لم تكن تعرف الإجابة. كانت لا تزال تائهة، عالقة بين الرواية الأصلية التي تعرفها، وبين هذا الواقع الجديد الذي يبدو أنه لا يتبع أي نص.
شعرت بفراشات ترفرف في معدتها، لكنها لم تعد تعرف إن كان ذلك من الغثيان الصباحي أم من رهبة الفكرة ذاتها.
نهضت جين ببطء، متجنبة الحركات المفاجئة التي قد تثير غثيانها. وقفت أمام المرآة الطويلة، تدرس انعكاس جسدها النحيل. “كيف سيتغير هذا الجسد؟ كيف سأصبح بعد أشهر؟” تساءلت وهي تمرر أصابعها على خصرها.
لم تكن تخاف من التغيرات الجسدية بقدر ما كانت قلقة من العاصفة العاطفية التي تشعر بها.
طرقة خفيفة على الباب قطعتها عن تأملاتها. “ادخلي”، قالت بصوت أجش.
فتحت الخادمة الباب بانحناءة خفيفة. “سيدتي، الدوق يطلب حضوركِ لتناول الفطور.” قالت الخادمة وهي ترمق وجه جين بتعاطف خفي.
رفعت جين حاجبها باستغراب. “الفطور؟” لم تكن معتادة على هذا النوع من الدعوات المباشرة، خصوصًا بعد توتر الأيام السابقة. ارتدت عباءتها ورافقت الخادمة، دون أن تسأل الكثير.
” الطاولة مُعدة في الشرفة الغربية سبدتي “
حين وصلت جين إلى الشرفة المزينة بأزهار الصباح، توقفت فجأة عند المدخل.
الطاولة البيضاء الصغيرة كانت مُعدة لشخصين، وأوتيس جالس بالفعل في أحد الكراسي، يقلب صفحات إحدى الوثائق.
رفع أوتيس رأسه عند سماع صوت خطواتها. “جين.” نطق اسمها ببساطة، لكن في عينيه شيء لم تره منذ زمن – هدوء غريب، ربما توقير.
جلست دون كلمة، تلاحظ كيف أن الأطباق المقدمة كلها خفيفة ومناسبة لغثيان الصباح: خبز محمص، مربى التفاح، شاي بالنعناع. حتى رائحة القهوة القوية كانت غائبة.
أدركت أنه يعرف. كل شيء معدّ بما يتناسب مع الحمل.
قال بهدوء دون أن يرفع عينيه عن طبقه:
“سأطلب من الطاهية تحضير ما تحبين… فقط قولي لي ما تشتهينه.”
ساد صمت ثقيل. جين حدقت في فنجان الشاي، تحاول أن تخفي ارتعاش أصابعها. كان غريباً أن يكون هذا الرجل الذي عرفته قاسياً وعنيداً، بهذه الدرجة من الاهتمام الدقيق.
“إذا رغبتِ في أي شيء آخر…” بدأ أوتيس.
“هذا كافٍ.” قطعت حديثه بسرعة، ثم أضافت بنبرة أخف: “شكراً.”
تناولوا الفطور في صمت مريح نوعاً ما.
في لحظة ما، عندما حاولت جين الوصول إلى زبدية الفاكهة، حركها أوتيس نحوها قبل أن تمد يدها.
حين سقطت ملعقتها، التقطها قبل أن تنحني هي. أبعد أحد الأطباق عنها حين شعر أنها لم ترتح لرائحته، و صبّ لها الماء حين فرغ كوبها دون أن يقول شيئًا.
كل حركة صغيرة كانت تقول: “دعيني أعتني بكِ”، دون أن ينطق بذلك.
بعد الوجبة، وجدت جين نفسها تسير في حدائق القصر، تتبع ممرات الحصى المتعرجة دون وجهة.
توقفت عند النافورة الرخامية، حيث انعكست أشعة الشمس على الماء المتساقط، صنعت قوس قزح مصغراً.
