسمت وأومأت “لم لا؟”.
توجها معًا إلى طاولة صغيرة في الزاوية، محاطة بالورود الصغيرة المضاءة.
جلس أمامها، وأشار للنادل ليحضرا قائمة الطعام.
ألقيا نظرة سريعة، ثم طلبا بضعة أطباق من الحساء والدجاج المتبل وخبز الزبدة الشهير.
“هل أتشرف بمعرفة اسمك هذه المرة؟” سألها وهو يضع المنديل على ركبتيه.
ترددت للحظة، ثم ابتسمت. “اسمي يورا.”
قالتها بثقة، رغم أن قلبها خفق بقوة.
لم تكذب، ليس تمامًا… يورا كان اسمها قبل أن تتجسد داخل هذا العالم، اسمها الحقيقي، الذي احتفظت به كسرٍ خاص منذ اليوم الأول.
“اسم جميل.” قال مبتسمًا. “أما أنا… فاسمي إكزافيير.”
“إكزافيير؟” رددت، تجرب اسمه على لسانها.
“ابن أحد النبلاء الأثرياء، على الأقل هذا ما تقوله الأوراق. والدي مريض مؤخرًا، لذلك أتنقل بين البلدات… وأصرف أمواله بينما أستطيع.”
ضحكت جين بخفة، “أنت تعترف بأنك بلا هدف؟”
“ليس تمامًا.” قال وهو يرفع كتفيه. “الراحة والاستمتاع بالحياة هدف بحد ذاته.”
أومأت له، “وجهة نظر مثيرة.”
وصل الطعام، وبدأت رائحة التوابل تملأ الطاولة.
بدآ بتذوق الحساء، ثم انتقلا إلى قطع الدجاج المحمر بعناية. كانت جين تشعر بالجوع، لكنها لاحظت أنه يراقبها بنظرة فيها حذر.
“هل لي أن أسأل عن شيء…؟”
توقفت عن الأكل ونظرت له.
“في المرة السابقة، هل يمكنك أن تخبريني لماذا كانت أميرة حامل متنكرة كرجل في زقاق مظلم؟”
تنهدت بخفة، ووضعت الملعقة جانبًا.
“زوجي توفي، وكنت حاملًا. عائلته أرادت التخلص مني… حتى لا أرث منه شيئًا. هربت لأحمي نفسي… وطفلي.”
شعرت بيديه تتوقف للحظة قبل أن يهمس “أعتذر لسماع ذلك.”
“لا عليك.” أجابت وهي ترفع كأس الماء لرشفه.
“ألا تخافين أن يعثروا عليك؟”
أومأت ببطء، “أخاف، لكن لا أملك خيارًا آخر. لا أعرف أماكن كثيرة.”
صمت قليلًا، ثم قال: “أنا أعرف جزيرة.”
رفعت نظرها إليه.
“جزيرة لا تتبع أي دوقية، لها حكم مستقل. أملك هناك منزلًا صغيرًا، يمكنني استئجاره لكِ إن أردتِ. لن يعرف أحد أنكِ هناك.”
صمتت وهي تحاول قراءة صدقه.
“ولِمَ تساعدني؟” سألت بشك.
ابتسم ابتسامة دافئة، لكنها لم تخلُ من الغموض.
“هل يجب أن أقف مكتوف اليدين بينما أرى سيدة نبيلة، خائفة، محتاجة للحماية؟ مبادئي لا تسمح لي بذلك.”
نظرت إليه، بعينين نصف مطمئنتين ونصف متردّدتين، ثم أومأت. “حسنًا… سأقبل عرضك.”
ابتسم إكزافيير ابتسامة حقيقية هذه المرة.
“عظيم. سأغادر بعد يومين. كوني في الميناء عند الغروب، وسأنتظرك هناك.”
“شكرًا، إكزافيير.”
“العفو… يورا.”
تناولا طعامهما بهدوء، والحديث بينهما تحوّل إلى أحاديث عابرة عن القرية، الطقس، والأطعمة الغريبة التي تذوقها في رحلاته.
عندما أنهيا العشاء، مشيا معًا نحو باب المطعم. إكزافيير أخذ يدها وقبلها بطريقة أرستقراطية.
“إلى اللقاء، يورا. احذري في طريقك إلى النزل.”
شعرت جين بدفء غريب يغمرها. “شكرًا لك… على كل شيء.”
وبينما كانت تبتعد في شارع القرية المظلم، لم تستطع إيقاف نفسها من الالتفات للنظر إليه مرة أخيرة.
كان لا يزال واقفًا عند باب المطعم، يتبعها بنظره، كأنه يحرسها من بعيد.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 20"