لم ينبس أحدٌ بكلمة طوال الطريق إلى القصر. كانت العربة تتهادى في صمتٍ ثقيل، والخيول تواصل سيرها على الطريق المرصوف بالحجارة بينما تسلّل ضوء الغروب الخافت عبر النوافذ الصغيرة، ملقيًا ظلالًا باهتة على وجهَي الجالسين فيها.
جلس أوتيس على المقعد المقابل لجين، نظره يتنقل من النافذة إلى يديْه المتشابكتين ، أما هي، فكانت تحدّق في زاوية العربة، صامته تمامًا، كأنها بعيدة بأفكارها آلاف الأميال.
حين وصلت العربة إلى مدخل القصر، أسرع الخدم بفتح الباب، نزل أوتيس أولاً ومد يده لمساعدتها، لكن جين تجاوزت يده ونزلت بنفسها، ممسكة بثوبها الطويل بيد مرتعشة.
مع كل خطوةٍ ثابتة صعدت بها الدرجات الرخامية. تبعها أوتيس بنظراته، لكنّه لم يتبعها بخطواته.
ترك لها المساحة التي طلبتها.
دخلت جين جناحها، وأغلقت الباب خلفها بهدوء، ثم أسندت ظهرها إليه.
زفرت ببطء، كأنها أفرغت حزنًا ثقيلًا من روحها. مشاعر مختلطة اجتاحت صدرها: حزن، خيبة، تعب… وشيء آخر لم تستطع أن تسميه. خلعت حذاءها، وسارت بخطوات مترنحة إلى السرير.
ألقت بجسدها عليه واستسلمت للنوم، كأنما تهرب من كل ما يثقل عقلها.
لم تعلم كم مضى من الوقت حين فتحت عينيها مجددًا.
كان صباح اليوم التالي قد حل . شعرت بجفاف في حلقها وجوع في بطنها. جلست ببطء، رأسها يدور قليلاً. نهضت من السرير وتوجهت إلى الطابق السفلي.
لكن ما إن اقتربت من المطبخ، حتى باغتتها رائحة الحساء الساخن واللحم المشوي.
توقفت في منتصف الممر، وضعت يدها على فمها. الغثيان اجتاحها فجأة، بلا سبب واضح. هرعت عائدة إلى جناحها، ودخلت دورة المياه، وانحنت تتقيأ بعنف.
كان هذا الشعور مألوفًا… مؤلمًا.
جلست على الأرض الباردة، تتنفس بصعوبة. يدها ترتجف وهي تمسح فمها. “ما هذا…؟” همست لنفسها، وقد بدأت ملامح الذهول ترتسم على وجهها. “منذ أيام… أشعر بالدوار، الغثيان… التعب المستمر…”
توقفت.
تسارعت أنفاسها.
وضعت يدها على بطنها، وعيناها اتسعتا ببطء.
“مستحيل…”
رفعت رأسها، ثم همست بصوت مرتجف: “دورتي… لم تأتِ منذ مدة… يا إلهي.”
شهقت، وارتجفت شفتاها.
كيف لم تنتبه لهذا من قبل؟ كيف لم يخطر لها؟ وضعت يديها على وجهها، محاولةً تهدئة نفسها. لكن السؤال ظل يقرع رأسها: هل أنا حامل؟
بدأ قلبها يخفق بقوة، ليس فقط من الصدمة، بل من شيء آخر… الغضب.
“انتظر لحظة…” قالت بصوت خافت، ثم نهضت ببطء، تسترجع ذكرياتها. “أوتيس… أحضر طبيبًا لفحصي أكثر من مرة… لكنه لم يذكر شيئًا عن الحمل.”
تذكرت كيف تغيرت معاملته معها في الأسابيع الماضية… كيف أصبح حريصًا على طعامها، كيف كان يراقبها بصمت، ويأمر الطهاة بتحضير أطباق معينة، ويمنع عنها أي توتر أو مجهود.