استعادت ذكريات حياتها السابقة.
كيف كانت تعمل بلا توقف، تصمم الفساتين، تبقى لساعات خلف ماكينة الخياطة، تسهر لتحقق حلمها في أن تصبح الأفضل. لم تفكر يومًا في الزواج، أو في الأطفال. كانت ترى في ذلك عبئًا، تشتيتًا لا حاجة له.
لكن الآن… ها هي تقف، في عالم خيالي، بجسد امرأة أخرى، وبطفل ينمو داخلها.
انحنت لتلمس الماء البارد بأطراف أصابعها. “والآن، ها أنا ذا، حامل من رجل لا أعرف إن كنت أحبه أم أكرهه.” رفعت نظرها إلى السماء الزرقاء. “يا إلهي، ما هذه الفوضى التي صرت فيها؟”
لكن وسط كل هذه الفوضى، كان هناك شيء واحد واضح هذا الطفل الذي بدأ ينمو بداخلها، كان اختيارها الوحيد الذي اتخذته بكامل إرادتها.
عند عودتها إلى غرفتها في وقت الظهيرة، جلست جين إلى مكتبها الصغير، وأخرجت ورقة ناعمة. ترددت للحظة، ثم بدأت تكتب:
*”عزيزي/عزيزتي…”*
توقفت. كيف ستخاطب هذا الكائن الصغير الذي لم تعرفه بعد؟ ابتسمت ثم واصلت:
*”اليوم علمت أنكِ هناك، في داخلي. قد لا تفهمين هذا الآن، لكن وجودكِ غيّر كل شيء. أنتِ أول شيء أختاره في هذا العالم الغريب، أول شيء أريده بكل قلبي.”*
دمعة سقطت على الورقة، لكنها لم تبالي. واصلت الكتابة بحماس جديد:
*”سأخبركِ سراً: أنا خائفة. خائفة من أن أكون أما، من هذا العالم، من كل شيء. لكني أيضاً ممتنة لأنكِ هنا، لأنكِ تعطيني سبباً جديداً كل يوم…”*
“ربما لم أختر هذا العالم… لكن هذا الطفل، هذا القلب الصغير بداخلي… هو أول شيء أريد أن أختاره، بكل إرادتي.”
***
كان ضوء الشموع الذهبي يرقص على جدران غرفة إيريس الفسيحة، بينما كانت تجلس على مقعدها المفضل بالقرب من النافذة.
أصابعها البيضاء الناعمة تلعب بقلادة من الياقوت الأزرق حول عنقها، بينما عيناها البنيتان تحدقان في الأفق البعيد.
هرعت الخادمة لتلبية الطلب، وعادت بعد لحظات تحمل صينية فضية عليها أدوات الكتابة.
بدأت إيريس تكتب بخط أنيق متدفق:
*”عزيزي الدوق،*
*لقد مر وقت طويل منذ آخر مرة رأيتك فيها. أتمنى أن تكون بخير. أشعر بالوحدة في هذه القصر الواسع، وأتمنى لو تكرمني بزيارة قصيرة، لأطمئن عليك بنفسي…”*
توقفت قليلاً، ثم أضافت:
*”دائماً ما أتذكر أيامنا الجميلة في الحديقة. أشتاق لذلك الوقت. رجاءً لا تتركني أنتظر طويلاً.*
*مع حبي، إيريس.”*
***
كان أوتيس غارقاً في قراءة تقارير القصر عندما دق الباب بلطف. “ادخل”، قال دون أن يرفع عينيه.
دخل الخادم حاملاً رسالة فضية على صينية. “رسالة من قصر دوفريه، سيدي.”
أخذ أوتيس الرسالة بتردد، عيناه تتسعان عندما تعرف على ختم إيريس الشخصي.
فتحها ببطء، وقرأ المحتوى بعينين لا تظهران أي مشاعر.
