مرت عدة أيام منذ عودتهم من قصر دوفريه. طوال تلك الأيام، كان الصمت هو سيد الموقف بين جين وأوتيس.
لم يتبادلا كلمات كثيرة سوى عند تناول الطعام. كان أوتيس يسألها عن حالها، إذا كانت تحتاج إلى شيء،
“هل أنتِ بخير؟”
“هل تحتاجين شيئاً؟”
“نامي جيداً.”
حديثهم كان دائمًا قصيرًا، وكأن هناك حاجزًا غير مرئي بينهما.
كانت جين تشعر أن هناك شيئًا غريبًا في تصرفاته. كان يبدو منزعجًا ومتجهمًا أغلب الوقت، وتلك النظرة القاسية التي كان يوجهها لها أحيانًا، جعلتها تشتاق لتلك الأيام التي كان فيها أكثر لطفًا، حتى وإن كان تعامله معها ما زال لا يتسم بالود التام.
جين كانت تقضي معظم وقتها في البيت الزجاجي السري، بين نباتاتها وأزهارها.
و أحياناً تجلس في الحديقة تشرب الشاي وحيدة، تتابع حركة السحب في السماء الزرقاء .
ومع مرور الأيام، كانت أخبار حملها قد انتشرت. رسائل التهنئة تتدفق من كل حدب وصوب، تحملها الخادمات إلى غرفة جين كل صباح. والدها زارها ثلاث مرات، محملاً بالهدايا الفاخرة بطانية من فراء الثعلب، علبة مجوهرات عائلية قديمة، حتى أنه أحضر لها مهداً خشبياً منحوتاً بيده.
“ابنتي العزيزة، أنتِ تجعلين عائلتنا تفخر”، قال لها في آخر زيارة، عيناه تلمعان من الفرح.
وفي هذه الأوقات التي كانت تمر ببطء، كانت جين تشعر بأنها محاصرة في روتينها اليومي، بين العزلة في البيت الزجاجي وبين الظهور على طاولة الطعام فقط.
حياتها بدأت تتسم بالملل، وكأنها تفقد الإحساس بكل شيء من حولها.
في الطابق العلوي، كان أوتيس جالساً في مكتبه المظلم، وجهه بين كفيه. الأوراق مبعثرة على المكتب، والشمعدان على وشك الانطفاء. خمسة أيام وهو يحاول أن يفهم ما يحدث بداخله.
“لماذا فعلت ذلك؟” همس لنفسه، يستعيد ذكرى الطريقة القاسية التي عامل بها إيريس. “كانت تستحق معاملة أفضل.”
لكنه لم يندم على إبعادها عن حياته.
كانت تعرف الحقيقة الآن أنه لم يعد ذلك الشاب الذي أحبها بجنون.
لكن جزءاً منه كان يشعر بالذنب لجرحها بهذا الشكل.
أما جين، فقد كانت تثير فيه شعورًا غريبًا لا يعرف كيف يصفه.
هل كانت مجرد فائدة طفيفة من أجل المستقبل؟ أم كان هناك شيء آخر؟
تلك الأسئلة كانت تلتهمه، وتسبب له الغضب والانزعاج.
كان يشعر وكأن هناك شيئًا يضغط عليه من الداخل، دون أن يعرف كيفية التعامل معه.
أخذ نفسًا عميقًا وهو يخلع نظارته، وبدأ يفرك عينيه بيده، ثم نهض من مقعده وأسرع نحو نافذة مكتبه.
كان يراقب الحديقة المحيطة بالقصر، عندما لفت انتباهه حركة غير عادية.
من خلال نافذته، كان يستطيع أن يرى جين، تتحرك بخفة وسط الحديقة، وتبتعد عن الخدم الذين كانوا عادةً يرافقونها.
تساءل في نفسه: ‘أين تذهب؟’ ثم فزع فجأة
‘ هل هي تهرب مجددا ‘
وفجأة، كان يراها تفتح البوابة التي تقود إلى البيت الزجاجي
“ما هذا؟” تمتم أوتيس وعيناه تتسعان. “كيف تعرف عن هذا المكان؟”
استدار فجأة وخرج من مكتبه بسرعة يشد قبضته وعيونه تشتعل من الغضب .
***
كانت أشعة الشمس تتسلل بخفة من خلال الألواح الزجاجية العالية، تنثر ضوءها الذهبي فوق الأزهار المتفتحة كأنها تبارك المكان بنعومتها.
في زاوية البيت الزجاجي، جلست جين متكئة على كرسي خشبي صغير، ويداها تستقران بهدوء على بطنها.