“هل… كان يعلم؟” همست، ويدها ترتجف. “هل كان يعرف… ولم يخبرني؟”
تجمّدت في مكانها. كان قلبها يغلي من خليط من الحزن والغضب والخوف.
“لا… لا يمكنني أن أبقى في هذه الدوامة. علي أن أتأكد.”
ارتدت عباءة داكنة فوق فستانها البسيط، وربطت شعرها للخلف بإهمال. خرجت من غرفتها، واستدعت إحدى الخادمات التي تثق بها.
“خذي عربة، ورافقي حارسًا، سنذهب إلى السوق. أحتاج لبعض الحاجيات.” قالت جين بنبرة هادئة لا تقبل الجدل.
بدت الخادمة متفاجئة، لكنها انحنت وقالت: “كما تأمرين، سيدتي.”
حين وصلت العربة إلى السوق، أنزلت جين غطاء العربة، وتحدثت إلى الخادمة بنبرة خافتة:
“دليني على طبيب قريب .”
نظرت الخادمة إليها بريبة، ثم سألتها: “هل أنتِ بخير، سيدتي؟ هل نعود ونطلب من الدوق أن يستدعي طبيبًا من القصر؟”
وافقت الخادمة بعد لحظة تردد، وأشارت إلى زقاق ضيق على جانب السوق.
دخلت جين الزقاق بصحبة الحارس والخادمة حتى وصلت إلى محل صغير، تفوح منه رائحة الأعشاب المجففة والمراهم. “ابقيا هنا.” قالت بهدوء، ودخلت وحدها.
في الداخل، كان الطبيب واقفًا خلف طاولة خشبية، يفرز بعض الأعشاب في أكياس قماشية. ابتسم حين رآها.
“أهلاً بكِ يا سيدتي، كيف أساعدك؟”
اقتربت جين، وترددت قليلاً، ثم قالت بصوت خافت: “أريد أن أعرف… إن كنتُ حاملاً.”
تغيّرت ملامح الطبيب قليلًا، ثم أومأ برأسه. “يمكنني مساعدتك، هل تعانين من أعراض معينة؟”
أخبرته بكل ما شعرت به، الدوار، الغثيان، التعب، انقطاع الدورة. طلب منها الجلوس، وأجرى فحصًا دقيقًا، سأل بعض الأسئلة، وتحقق من بعض العلامات، ثم ابتسم برفق وهو يقول:
“مبارك لكِ، سيدتي… أنتِ حامل بالفعل.”
صمت.
تجمّدت جين.
“ماذا؟”
“بوضوح تام. في بدايات الحمل، لكنه مؤكد.”
رفعت يدها ببطء، وضعتها على بطنها. لم يكن هناك شيء ظاهر… لكن الآن، بدا وكأن شيئًا جديدًا يتحرك في أعماقها.
حامل…” همست، والدموع تملأ عينيها.
. كانت دموع فرح مختلطة مع خوف.
دموع حيرة. دموع امرأة عرفت أنها ستحمل طفلاً لرجل لا تثق به، طفل رجل سيكون قاتلها .
خرجت من العيادة بخطوات بطيئة، وجهها شاحب، وعيناها زائغتان.
لم تقل شيئًا للخادمة أو الحارس، فقط طلبت العودة فورًا إلى القصر.
وفي داخل العربة، جلست وحدها في الزاوية، تنظر من النافذة بفراغ.
مشاعر كثيرة تعصف بها: خوف، توتر، غضب، وربما… بصيص أمل.
لقد حملت من قاتلها .
لكن أكثر ما شغل بالها في تلك اللحظة كان سؤالًا واحدًا يتردد في عقلها مرارًا:
هل كان يعلم؟ ولماذا أخفى ذلك عنها؟
***
حين عادت جين إلى القصر، لم تتوجه إلى جناحها.
لم تصعد إلى غرفتها، ولم تخلع عباءتها الداكنة. كانت قد قررت منذ لحظة خروجها من العيادة أن تواجهه، أن تحصل على إجابات واضحة منه هو، لا من أحدٍ غيره.
