وصلت العربة إلى مدخل قصر دوفريه في ساعة متأخرة من النهار، حيث كانت الشمس تودع الأفق بوهج ذهبي خافت، ينسكب على جدران القصر الحجرية المغطاة باللبلاب وكأنها تشتعل.
لم تكن حركة العجلات فوق الحصى ناعمة، لكنها كانت كافية لتوقظ الترقب في قلب إيريس.
منذ أن أرسلت دعوتها لم يغمض لها جفن، وكانت تقف منذ ساعة قرب النافذة تترقّب قدومه، ترتّب شعرها بين الحين والآخر، وتتفقد فستانها الوردي الفاتح المصنوع من الدانتيل، والذي اختارته بعناية لأنه كان المفضل لدى أوتيس… أو على الأقل، هكذا كانت تتذكر.
سمعت وقع أقدام الخدم يهرعون نحو المدخل، تتبعهم أصوات فتح الأبواب الخارجية.
أسرعت نحو الدرج الرخامي، وفستانها يرفرف خلفها بينما قلبها يخفق بلهفة. وصلت عند المدخل لكنها توقفت فجأة.
جسد جامد. تعبيرات مذهولة. نفس ينقطع قبل أن يعود بحشرجة خفيفة.
هناك، وسط مدخل القصر، وقف أوتيس… لم يكن وحده.
كانت جين معه.
يده تستقر بحنان واضح على خصرها، يمسك بها برفق وكأنها شيء ثمين.
عندما ترجلت من العربة، أمسك بيدها ليوازنها، عينيه لا تفارق وجهها .
أجبرت إيريس نفسها على التنفّس، وضغطت على ابتسامتها المصطنعة كي لا تظهر الصدمة على ملامحها.
ركضت بخفة نحو أوتيس، وتجاهلت تمامًا وجود جين، وكأنها لم ترها.
رمت ذراعيها حول عنقه، وهمست بصوت محشوّ بالشوق:
“لقد افتقدتك كثيرًا…”
بادلها الحضن بابتسامة صغيرة، مجاملة أكثر من كونها صادقة، ويده ربّتت على ظهرها بلطف، لكن عينيه كانتا قد تحوّلتا تلقائيًا نحو جين، وكأنه يتفقد تعبير وجهها.
وقفت جين بصمت، ناظرة إلى هذا اللقاء القديم المتجدد، بدون تعبير يوضح ما إذا كانت منزعجة أو لامبالية.
فقط نظرات صامتة تراقب، كأنها تحاول فك رموز لعبة لا ترغب في خوضها.
استدارت إيريس أخيرًا نحوها، وابتسامتها لم تكن مريحة كما أرادتها أن تبدو.
“جين؟ لم أتوقّع حضورك حقًا…” قالت بنبرة خفيفة بين المفاجأة والتلميح.
“الدوق أصرّ على مجيئي.” أجابت جين
ببساطة، والتفتت إلى أوتيس لحظة.
نظرت إيريس إليه هي الأخرى، لكنها اكتفت بابتسامة مجففة وقالت:
“أفهم… تفضلا، لقد جهزنا كل شيء لاستقبالكما.”
أمسكت إيريس بذراع أوتيس وسحبته إلى الداخل بحماس ظاهر، تتحدث بمرح وهي تخبره أنها أعدّت أطباقه المفضلة بنفسها، دون أن تنظر إلى جين مجددًا.
بينما عبروا القاعة الفخمة، كانت جين تسير خلفهما بهدوء، تراقب الطريقة التي تمسك بها إيريس ذراعه، وكيف يبادلها الحديث بنصف ابتسامة فقط، وكأن ذهنه ليس هنا بالكامل.
في غرفة الطعام الواسعة، كانت الطاولة مزينة بالشموع والأزهار، والموائد مرصوفة بالأطباق الغنية.
جلس أوتيس أولًا، ثم وقف مجددًا عندما لمح جين تبحث بعينيها عن مكانها.
سحب الكرسي بجانبه وأشار لها بالجلوس.
“هنا، اجلسي.”
ترددت للحظة، قبل أن تقترب وتجلس بجواره، بينما نظرات إيريس تابعتها كالسكين.
كانت قد همّت بالجلوس هناك بجواره ، لكنها تجمدت في مكانها، ثم غيرت اتجاهها وجلست في المقعد المقابل لهما مباشرة.
حاولت أن تبدو هادئة .
نظر إلى جين وسأل:
“هل تشعرين بتعب؟ أستطيع أن أطلب وسادة خلف ظهرك.”
هزّت جين رأسها:
“لا، أنا بخير. هذا المكان مريح.”
عندما قدمت الخادمة طبق السمك المدخن، شعرت جين بموجة غثيان مفاجئة.
أغلقت عينيها وحاولت أن تتنفس بعمق.
“هذا الطبق…” همست وهي تحاول أن تبتعد عنه.
قبل أن تكمل جملتها، كان أوتيس قد أخذ الطبق من أمامها ووضعه في أقصى الطاولة، ثم قدم لها طبق الحساء الدافئ بدلاً منه. “هذا سيكون أفضل”، قال بهدوء.
