كان المساء قد بدأ يرخي ستاره على القصر، لتتحول أشعة الشمس الدافئة إلى ظلال باردة تتسلل بين جدرانه العالية.
في جناحها، جلست جين على طرف سريرها، عيناها متورمتان ووجهها شاحب كما لو سُحبت الحياة منه.
ذراعاها تطوقان بطنها، وكأنها تخشى أن يتسلل الخطر إليه من جديد.
كانت تبكي بصمت، ثم تتحول شهقاتها إلى بكاء حار لا يمكن كبته، كأن كل الألم الذي حاولت دفنه انفجر دفعة واحدة.
لم تكن تعلم بماذا تشعر…
هل هي حزينة لأن المكان الذي رممته بحب تحطم أمام عينيها؟
أم مجروحة من الكلمات القاسية في صوته؟
أم أنها غاضبة من نفسها لأنها دخلت البيت الزجاجي دون إذن؟
ربما كل ذلك، وربما أكثر من ذلك بكثير…
“سيدتي… رجاءً، أرجوكِ كلي شيئًا…”
جاء صوت الخادمة المرتجف من جانب السرير، كانت تحمل صينية صغيرة عليها بعض الطعام الساخن، تحاول تهدئة سيدتها بصوتها المرتبك.
“أنتِ… أنتِ حامل، لا يمكنك البقاء على هذا الحال… ستؤذين نفسكِ، وتؤذينه…”
لكن جين لم تجب.
كانت تنكمش أكثر على نفسها، ودموعها تبلل ثوبها الأبيض.
وضعت الخادمة الصينية على الطاولة الصغيرة قرب السرير، واقتربت أكثر، ثم جثت على ركبتيها أمام سيدتها، عيناها تمتلئان قلقًا صادقًا:
“سيدتي، أرجوك… حتى القليل فقط؟ شربة ماء؟ قطعة خبز؟”
هزّت جين رأسها ببطء، وصوتها بالكاد خرج من بين شهقاتها:
“لا أريد شيئًا…اذهبي… فقط اذهبي.”
وضعت الخادمة يدها برفق على يد جين المرتجفة، وأخذت تربت عليها، تحاول تهدئتها بخوف ظاهر في ملامحها، تراقب كل نَفَس تتنفسه سيدتها وكأنها تخشى أن يتوقف في أي لحظة.
في تلك الأثناء، داخل البيت الزجاجي…
كانت الفوضى قد استقرت.
الزهور التي زرعتها جين بيديها تناثرت على الأرض، وبعضها سحق تحت الأقدام.
الآنية مكسورة، الطاولات مقلوبة، والهواء الذي كان يومًا نقيًا وهادئًا، بات الآن مشبعًا برائحة التراب المبلول والغضب المتخثر.
وسط هذا الدمار، جلس أوتيس على الكرسي الخشبي في الزاوية.
كان ظهره منحنياً قليلاً، رأسه بين يديه.
إحدى يديه كانت تنزف، خدوش طويلة وعميقة نتيجة الزجاج الذي اخترق جلده وهو يحطم الأواني.
أما الأخرى، فكانت تمسك شعره بإحكام وكأنه يحاول منع رأسه من الانفجار.
لم يكن البيت الزجاجي الصامت يواسيه، بل يذكّره بكل ما فعله للتو.
كل صورة لوجه جين المرتجف، لعينيها المرعوبتين، لصوتها وهي تقول “لا!”، كانت تتكرر في ذهنه دون توقف.
تذكّر كيف كانت تطوق بطنها بذراعيها وكأنها تحمي الطفل…
طفله.
الطفل الذي لم يطلب شيئًا من هذه الحياة سوى الأمان.
وأول ما تلقاه منه… كان الخوف.
ضغط بيده السليمة على صدغه، أغمض عينيه بشدة محاولًا كتم الصداع العنيف الذي بدأ ينهش رأسه، ولكن الألم لم يكن جسديًا فقط… بل أعمق.
وقف ببطء من مكانه، أنفاسه ثقيلة، عينيه تحدقان في الدمار حوله.
ثم بصوت منخفض موجهًا للخدم الذين تجمهروا عند الباب بتردد:
“أغلقوا هذا المكان.”
