يومٌ انتظره الجميع بشغف، بينما كانت “جين” تنتظره برعب.
جلست على الكرسي الحريري أمام المرآة، تحيط بها ثلاث خادمات منهمكات بتسريح شعرها وتزيين وجهها وكأنها لوحة فنية تُهيّأ للعرض الأخير.
لم تكن تقاوم، لم تكن تشارك… كانت تحدق في انعكاسها بعينين شاردتين، شفتاها مطبقتان، ويدها تعصر المنديل الحريري في حجرها بقوة.
“آنستي، نرجو أن تبقي رأسك مستقيمًا…” تمتمت إحدى الخادمات بخفوت وهي تحاول تثبيت التاج الذهبي على شعر جين الداكن، فتجاوبت جين بلا كلمة.
دخلت ليليان إلى الغرفة بهدوء، أغلقت الباب خلفها، ثم اقتربت وهمست بصوت لا يسمعه سواها:
“كل شيء جاهز سيدتي . الممر الخلفي فارغ، والمال الذي جمعناه في الحقيبة… والعربة تنتظر.”
رفّت عينا جين، وارتجف قلبها للحظة.
“شكراً، ليليان…” قالتها بصوت بالكاد يُسمع، ثم تنهدت ببطء.
“هل أنتِ… متأكدة من رغبتك بهذا؟ يمكننا التراجع، لا زال هناك وقت.”
أجابت جين بعينين تملأهما العزيمة:
“تراجعت بما يكفي. هذه المرة… لن أنتظر أن يُطلق عليّ النار كي أهرب.”
ثم أغمضت عينيها… وعاد بها عقلها إلى الوراء.
[فلاش باك – قبل أيام]
كانت لا تزال في قاعة الطعام، بعد أن غادر أوتيس بدون أن يلتفت.
انكمشت على الكرسي، وقلبها يضجّ بالذل والغضب.
‘لن أدعه يهزمني… لكن لا فائدة من محاولة إغرائه… ليس بهذا الشكل.’
قضت تلك الليلة بلا نوم، تُقلب الاحتمالات.
حتى خطرت لها فكرة بسيطة، واضحة، جريئة:
“الهروب.”
‘إذا كانت الرواية تسير نحو موتي، فأنا لن أكون هناك حين يحدث ذلك.’
ابتسمت لأول مرة منذ أيام، وأضاءت الشرارة في عينيها.
في اليوم التالي، بدأت العمل.
طلبت من ليليان سراً أن تحضر لها حقيبة صغيرة، وبعض الملابس القطنية البسيطة التي يرتديها عامة الناس، على أن تكون بألوان باهتة لا تلفت الانتباه.
ثم، بحجة شراء لوازم الزفاف، خرجت مرة أخرى إلى السوق.
لكن هذه المرة، لم تكن لتشتري الفساتين أو الحلي، بل توجهت إلى متجر خرائط قديم في زقاق ضيق، حيث اشترت خريطة مفصلة للدوقية، بحثت فيها عن منطقة ريفية بعيدة، قرب الغابة الشرقية…
منطقة تُعرف بقلة سكانها وبعدها عن القصور والموانئ.
‘هناك سأعيش.’
فكرت، ‘سأتخفّى كخياطة أنا مصممة ازياء محترفة وساستغل هاذ الشيء او يمكن ان اتخفى كطاهية … أي شيء. فقط… أعيش.’
باعت بعض المجوهرات الصغيرة التي لا يُلاحظ غيابها من بين عشرات العلب في غرفتها، واستبدلتها بقطع ذهبية سهلة الحمل.
كل شيء تمّ بحذر، ولم تشكّ فيها أيّ من الخادمات، عدا ليليان التي صارت رفيقتها في المؤامرة.
“متى ستغادرين؟” سألت ليليان في تلك الليلة.
“يوم الزفاف.” أجابت جين ببرود ووضوح.
“حين يبدأ الموكب، ويُفتح الباب الكبير، سيكون هناك لحظة واحدة فقط… لحظة سيُترك فيها الممر خالياً… سأهرب لحظتها “
[نهاية الفلاش باك]
“آنستي، اكتمل تسريح شعرك… هل تودين النظر؟” سألت الخادمة.
هزت جين رأسها بالنفي .