كانت خطوات جين ثقيلة وهي تصعد السلالم المؤدية إلى مكتب الدوق.
قلبها كان يخفق بقوة لدرجة أنها ظنت أن كل من في القصر يستطيع سماعه.
يداها كانتا ترتجفان، لكن عينيها كانتا تشتعلان بنيران الغضب والإصرار.
وصلت إلى الباب الضخم لمكتبه، ولم تتردد في دفعه بقوة دون أن تطرق.
الباب انفتح بعنف، محدثاً صوتاً مدوياً جعل كل الحاضرين في الداخل يلتفتون إليها بدهشة.
رفع أوتيس رأسه من خلف مكتبه، كان يجلس مع عدد من مستشاريه، الأوراق مبعثرة أمامهم، والحديث بدا كأنه كان في أوجه. الغرفة كلها توقفت عن الحركة للحظة، وكأن الزمن تجمد.
“جين…” قال أوتيس وهو ينهض من مكانه، عيناه الرماديتان تعكسان الدهشة.
لكن ما إن رأى ملامحها، حتى أدرك أن شيئًا خطيرًا يحدث.
قال بهدوء حازم للمستشارين: “غادروا حالاً.”
لم يعترض أحد، فقد كان في صوته شيء لا يقبل النقاش.
انحنوا سريعًا وغادروا، وأغلق أحدهم الباب خلفه.
ساد صمت ثقيل، لم يتكلم هو، ولم تجلس هي. اقتربت منه، بخطى بطيئة ولكنها مثقلة بالغضب، ونظرت مباشرة إلى عينيه.
ثم قالت بصوت حاد، مرتجف من شدة الانفعال:
“أنا حامل.”
الغرفة أصبحت صامتة كالقبر. حتى تنفس أوتيس توقف للحظة.
لكن ما أزعج جين أكثر من أي شيء هو أنه… لم يبدُ متفاجئاً.
“أنت… كنت تعلم.” همست بصوت مكسور. “كنت تعلم ولم تخبرني!”
رفعت صوتها فجأة، وهي تصرخ بانفعال لم تحاول كتمانه:
” لماذا؟ لماذا أخفيت ذلك عني؟!”
اقترب منها بخطوات هادئة، لكن حذرة. “اجلسي أولاً… لنتحدث بهدوء.”
“لا!” صاحت، وتراجعت خطوة إلى الوراء، تكاد تنفجر من الداخل. “أريد إجابة الآن!”
أخذ نفسًا عميقًا، ثم زفر ببطء.
نظر إلى عينيها مباشرة، وقال بنبرة منخفضة:
“كنت سأخبرك قريبًا… لكنني خفت.”
تجعدت ملامحها أكثر، استغرابًا من رده. “خفت؟ من ماذا؟!”
“خفت أن يؤذيك الخبر أكثر مما ينفعك.” قالها بصوت لا يخلو من الحزن، ثم أكمل:
“أعلم أن ما حدث بيننا … ترينه غلطة. ظننت أنك إذا علمتِ بالحمل، فستظنين أن الطفل نفسه… غلطة.”
صمتت. للحظة، لم تعرف كيف ترد. كانت كلمات بسيطة، لكنها ضربت قلبها كالسهم.
نظرت إليه دون أن تتكلم، كانت تفكر: هل فعلاً كان هذا ما شعر به؟
واصل هو بصوته الهادئ:
“لم أكن أريد أن أحمّلك عبئًا إضافيًا. لم أكن أعرف إن كنتِ ستكرهين الطفل، أو ترغبين بإنهاء الحمل. لذلك… قررت الانتظار حتى تشعري أنك مستعدة.”
قالها بصدق واضح في صوته، لكنها لم تعلم هل كانت قادرة على تقبّل هذا التبرير الآن أم لا.