صوته كان حادًا، لا يحتمل جدالًا.
“أغلقوه جيدًا. لا أريد أن يقترب أحد منه… مجددًا.”
لم يجرؤ أحد على سؤاله، فقط أومأوا برؤوسهم وغادروا لتنفيذ الأمر.
بعد قليل، عند الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي…
كان أوتيس يصعد ببطء، خطواته ثقيلة، كتفاه متشنجتان.
مرر يده على الدرابزين الخشبي وهو يحدّق في الأرض، شاردًا.
لكنه توقف عندما لمح خادمة جين تخرج من غرفتها تحمل الصينية التي أحضرت فيها الطعام.
لم تكن قد لمست شيئًا.
“انتظري.”
صوته الخافت جعل الخادمة تجفل وتتجمد في مكانها.
رفع عينيه إليها، وسأل ببرود يخفي شيئًا أعمق:
“لماذا لم تأكل؟”
ارتبكت الخادمة، ثم أجابت بصوت مرتجف:
“سيّدتي… لم ترغب في تناول شيء. لقد كانت… فقط تبكي، بهستيريا. لقد حاولتُ تهدئتها مرارًا، لكنها ترفض الطعام، وترتجف طوال الوقت…”
ترددت قليلًا، ثم تمتمت بخوف:
“أنا خائفة عليها يا سيدي… بهذه الحالة، قد تؤذي نفسها أو الطفل دون أن تقصد.”
حدق فيها طويلًا، ثم أومأ لها بصمت، إشارة أن تتابع طريقها.
ولمّا خطت خطواتها مبتعدة، استدار نحو باب غرفة جين.
كان صامتًا.
كل شيء من حوله صامت.
لكن من خلف الباب، كانت شهقاتها تصل إليه بوضوح، ممزوجة بأنين مكبوت وانكسار لا يُخطئه.
رفع يده إلى مقبض الباب…
كاد أن يفتحه.
لكنه توقف.
لم يستطع.
يده ارتجفت، عيناه أُغمضتا بشدة.
ثم عاد خطوة للخلف.
خطوة أخرى.
دون أن يقول شيئًا، استدار بصمت، وسار نحو مكتبه، وكأن شيئًا ثقيلًا يسحب خطواته إلى الداخل.
***
مرّت الأيام ثقيلة كالسلاسل، تقرع جدران غرفة جين بصمتٍ قاتم.
لم تغادر جناحها منذ الحادثة.
صارت الغرفة عالمها الوحيد.
الجدران الأربعة أصبحت حارسة لأسرارها، لصمتها، لحملها، ولكل ما لم تقله.
كانت الخادمة تجلب لها الطعام ثلاث مرات في اليوم، تضعه قرب السرير بصمت، تنتظر لعل سيدتها تنطق بكلمة، ثم ترحل حين لا تجد سوى نظرات شاردة أو ظهور مولي.
كان الدوق يخرج من القصر كل صباح، ولا يعود إلا بعد أن يعمّ الليل.
ظنّ أن وجوده داخل القصر يُثقل على جين، وأن ابتعاده المؤقت قد يمنحها شيئًا من الراحة… ربما يجعلها تشعر بأمان كافٍ لتخرج من عزلتها.
لكنه كان مخطئًا.
كلما عاد وسأل الخادمة عن حالها، كانت تهز رأسها بأسى: “لم تغادر غرفتها، يا سيدي… لا تزال على حالها.”
كان يشعر بشيء ينهش قلبه.
رغبة في الدخول، في التحدث، في الانحناء عند قدمَيها وطلب المغفرة.
لكنه لم يفعل. لم يجرؤ.
كل ليلة، كان يمرّ أمام باب غرفتها، يقف لدقيقة أو اثنتين، يضع يده على المقبض… ثم يبتعد.
شيء ما يمنعه.
شيء أعمق من الخوف.
في هذه الأثناء، صارت إيريس تتردد على القصر أكثر من ذي قبل.
تدخل بجلالها المعتاد، تبتسم ببرود، وتطلب رؤية أوتيس.
لا تسأل عن جين، ولا تذكر ما حدث .
الخدم لاحظوا ذلك.