دخل والدها فجأة إلى الغرفة، يرتدي بذلة فاخرة، عطره يفوح، وعيناه مغرورقتان بدموع الفرح.
“أميرتي الصغيرة… لا أصدق أنك ستتزوجين اليوم.”
أجبرت جين على ابتسامة ناعمة، لكنها لم ترد. لم تكن تملك القوة للكذب أكثر.
“ستصبحين زوجة الدوق أوتيس…! الإمبراطورية كلها ستتحدث عن هذا العرس لعقود!” قال والدها، يقبّل جبينها ويضحك من فرط الحماسة.
“نعم…” قالت بخفوت، “سيكون يوماً لا يُنسى حقاً.”
خرج والدها، وبقيت جين تحدّق في انعكاسها الأخير.
لم ترَ “جين إلينور” الشريرة في المرآة.
رأت فتاة خائفة… ولكن مصممة.
‘لن أكون لعبة في يد أحد بعد اليوم.’
***
ثريات كريستال تعلق كنجوم مضاءة، تنثر أضواءً ذهبية على الورود الحمراء التي تزين كل عمود.
و موسيقى الأوركسترا تعزف مقطوعة “فالس الزفاف الملكي”، لكن الإيقاع يبدو كعد تنازلي لمصير جين.
الأعمدة الرخامية تتلألأ تحت ضوء الشموع.
صفوف النبلاء جلسوا في مقاعدهم المذهّبة، يتهامسون عن “العرس الأسطوري” بين أقوى عائلتين.
والزهور البيضاء تنسدل من السقف كستائر من الحلم.
في مقدمة القاعة، وقف الكاهن بهيبته، وبجانبه وقف “أوتيس”.
كان يرتدي بذلته العسكرية الملكية، مُزينة بشارة الدوقية على صدره.
وجهه جامد كتمثال، عيناه تفتش القاعة ببرود.
كان وسيمًا بشكل يكسر الأنفاس، لكن نظراته لا تحمل أي شغف، بل ضجرًا وانتظارًا باهتًا.
من خلفه، جلست فتاة شابة بملامح بريئة، شعرها البني مجدول برقة، ترتدي ثوبًا زهريًا بسيطًا، لكنها تشعّ رقّةً وبراءةً لدرجة أن معظم الحاضرين التفتوا إليها أكثر من العروس المرتقبة.
كانت تلك هي “إيريس”، صديقة طفولته، من كانت جين تعلم أن قلب أوتيس يمل لها حتى في الرواية الأصلية.
بينما الكل يترقب لحظة فتح الأبواب… كانت جين تختبئ.
***
الساعة تقترب من لحظة الموكب.
الخدم يحثّون الجميع على الجلوس، والعازفون يبدأون عزف اللحن الملكي.
الكاهن ينظر للباب الكبير، وأوتيس يعتدل في وقفته.
“افتحوا الأبواب.” قال كبير المراسم.
تحرّك الحراس والخادمات لفتح المصراعين العملاقين…
لكن… لم يكن أحد هناك.
تجمّدت القاعة.
بدأت الهمسات.
نظر أوتيس نحو الحارس الذي جاء يركض بسرعة وهمس له بكلمات قصيرة.
“لقد هربت.”
شدّ قبضته، حتى تبيّنت عروقه، ثم استدار فجأة وسار نحو المخرج بخطوات حادة.
لم يتوقف، لم يلتفت، لم ينطق بكلمة.
في المقابل، كان والد جين يضحك وينتظر بحماسة… حتى اقترب منه أحد الخدم، وهمس في أذنه نفس الخبر.
فجأة، سقط وجهه كمن ضُرب بمطرقة.
“جين…؟ مستحيل…”
ونهض ليلحق بأوتيس، صوته يختنق بالغضب والذعر.
وسط كل هذا، صعد مضيف الحفل إلى المنصة، وبصوت مضطرب قال:
“أيها السادة النبلاء… هناك أمر طارئ سيتم التعامل معه في أقرب وقت… الرجاء الاستمتاع بالعروض الموسيقية إلى حين إشعار آخر…”
كانت الموسيقى تعزف، لكن لا أحد كان يستمع.
الجميع… كان يتهامس.
“هل هربت العروس…؟”
“أهذا حقيقي؟”
“هذه فضيحة…”
“لا بد أنها خائفة من الدوق!”