عيناها مغمضتان، وملامح وجهها مسترخية، وكأنها تحاول أن تهرب من صخب الحياة إلى هذا الركن الهادئ الذي رممته بيديها.
كانت تدندن بهدوء أغنية قديمة، لحنها حنون وبسيط، يتناغم مع رائحة الزهور العطرة التي تملأ المكان وتداعب أنفها برقة.
خصلات شعرها تتحرك قليلاً مع نسيم دافئ يتسلل من فتحة في السقف، وملامحها تتورد من أشعة الشمس التي تدغدغ وجهها بهدوء.
لكن فجأة، مزق صوتٌ صاخب هذا السكون الحالم ، انفتح الباب الخشبي بقوة، محدثاً صوتاً مدوياً جعل جين تقفز من مكانها.
عيناها الزرقاوان اتسعتا رعباً عندما رأت أوتيس واقفاً في المدخل، جسده يرتعش من الغضب، وعيناه الرماديتان تشتعلان كالبركان.
“ما الذي تفعلينه هنا؟!”
“أو-أوتيس!” تلعثمت وهي تمسك بذراعي الكرسي، وجهها يشحب فجأة.
اقترب منها بخطوات سريعة، وصوته يزداد حدة
“قلت لك، ما الذي تفعلينه هنا؟!” صرخ مرة أخرى، بينما يداه تنقبضان بقوة حتى أن مفاصله ابيضت.
بلعت ريقها بتوتر، قلبها يدق بقوة داخل صدرها، وقالت وهي تتلعثم:
“ك… كنت فقط جالسة… أردت أن أستمتع بالزهور… لا شيء أكثر…”
قاطعها بصوت جهوري وهو يصرخ بغضب:
“ألم يُخبرك الخدم بألا تقتربي من هذا المكان؟!”
هزّت رأسها ببطء، ويداها لا تزالان على بطنها المرتجفة، وقالت بتوتر
“لقد رأيت أن المكان مهجور… لا أحد يستخدمه… فظننت أنه لا بأس إن اعتنيت به… لم أكن أعلم أنك…”
لكن قبل أن تكمل جملتها، مد يده فجأة نحو إحدى آنية الزهور الكبيرة الموضوعة بجانبها، ورفعها ثم حطمها بقوة على الأرض!
“لا!!!” صرخت جين بفزع، ارتج جسدها وهي تضع يديها بسرعة على بطنها، تحيط نفسها بذراعيها وكأنها تحمي طفلها.
عيناها اتسعتا، والدموع تجمعت فوراً فيهما من الصدمة.
لكنه اقترب أكثر، وجهه قريب منها بشكل مرعب، ورفع يده ليمسك بوجهها بشدة من ذقنها، عينيه تنظران إلى عينيها مباشرة، نظرة حارقة من الغضب والقهر، ثم قال بصوت منخفض مشحون:
“إذا اقتربتِ من هذا المكان مجددًا… فلن يعجبك ما سأفعله بك، فهمتِ؟”
تساقطت دموعها دون أن تنطق.
كل جزء في جسدها كان يرتجف، لا من الألم فقط، بل من الصدمة التي لم تكن مستعدة لها. كانت تلك لحظة قاسية، لا تشبه أي شيء مرّت به معه سابقًا.
صاح بصوت أعلى، وهو يحرر وجهها بعنف:
“اخرجي! الآن! قبل أن أفقد أعصابي تمامًا!”
لم تنتظر جين أكثر، استدارت بسرعة وهي تضع يدًا على بطنها وتحاول أن تمنع شهقات بكائها من الهرب.
خرجت تركض شبه متعثرة من الباب الزجاجي، وعيناها لا تريان سوى دموعها.
بينما كانت تخطو خارج الدفيئة، سمعت صوت صراخه مجددًا من الداخل، يرافقه صوت تحطم زجاج وصوت سقوط الأثاث.
ارتجف قلبها أكثر، وتسارعت خطواتها بعيدًا عن المكان وهي تبكي بحرقة، تشعر وكأنها تُطرد من قطعة الأمان الوحيدة التي بنتها لنفسها.
تذكّرت الأيام الطويلة التي قضتها في ترميم ذاك البيت بيديها، كيف جمعت الزهور ورعت النباتات، كيف حولت المكان المهجور إلى جنة صغيرة… وكل ذلك تحطم الآن، في لحظة واحدة، أمام عينيها.
ولم يكن الألم من الأواني المحطمة فقط… بل من نظراته، من تهديده، من صراخه الذي اخترق قلبها كما لو كان خنجرًا.
وهكذا، غادرت جين البيت الزجاجي، مطرودة، مجروحة، وخائفة أكثر من أي وقت مضى.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 17"