“هل تريد الرد، سيدي؟” سأل الحارس بعد صمت طويل.
أومأ أوتيس برأسه. “لا. سأزورها بنفسي.”
مرت أيام طويلة منذ أن رآها، ومنذ الحادثة لم يطمئن على حالها فعلاً.
لا يمكنه أن ينكر أنها كانت صديقته منذ الطفولة… وحب حياته.
كانت جين تجلس تحت شجرة التفاح الكبيرة، طبق من الفاكهة الطازجة بجانبها.
يدها اليسرى تمسك بتفاحة حمراء، بينما اليمنى ترسم دوائر صغيرة على بطنها المسطح. ابتسامة خفيفة تلوح على شفتيها وهي تتخيل الحياة الجديدة التي تنمو بداخلها.
لم تلاحظ وجود أوتيس الذي وقف على بعد خطوات، يراقبها بصمت.
لأول مرة منذ زمن طويل، رأى تعبيراً هادئاً على وجهها، بعيداً عن التوتر والحزن الذي اعتاد رؤيته.
“هل تسمحين لي بالمشاركة؟” قال بصوت هادئ حتى لا يفزعها.
التفتت جين فجأة، لكنها لم تظهر انزعاجاً هذه المرة. “إنها حديقتك، يمكنك أن تفعل ما تشاء.”
جلس أوتيس بجانبها على العشب الأخضر، وأخذ حبة عنب من الطبق. “كيف حالكِ اليوم؟” سأل بينما يتفحص وجهها بحثاً عن أي علامات تعب.
“أفضل من الأمس”، أجابت وهي تقطع التفاحة إلى شرائح، “والجنين… بخير أيضاً.”
ابتسم أوتيس ابتسامة صغيرة لكنها حقيقية. ثم تردد للحظة قبل أن يسأل: “هل… هل يمكنني؟” أشار إلى بطنها بيده.
تجمدت جين للحظة، عيناها تتسعان من المفاجأة.
لكنها في النهاية أومأت برأسها موافقة.
بحرص شديد، وضع أوتيس كفه الكبير على بطنها المسطح. “أهلاً أيها الصغير”، همس بصوت ناعم لم تسمعه جين من قبل، “لا تزعج أمكِ كثيراً، أنت تسبب لها غثياناً كافياً كما يبدو.”
نظرت إليه جين مندهشة، ثم ابتسامت ابتسامة خجولة، لم تستطع منع نفسها منها. حين التفت لينظر إليها، أشاحت وجهها على الفور، محمرة الخدين، وكأنها لا تهتم.
متظاهرة بالانشغال بشرائح التفاح.
“إلى أين أنت ذاهب؟” سألت فجأة.
توقف، وكأنه لم يكن مستعدًا للسؤال. “إيريس… دعتني للقصر.”
تجمدت أصابع جين على شريحة التفاح. “آه”، قالت محايدة، “إذاً هذا هو سبب خروجك المفاجئ.”
“هل… هل تريدين أن تأتي معي؟” سأل بتردد.
رفعت جين حاجبيها باستغراب. “لماذا؟ هي لم تدعُني.”
“أنتِ زوجتي”، قال ببساطة، “من يدعوني يدعونكِ تلقائياً.”
شفتا جين ارتختا قليلاً، لكنها أدارت وجهها لإخفاء ابتسامتها الطفيفة. “حسناً… إذا أصررت.”
نهض أوتيس أولاً، ثم مد يده لمساعدتها على النهوض.
ترددت جين للحظة، ثم وضعت يدها الصغيرة في يده الكبيرة. شعرت بدفء يديه يلف أصابعها، وكيف أمسك بها برفق لكن بإحكام، وكأنه يخاف أن تفلت.
“هيا”، قال وهو يوجهها نحو العربة التي تنتظرهما، “لن تطيل الزيارة، أعدكِ.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 14"