“أو ربما وجدت عشيقًا أفضل كعادتها !”
***
هدأت الضوضاء الصاخبة التي ملأت القصر قبل قليل.
تبدّلت أجواء الفرح والاحتفالات إلى توتر يكاد يُقطع بالسكين، بينما اجتمع عدد من الفرسان في غرفة جانبية داخل الجناح الملكي.
كانت إحدى الغرف المخصصة للاجتماعات الرسمية، وقد امتلأت فجأة بالحركة والقلق، لا بأوراق المعاهدات ولا بالمخطوطات الإمبراطورية.
جلس والد جين على كرسي مخمليّ مذهب في الزاوية، يضع يده على صدره ويكاد يفقد وعيه من الصدمة.
وجهه الشاحب المتجعد يتصبب عرقًا، وعيناه تدوران في فراغ لا يستوعب ما حصل.
“لا… لا يمكن أن تكون فعلتها حقًا… لا يمكن!” تمتم بين أنفاسه المتقطعة، بينما اقترب منه كبير خدمه، رجل في منتصف الخمسينيات يدعى “مارفن”، يحمل كوبًا صغيرًا من الشراب المنعش محاولًا تهدئته.
“سيدي، من فضلك اشرب هذا، سيعيد لك توازنك قليلًا… كل شيء سيتضح، ربما الأمر مجرد سوء تفاهم.”
لكن جورج هزّ رأسه ببطء، غير مصدّق. “لقد فضحتني… في أهم لحظة! أمام الإمبراطورية كلها!”
في الجهة الأخرى من الغرفة، وقف الدوق “أوتيس” بجانب أحد أعمدة الغرفة، كتفاه العريضتان مشدودتان، ويداه مشبوكتان خلف ظهره، بينما عيناه الرماديتان تتوهجان بغضب مكبوت.
كان أشبه بنمر يقف على حافة الانقضاض.
“لقد خططت لهذا…” قال بصوت خفيض، حاد كالسكين، موجّهًا حديثه لنفسه أكثر من أي أحد آخر. “ليس مجرد تصرف طفولي. إنها تعرف بالضبط ماذا تفعل.”
أدار وجهه نحو القائد الشخصي لفرسانه، رجل طويل رمادي الشعر يُدعى “سير إيفان”.
“أمرك، سيدي.” انحنى الفارس وأعطى إشارة سريعة لأحد الحراس، قبل أن يخرج بخطى سريعة.
“إنها لا تعرف مع من تعبث.” تمتم أوتيس، عيناه تتوقدان بالغضب.
“كانت هذه فرصتها الوحيدة لتحسين صورتها أمامي… لكنها اختارت أن تهينني. في يوم زفافنا.”
“أرجوك، دوقي…” قال والد جين بصوت خافت، محاولًا الوقوف على قدميه، لكنه تمايل، فامسك بيده مارفن .
“ابنتي… لا بد أنها… خافت فقط، ربما أصابها الذعر. كانت دائمًا حساسة…”
أوتيس لم ينظر نحوه. “ابنتك كانت دائمًا مخادعة، والآن ستدفع الثمن.”
***
في أحد أزقة العاصمة الخلفية، تحت غطاء الظلام والضجيج، كانت “جين” تمشي بخطى سريعة متوترة، تتلفت كل لحظة خلفها، وخفقان قلبها يملأ أذنيها.
كانت ترتدي معطفًا رماديًا خشنًا يخفي فستانها البسيط، ولفّت وشاحًا باهت اللون حول شعرها الأشقر الذي خبأته أسفل قبعة صغيرة مهترئة.
لم تكن تشبه جين النبيلة على الإطلاق، بل فتاة من العامة تبحث عن عمل أو ملجأ.
في يدها، كانت تحمل حقيبة جلدية صغيرة، مخبأة تحت معطفها، بداخلها ما تبقى من مجوهراتها التي باعت أغلبها سرًا في السوق الأسود.
وفي الجيب الداخلي للمعطف، كانت الخريطة، مطوية بعناية، تشير إلى طريقها إلى “ميناء فالين”، الميناء الوحيد الذي لا يخضع تمامًا لسلطة الدوق هذا ما اخبرتها به ليليان .
“عليّ أن أصل بسرعة…” تمتمت، تلتقط أنفاسها بصعوبة من الركض والضغط.