كل ذلك تحت أنظار إيريس التي حبست تعبير وجهها قدر المستطاع، لكنها شعرت بنبضة غريبة في صدرها.
لم يسبق له أن اهتم بتفاصيل من هذا النوع، لا حتى معها.
بدأ الطعام يُقدَّم تباعًا، وجلست إيريس تتحدث وتحاول جرّ أطراف الحديث مع أوتيس، تستحضر ذكريات الطفولة عن ركوب الخيل، وعن الحديقة الخلفية التي كانا يختبئان فيها من الخدم.
ضحكت، ثم التفتت إلى جين:
“هل أخبرك عن مغامرتنا عندما كسرنا تمثال العائلة؟ لقد غطينا الأمر على أنه الريح!”
جين ابتسمت بأدب، لكنها لم تعلق.
كانت عيناها متعبتين قليلاً، ويداها تلعبان بملعقة الحساء دون شهية.
أوتيس، بالمقابل، لم يكن منشغلًا بالضحك أو الذكريات. كان يراقب جين في كل لحظة؛ يعطيها الفواكه من الطبق، يصب لها الماء عندما انتهت منه، يميل بجسده نحوها ليضع منديلاً على حجرها عندما أسقطت شيئًا عن طريق الخطأ.
كل تصرف صغير كان بمثابة طعنة خفية في قلب إيريس.
أرادت أن تضحك أكثر، أن تستعيد الحديث إليه، لكن وجهه كان لا يعود إليها إلا بعبارات مقتضبة، بينما عينيه لا تكاد تفارق جين.
بعد العشاء، اقترحت إيريس:
“ما رأيكما بجولة في الحديقة؟ إنها أجمل وقتٍ لها الآن.”
وافق أوتيس، لكنه لاحظ كيف أن وجه جين بدأ يشحب مجددًا.
مشت بخطوات بطيئة، ثم توقفت فجأة تحت ظل شجرة كبيرة.
“أشعر… بشيء من الدوخة.” همست.
استدار إليها فورًا، أمسك بكتفها بخوف:
“هل أنتِ بخير؟”
“أظنني بحاجة إلى الاستلقاء قليلاً فقط…”
التفت إلى إيريس وقال بنبرة جادة:
“هل لديكِ غرفة ضيوف قريبة؟ تحتاج إلى الراحة.”
أشارت إيريس بسرعة:
“بالطبع! سأطلب من الخادمة…”
“لا داعي”، قاطَعها وهو يلتفت إلى جين، “سأصعد معها بنفسي.”
صمتٌ.
ثوانٍ طويلة بدت وكأنها ساعات.
“أوه… حسنًا…” قالت إيريس أخيرًا، وابتسامة مرتجفة ترتسم على شفتيها.
راقبته وهو يحيط خصر جين بذراعه ليعينها على الصعود، يهمس لها ببطء حتى لا تتوتر، ووجهه لا يعكس إلا الاهتمام.
إيريس بقيت واقفة وحدها في الممر، يديها تقبضان على ثوبها، وعيناها تتابعان اختفاءهما خلف باب الدرج .
***
صعد الدوق السلالم بخطوات هادئة، ذراعه لا تزال تحيط بخصر جين التي بدت شاحبة ومجهدة.
لم تقل شيئًا، فقط كانت تركز على خطواتها، تتنفس ببطء كأن الهواء أثقل من المعتاد.
حين وصلا إلى غرفة الضيوف، فتح أوتيس الباب بنفسه، وساعدها على الجلوس على السرير الكبير الذي تناثرت وسائده بعناية.
“هل ترغبين في شيء؟ ماء؟ طبيب؟” سألها بنبرة منخفضة وهو يجثو أمامها، يراقب ملامحها المنهكة.
هزّت رأسها ببطء. “مجرد النوم… سيكون كافيًا.”
غطّاها حتى الكتفين، ولم يتزحزح من جوارها حتى رآها تغمض عينيها، وأنفاسها تنتظم شيئًا فشيئًا.
بقي جالسًا هناك لدقائق، يتأمل ملامحها التي اكتسبت مسحة طفولية في نومها.
امتدت يده ليمسح خصلة من شعرها سقطت على جبهتها، ثم نهض أخيرًا، وأغلق الباب خلفه بهدوء.
نزل إلى الطابق السفلي، فوجد إيريس تقف عند المدخل، بيدين متشابكتين خلف ظهرها، وابتسامة تنتظر.
“هل جين بخير؟” سألت .
أومأ أوتيس: “نعم، لقد نامت.”
أضاءت ملامحها بوميض صغير من الارتياح.
“شكراً لاستضافتنا، لكني أعتقد أن الوقت قد تأخر. سنبيت هنا الليلة إذا سمحتِ.”
“قلت لا!” ردّ بنبرة حازمة، لكنه لم ينظر في عينيها.
“كاذب!” انفجرت بها أخيرًا، والدموع تهرب من عينيها رغمًا عنها. “أنت تكذب… نظراتك، تصرفاتك معها… هل تعرف كم مرة نظرتَ إليّ منذ قدومها؟ مرتان فقط! أما إليها… فلم تكف عن النظر.”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 15"