ثم قال ببطء، وكأنه يخاطب ألمًا في داخله:
“الآن وقد عرفتِ… إن أردتِ التخلص من الطفل، فافعلي. وإن أردتِ الاحتفاظ به، فافعلي أيضاً. القرار لكِ وحدك، وسأدعمك في أي خيار تتخذينه.”
عادت تنظر إليه، والدموع تغمر عينيها هذه المرة، لكنها لم تسقط.
كان قلبها ينبض بعنف، مشاعرها تتقاطع، تتعارك، لكنها حاولت السيطرة على نفسها، ثم سألته بهدوء خافت:
“وأنت؟ ماذا عنك؟ ما الذي تريده؟”
لم يتوقع السؤال، ظهرت المفاجأة على ملامحه للحظة، لكنه ما لبث أن نظر إلى الأرض بتفكير عميق، ثم عاد يحدّق في عينيها وقال بصوت صادق:
“أريده. أريده بشدة.”
تنفّست بعمق، ومرت لحظة صمت بينهما، ثم قالت بنبرة واضحة:
“أنا… سأحتفظ به. الطفل لا ذنب له فيما حدث.”
ظهرت ابتسامة صغيرة على وجهه، كانت من النوع الذي لا يظهر كثيرًا عليه.
لم تكن ابتسامة فرح صاخب، بل واحدة هادئة، محمّلة بالارتياح. تقدم خطوة، ثم أمسك بيدها برفق، وقبّل أصابعها برهفة.
“سأعتني بكِ… وبالطفل. أعدك.”
لكن جين لم تكن مستعدة لهذا القرب المفاجئ. شعرت بوجنتيها تحمران، وسحبت يدها منه بسرعة واستدارت ثم غادرت ، وحين خرجت، أغلقت الباب خلفها بهدوء، ثم أسندت ظهرها إليه، ووضعت يدها على صدرها، حيث كان قلبها يخفق بعنف غير مسبوق.
“تبًا…” همست لنفسها.
ثم مشت في صمت نحو وجهتها الوحيدة حين تشتد عليها المشاعر… البيت الزجاجي.
كان البيت الزجاجي يلمع بهدوء تحت أشعة الشمس الذهبية، وقد بدا كأنه ينتمي لعالم آخر غير القصر وكل ما فيه.
دخلته بصمت، وتنشقت عبير الزهور المختلط بعبق الأرض والذكريات.
خلعت عباءتها، وجلست على المقعد الخشبي المحاط بالأزهار، قرب الزاوية التي رممتها بنفسها.
هنا تشعر أنها إنسانة. لا زوجة دوق. لا متجسدة في جسد شريرة. فقط “هي نفسها “.
وضعت يدها على بطنها، لم تكن هناك حركة، ولا علامة، لكنه لم يعد مجرد بطنٍ مسطح. لقد صار قلبًا صغيرًا ينبض بداخلها.
طفل… كان هناك طفل ينمو بداخلها. فكرة غريبة، مخيفة، ولكن… جميلة أيضاً.
خوف من المستقبل المجهول، قلق من كونها أماً، ولكن أيضاً… فرح صغير بدأ ينمو في قلبها، مثل البذرة الصغيرة التي تبدأ بالنمو تحت الأرض.
“يا له من أمر مجنون…” قالت لنفسها بابتسامة حزينة. “أن أحمل حياةً بداخلي بينما حياتي نفسها… غير مستقرة.”
رفعت عينيها إلى السقف الزجاجي، الشمس تخترقه برقة، كأنها تحتضنها دون أن تلمسها. فكرت في أوتيس، في نظرته حين قال إنه يريد الطفل. لم تكن تتوقع ذلك، لم تكن تتوقع شيئًا منه بعد الآن.
لكن…
“ماذا إن كان صادقًا؟” تمتمت.
أغمضت عينيها، وسرحت في أفكار كثيرة. عن ماضيها، عن الرواية الأصلية التي تقمّصت إحدى شخصياتها، عن المصير الذي كان ينتظرها، وعن المصير الذي تصنعه الآن… ببطء، بحذر، وربما… بأمل.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 13"