‘إذا اكتشف أنني هربت حقًا، فسيملأ المدينة حرّاسًا…’
كانت قد خططت بدقة.
من تلك الليلة التي أهينت فيها أمامه، لم تغلق جفنها دون التفكير بطريقة للهرب من مصيرها. لم يكن كافيًا أن تحاول تغييره من الداخل. هذا العالم لن يعاملها كـ”يورا”… الجميع يرونها “جين”، والوحيد الذي قد يمنحها فرصة، سحق كرامتها بلا رحمة.
فكّرت مرارًا وتكرارًا، حتى توصلت إلى الخطة. لا مواجهة. لا محاولة إقناع. فقط هروب. تغيّر مصيرها بنفسها، بعيدًا عن الرواية، بعيدًا عن البطل، بعيدًا عن الدم.
واصلت السير بين الأزقة، تحاول التخفّي، تُخفض رأسها، تتجنب أعين الرجال، وتضغط على خريطتها بين أصابعها.
الطريق إلى الميناء لم يكن طويلًا، لكنها شعرت أن كل خطوة تُثقل ألف مرة بقلقها.
الهواء عند الميناء كان مشبعًا برائحة البحر والسمك والعرق، مزيج قاسٍ، لكنه أفضل من رائحة العطر الكثيف والذهب الذي كانت تحيط نفسها به في القصر.
وصلت جين إلى أطراف “ميناء فالين”، ووضعت يدها على قلبها تحاول تهدئته.
كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب، وموج البحر يتكسر بهدوء على الصخور، في تناقض صارخ مع الاضطراب الذي في داخلها.
نظرت حولها، كانت السفن التجارية تملأ المكان، وأصوات الرجال وهم يحمّلون البضائع تصدح في الأرجاء.
تخطّت الرجال والبحّارة بحذر، تتلفت حولها مرارًا.
وبين الحين والآخر، كانت تلمح وجوهًا مألوفة لجنود الحرس، يسألون الناس، يتنقلون بين الأزقة القريبة.
اقتربت من منصة خشبية تتجه نحو سفينة صغيرة
“تذكرة واحدة إلى ريفهام، من فضلك.”
دفعت قطعتها الذهبية الأخيرة.
البحار العجوز نظر إليها بشك، لكنه أخذ المال. “السفينة تبحر بعد عشر دقائق.”
صعدت بسرعة وقدمها تكاد تزلّق على السلم الخشبي. ثمالمحرك بدأ يعمل و الحبال تُفك والمجاديف تتحرك والماء يبتعد عن الرصيف..
“لقد نجوت!” كادت تصرخ من الفرح.
لكن السفينة توقفت فجأة.
الركاب يتهامسون بالارتباك.
اهتزّت، ونظرت حولها بصدمة.
“ماذا يحدث؟” سألت البحّار الذي بدا مرتبكًا.
ثم سمعت صوت خطوات ثقيلة تقترب…
وصوتًا مألوفًا، عميقًا، كالسيف المجرّد.
“توقفوا.”
جمدت جين والتفتت ببطء.
كان يقف عند مقدمة السفينة، شعره الأسود يرفرف مع الهواء، عيونه الرمادية تشتعل بغضب صامت، ومعطفه الداكن يتماوج مع الريح كراية معركة.
“اوتيس…”
همست باسمه دون أن تدرك، وقلبها يسقط من مكانه.
كان خلفه ثلاثة من فرسانه، يملكون نفس نظرة القسوة والانضباط.
“وجدتكِ، أخيرًا.” قال بصوت منخفض لكنه يقطر تهديدًا.
وقفت جين ببطء، تتراجع خطوتين.
“لا تقترب.” قالت وهي ترتجف، تحاول التماسك.
رفع حاجبه بسخرية. “هربٌ؟ في يوم زفافك؟ هل هذا ما وصلنا إليه، آنسة إلينور؟”
لم تجب.
اقترب خطوة داخل السفينة، والجميع ينظر إليه مذهولين.
“هل تحاولني اهانتي جين ايلينور ?! .” قالها بصوت خفيض. “لقد لعبتي مع الشخص الخطا .”
شحب وجهها. عقلها كان يصرخ، يبحث عن مخرج، عن أي سبيل للهرب.
لكن البحر لا يمنح ممرات طوارئ.