الهمسات بدأت تنتشر، والتكهنات تتعالى.
لكنهم جميعًا كانوا يعرفون ألا أحد يجرؤ على نطق شيء أمام الدوق.
في أحد الصباحات الرمادية، حيث الغيوم غطّت السماء، جلست جين على سريرها، ظهرها مسنود إلى الوسائد، وجهها شاحب ومرهق، عيناها غائرتان، كأن النوم خاصمها منذ زمن.
كانت تضع يديها على بطنها، تُغمض عينيها، وتستنشق أنفاسًا بطيئة، كأنها تراقب نبض حياة صغيرة تنمو بداخلها.
دخلت الخادمة بهدوء، وعيناها تمتلئان حذرًا:
“سيدتي… لديّ خبر يجب أن تعرفيه.”
فتحت جين عينيها دون أن تحرك جسدها، اكتفت بالنظر إليها بصمت.
اقتربت الخادمة خطوات: “الدوق… سيغادر القصر في مهمة طويلة، ربما تمتد لأسابيع. لقد استدعاه الإمبراطور بنفسه… الأمر يتعلق بالاضطرابات الحاصلة في دوقية “ميرالد”، إحدى المقاطعات الشمالية. يُقال إن حاكمها الجديد تمرد على أوامر التاج، وأوتيس أُوكلت إليه مهمة احتوائها… وفرض النظام.”
كانت تتحدث بحذر، لكنها لم تجد أي تفاعل من جين.
“سيغادر صباح الغد.”
لم تقل جين شيئًا.
نظرت نحو النافذة للحظة، ثم سحبت الغطاء على جسدها الهزيل، وقالت بصوت خافت: “أنا متعبة… سأخلد للنوم.”
أومأت الخادمة رغم الحزن في عينيها، وغادرت بهدوء.
عند الباب، صادفت الدوق.
كان واقفًا هناك، كما لو أنه كان ينتظر انتهاء الحديث.
نظر إليها، وعيناه تحملان سؤالًا واضحًا: “هل قالت شيئًا؟”
ترددت الخادمة، ثم قالت بصراحة: “لم تقل سوى أنها متعبة… وأنها ستنام.”
ظل ينظر إلى الباب لحظات طويلة، قبل أن يغادر، صوته حزين: “حسنًا…”
لكن الحقيقة كانت… أن جين لم تكن نائمة.
كانت مستيقظة، بل في قمة وعيها، ترصد كل تفصيلة في اللحظة، وكل كلمة سُمِعت، وكل شعورٍ خامرها.
حين أُغلِق الباب خلف خادمتها، أزاحت الغطاء ببطء، وجلست.
نظرت إلى يديها المرتجفتين، ثم إلى بطنها، ثم تنهدت ببطء وكأنها تتخذ قرارًا في داخلها.
أوتيس سيغيب.
لوقت طويل. مع أغلب حراسه .
في اليوم التالي، غادر أوتيس عند الفجر.
كان يحمل معه مجموعة من الحرس والضباط، وأوراقًا مختومة بختم الإمبراطور، وأوامر صريحة بالتصرف كما يراه مناسبًا لإخماد التمرد في دوقية “ميرالد”.
خلال رحيله، لم ينظر خلفه مرة واحدة، وكأن قلبه كان سيتراجع إن رأى نافذتها مضاءة.
بعد مغادرتهم، فتحت ستائر غرفة جين فجأة. وقفت هناك، شاحبة الوجه، عيناها تحملان هالات سوداء من الأرق، لكنها كانت يقظة تمامًا.
“لقد ذهب…” همست لنفسها، عيناها تتبعان الغبار الذي تخلف عن ركبانهم في الأفق.
جلست على حافة السرير، يداها تضغطان على بطنها الصغير. “اكثر من اسبوع ” صوتها ارتجف قليلاً، ثم تصلب. “وقت كافٍ.”
نهضت فجأة، وتوجهت إلى خزانة ملابسها الكبيرة.
فتحتها، وبدأت تفرز الملابس بدقة، كأنها تبحث عن شيء ما.
“سأجد طريقة…” همست بينما كانت تمسك بثوب سفر قديم، “لن أبقى هنا بعد الآن.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 18"