تجمدت جين في مكانها، تحدق في عيني أوتيس التي تشع بالغضب والنار. قلبها ينبض كطبل حرب، وكل خلية في جسدها تصرخ للهروب.
خطوة واحدة فقط… كانت تفصلها عن حافة السفينة.
نظرت حولها، ركاب السفينة تجمّعوا خلفها، يتابعون المشهد بصمت ثقيل. لا أحد سيتدخل، لا أحد يجرؤ.
في تلك اللحظة، كان البحر يبدو كخلاص وحيد. حتى الموت لم يعد مرعبًا كما كان. بل بدا لها أرحم من العودة إلى ذراعي ذلك الرجل.
شدت قبضة يدها على الحقيبة الصغيرة، ثم أدارت جسدها وركضت نحو الحافة.
لكنها لم تقطع سوى نصف المسافة.
يد قوية، ساخنة وخشنة، أمسكتها من معصمها بعنف.
صرخت بألم، قدّمها زلّت، لكن أوتيس سحبها بقوة حتى اصطدمت بصدره، ووجهه قريب منها لدرجة أنها شعرت بأنفاسه الغاضبة على خدها.
“هل جننتِ؟!” زأر بصوت مكتوم.
حاولت أن تتخلص من قبضته، لكن أصابعه كانت كالقيد.
“دعني! أفضّل الموت على العودة معك!”
“ستعودين رغماً عنك.”
قال من بين أسنانه، يشد على فكّه.
“لقد انتهى كل شيء! لن أتزوجك! لن أكون لعبتك!” صرخت، والدموع في عينيها.
“لقد فات الأوان على تلك الكلمات، آنسة إلينور.”
عينيه كانتا كالثلج، لا شفقة فيهما.
“لقد اتخذت قرارك، والآن ستتحملين نتائجه.”
ثم سحبها بعنف خلفه، متجاهلًا صراخها وارتجافها، وسط نظرات الركاب المصدومة.
عاد بها إلى القصر، يجرها من معصمها كما لو كانت أسيرة.
الحراس فتحوا الأبواب أمامه دون أن ينبس أحدهم بكلمة.
في ممرات القصر المزينة بالزهور البيضاء، كانت آثار الزفاف لا تزال قائمة، والموسيقى خمدت منذ زمن، لكنها ظلت عالقة في الهواء مثل طيف حزين.
دخل الغرفة الجانبية ، ليجد والدها ينتظر هناك، وجهه أحمر من الغضب ويده ترتجف بعصاه الذهبية.
“جين!” صرخ والدها ما إن رآها، وركض نحوها متجاهلًا آلام قدميه. “ماذا فعلتِ؟! هل فقدتِ صوابك؟! لقد جلبتِ العار علينا!”
حاولت أن تتحدث، لكن صوتها اختنق.
“كنتِ ستصبحين دوقة الإمبراطورية، والآن؟! الكل يهمس، الكل يضحك! حتى النبلاء الذين كانو يتوسلون لصداقتنا!”
أراد أن يصفعها، لكن أوتيس رفع يده ومنعه.
“سأتولى أمرها من الآن كونت الينور ” قال بصوت بارد.
ثم جذبها خلفه دون أن يسمح لها حتى بالنظر إلى والدها مجددًا.
أخذها إلى جناح خاص يقع في الطابق العلوي، جناح واسع ومعزول. هناك، دفع الباب بيده وفتح لها الطريق.
“ادخلي.”
وقفت مكانها تتنفس بعنف، وعيناها متورمتان من الدموع.
“لن أفعل.”
“جين.” قال اسمها بنبرة تحذير. “ادخلي قبل أن أفقد صبري.”
دخلت، لكن رأسها مرفوع، رغم كل شيء لم تشأ أن تمنحه انتصارًا آخر.
أغلق الباب خلفه، ثم رمى بحقيبتها الصغيرة على الأرض، ووقف أمامها بهدوء مريب.
“ظننتِ أن خطتك ستمر دون أن ألاحظ؟
هل تظنين أن الهروب من تحت يدي أمر سهل؟”
“لا أريدك.” قالت بصوت مبحوح لكنه ثابت. “لا أريد هذا الزواج. لا أريد أن أكون جزءًا من هذه اللعبة.”
اقترب منها، ومدّ يده إلى صندوق وضعه أحد الحراس على الطاولة القريبة.
فتحه، وأخرج منه فستان زفاف جديد، مختلف عن السابق .
“سترتدينه.”
“لن أفعل.” قالت وهي تشد قبضتها.
“جين…” قال بصوته العميق المنخفض، ثم أضاف بهدوء مرعب: “إما أن ترتديه بنفسك، أو سأقوم أنا بتلبيسه لك بنفسي “
اتسعت عيناها. “أنت لا تجرؤ!”
اقترب منها حتى شعرت بحرارة أنفاسه على وجهها. “جربي.”
تراجعت خطوتين، لكن رأسها كان يشتعل بالغضب.
نظرت إلى الفستان، ثم إلى عينيه.
“حسنًا…” تمتمت من بين أسنانها. “سألبسه. لكن ليس لأجلك.”
ابتسم بسخرية. “كما تشائين.”
ثم صفق بيده مرة واحدة. الباب فُتح، ودخلت ثلاث نساء يرتدين زي الحارسات الملكيات، وجوههن صارمة كالصخر.
“لن تخرج من هنا حتى ترتديه. وسيبقين معها حتى تخرج الى الممر .”
ثم تبعته خادمتان من خادماتها، يحملن أدوات التجميل والشعر.
“جهّزنها. لدينا زفاف نكمله.”
نظرت إليه جين بكره، لكنه لم يبادلها النظر. استدار وخرج من الغرفة، والباب يُغلق خلفه بإحكام.
عندما اختفى صوت خطواته، جلست جين على الأرض، تُخبئ وجهها بين يديها.
انهارت.
كل الخطة، كل الأمل، تحطم بلحظة.
فشلت.
هربت لتغير مصيرها، لكن القصة استعادت قبضتها عليها مجددًا.
دموعها سقطت بصمت على أرض الغرفة، بينما الخادمات بدأن في فتح الحقيبة وتحضير أدوات التجميل، وكأن شيئًا لم يحدث.
***
عمّ همسٌ متوتر في القاعة الكبرى، حيث جلس الضيوف على مقاعدهم المزينة بأقمشة العاج والذهب.
مرت أكثر من ساعة منذ أن اختفت العروس، وبدأت أصوات التذمر ترتفع، حتى النبلاء الأكثر تحفظًا تبادلوا نظرات التساؤل والريبة.
“هل ألغِي الحفل؟” همست سيدة نبيلة بشعر فضي إلى زوجها.
“أم أن العروس هربت فعلاً؟ هذا لم يحدث من قبل في زفاف ملكي…” علّق شاب بجانبها وهو يرفع كأسه.
كل شخص في القاعة كان يهمس لنفسه أو لجاره، والعيون تتجه مرارًا إلى الممر الطويل المؤدي إلى الباب الكبير، وكأنهم يتوقعون ظهور أحد ما يوضح ما يجري.
وفجأة، فُتح الباب الجانبي الصغير على يمين القاعة، ودخل منه رجل يرتدي الزي الرسمي الخاص بالمضيفين الملكيين، ظهره مستقيم ، وصوته ثابت رغم التوتر الواضح في نبرة صوته.
“أيها السادة والسيدات الكرام… نعتذر عن التأخير غير المتوقع.”
انحنى قليلًا، ثم تابع: “سيُستأنف الزفاف خلال لحظات قليلة. الرجاء البقاء في أماكنكم.”
توقف الهمس فورًا، وتبدّلت الوجوه من القلق إلى الفضول والانتظار، بينما بدأت الأوركسترا تعزف لحنًا ناعمًا هادئًا، يُمهد لعودة الحفل.
بعد دقائق، فُتح الباب الكبير للقاعة، ودخل منه الدوق “أوتيس” بخطى ثابتة، وجهه جامد لا يكشف شيئًا مما يدور في أعماقه، لكنه بدا كما لو أنه عاد من ساحة معركة.
إلى يمينه كان الكونت إلينور جورج ، يسير بتوتر وخطوات مترددة، بينما يحاول الحفاظ على مظهر لائق رغم الفضيحة التي كادت تدمّر كل شيء.
نظرات الحاضرين تتبعت الدوق، بعضهم بانبهار، وبعضهم بريبة، لكن أحدًا لم يجرؤ على النطق بكلمة.
وقف أوتيس في مكانه المخصص أمام المذبح، ثم نظر سريعًا إلى حيث تجلس ايريس
عندما التقت عينيه بها، أومأ لها بخفة، في نظرة مطمئنة، فابتسمت له بلطف.
تلك الابتسامة كانت أول دفء يتسلل إلى ملامحه منذ ساعات.
في اللحظة ذاتها، تعالت أنغام الزفاف الملكية مرة أخرى، لكن هذه المرة، بنغمة أكثر هدوءًا، أقل بهجة، وكأنها تحاول تلطيف الجو المشحون بالتوتر.
فُتح الباب الكبير مرة أخرى، ببطء هذه المرة، وكأن اللحظة تنتظر تنفسًا جماعيًا من الجميع.
وظهرت جين.
تقدمت بخطوات بطيئة، متزنة، لكنها تشبه الجليد المتكسر تحت الأقدام.
كانت ترتدي فستانًا أبيض نقيًا، مصنوعًا من الحرير والدانتيل، ينسدل على جسدها كالشلال، بأكمام طويلة شفافة مطرزة يدويًا بأزهار بيضاء صغيرة، وعنق مفتوح يكشف عن عظمة الترقوة الرقيقة. ذيل الفستان كان يجر خلفها كالسحاب، وتاج بسيط مرصع باللؤلؤ يزين شعرها الأشقر المرفوع بتسريحة ملكية.
كانت كأنها خرجت من لوحة فنية.
شهق أحد الحاضرين، وآخر همس “إنها تبدو كأميرة…”
لكن جين، رغم جمالها الآسر، كانت كتمثال من المرمر. عيناها ثابته، وابتسامتها صغيرة مجاملة، خالية من الحياة.
رفعت عينيها ببطء نحو الدوق، لتجده ينظر بعيدًا عنها… نحو “ايريس”.
رأته يبتسم.
كانت تلك اللحظة الأولى التي تراه يبتسم فيها.
ليس لها… بل لامرأة أخرى.
ابتسامة حقيقية، دافئة… شيء لم يمنحه إياها أبدًا.
هزّت رأسها قليلًا، محاولة كتم شعور مختلط بالحزن واللامبالاة
. لم يكن الأمر مفاجئًا، لكنها لم تتوقع أن يؤلمها إلى هذا الحد.
تابعت طريقها نحوه، وكل خطوة كانت أشبه بوضع سلسلة حول عنقها.
وقفت أمامه، على بعد خطوتين، ولم ينبس أي منهما بكلمة.
الكاهن، رجل مسن بلحية بيضاء كثيفة، تقدّم إلى المذبح، وفتح كتاب الطقوس ببطء.
“فلنبدأ مراسم الاتحاد المقدّس…”
بدأت الكلمات تتلى، والموسيقى خفتت لتُفسح المجال لصوت الكاهن. قرأ نصوص القسم، والحديث عن الرباط الأبدي، والوفاء، والحب، والصبر.
كانت جين تستمع، لكنها لم تسمع شيئًا. عقلها في مكان آخر.
تذكّرت حياتها السابقة، تذكّرت كيف كانت تقرأ هذا الفصل من الرواية… هذه اللحظة بالذات.
لكنها الآن، تعيشها.
‘اللعنة على التجسّد.’
تابع الكاهن الطقوس، ثم وصل إلى الجملة التي كانت تنتظرها بقلق…
” أطلب الآن من الزوج أن يطبع قبلة العهد على جبين عروسه…”
سكت الجميع.
جمدت جين في مكانها.
رأت أوتيس يقترب خطوة.
توقفت أنفاسها.
أغمضت عينيها لا إراديًا، وانكمشت شفتيها بتوتر.
لم تكن تعرف ما إذا كانت تخاف، أم تنتظر شيئًا قد يكسر الحائط الذي يحيط بقلبها.
لكن ما جاء لم يكن قبلة.
بل همسة.
صوت خافت، قريب من أذنها، كلسعة باردة وسط صيف حارق:
“مرحبًا بكِ في الجحيم، يا دوقة.”
توسّعت عيناها، فتحت جفنيها بصدمة، وحدقت فيه.
كان يبتسم… تلك الابتسامة التي لا تحمل دفئًا، بل شراسة ممتعة لرؤية فريسة تُساق طوعًا إلى المصير.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"