“كنت نائمة! أنت بنفسك أخبرتني أن أصعد هنا لأستريح! هل هذه مكيدة جديدة لتلفيق التهم لي؟”
نظر إليها أوتيس بعمق، رأى الذعر الصادق في عينيها الزرقاوتين، رأى الشفافية في دموعها. لكن غضبه وخوفه على إيريس غطيا على صوت المنطق في رأسه.
“ما هذا الهراء الذي يحدث في قصر؟!” دوى صوت غاضب من نهاية الممر. الدوق إدوارد، مضيف الحفل، تقدم نحوهم بوجه أحمر من الغضب.
“ماذا يحدث هنا بحق السماء؟! الفوضى تعمّ حفلي! امرأة من ضيوفي تسقط مضرجة بالدماء، وأسمع أن زوجتك هي الفاعلة؟!”
ثم التفت نحو الحراس وأشار بيده بعنف:
“أمسكوها! خذوها فوراً!”
تحركت مجموعة من الحراس المسلحين مجددا نحو جين، بينما حاولت هي الانسحاب للخلف حتى اصطدمت بالحائط.
“لم أفعل شيئاً! أقسم أنني لم ألمسها!” صرعت وهي تحاول التملص من أيدي الحراس الذين أمسكوها بقسوة.
نظرت إلى أوتيس بعينين متوسلتين، عيناها تقولان كل ما لم تستطع قوله “لماذا تفعل بي هذا مرة أخرى؟”
فجأة، كأن صاعقة ضربت رأسه، تذكر أوتيس ذلك اليوم في الحديقة عندما اتهمها ظلماً بتسميم إيريس.
تذكر دموعها، تذكر كيف كانت بريئة في النهاية.
“توقفوا! اتركوها !” زمجر بصوته الذي اهتزت له الجدران.
جفل الحراس للحظة، ثم أفلتوا ذراعي جين. سقطت على ركبتيها، تبكي بصوت مكتوم، خديها مغسولين بالدموع.
الجميع تجمد في مكانه.
حتى الدوق إدوارد ارتبك.
“سأتحقق من الأمر بنفسي.” قال أوتيس بصوت هادئ لكنه خطير. “إذا تأكدت من تورطها، سأسلمها لك بنفسي. لكن حتى ذلك الحين، تبقى تحت مسؤوليتي.”
الدوق إدوارد أراد الاعتراض، لكن نظرة أوتيس القاتلة جعلته يتراجع. “كما تريد… لكن لن أتسامح مع أي محاولة للهروب.”
أمسك أوتيس بذراع جين بقوة أقل هذه المرة،
“انهضي.”
وسحبها عبر الممرات المزدحمة بالنبلاء الذين يتهامسون ويلقون نظرات استنكارية.
جين كانت تمشي خلفه بخطوات متعثرة، دموعها لا تتوقف.
“لماذا… لماذا تفعل هذا بي دائماً؟” همست بصوت مكسور. “ماذا فعلت لك حتى تستحق هذا الكره؟”
لكن قبل أن يتمكن من الرد، توقفت جين فجأة.
شهقت، ووضعت يدها على صدرها بألم ،ثم سقطت إلى الأمام مثل دمية قماشية.
التقطها في اللحظة الأخيرة قبل أن تصطدم بالأرض.
“جين!” ناداها بقلق، لكنها كانت فاقدة للوعي تماماً، وجهها شاحب كالثلج.
حملها بين ذراعيه بسرعة، وهرع إلى أقرب غرفة فارغة، واضعاً إياها على أريكة فاخرة. “أحضروا الطبيب! الآن!” صرخ إلى أحد الخدم حراسه “ابحث عن طبيب العائلة واحضره حالا “.
بعد دقائق طويلة من الانتظار المليء بالقلق، دخل الطبيب المسن الغرفة، حاملاً حقيبته الجلدية البالية. أوتيس وقف في الزاوية، يداه متشابكتان خلف ظهره، عيناه لا تفارقان جين التي لا تزال فاقدة للوعي.
الطبيب فحصها بدقة، ثم تنهد وقال بصوت قلق:
“إنها في حالة إنهاك شديد… تعرضت لضغط نفسي حاد، وهذا قد يكون خطيراً على حالتها… خصوصاً وهي حامل. “
أوتيس عبس: “وهل الجنين بخير؟”
“حالياً، نعم، لكن الأمر لن يبقى كذلك إن استمرّت على هذا الوضع. لا يجب أن تتعرض لأي توتر أو إرهاق بعد الآن، جسدها ونفسيتها لا يتحملان ذلك، ولقد اخبرتك بذالك منقبل سيدي “
هزّ الطبيب رأسه بجدية، ثم أضاف قبل أن يغادر:
“أرجوك، كن حذرًا معها. الأمر حساس جدًا.”
بقي أوتيس واقفاً قرب السرير، يراقب جين النائمة بوجه متعب، وجسد هزيل.
فكر في كل شيء… في كمّ الأخطاء التي ارتكبها بحقها، كم مرة صدّق الآخرين دون أن يسمع منها…
كم مرة جعلها تبكي وهي لا تملك حتى أن تفهم لماذا.
‘هل يمكن أن تكون بريئة؟’ تساءل في داخله.
‘هل يمكن أن أكون أخطأت في حقها مرة أخرى؟’
لكن صورة إيريس الملقاة على الأرض بدماء تسيل من رأسها عادت إلى ذهنه.
من سوى جين كان معها في الطابق العلوي؟ من سوى جين لديها سبب لإيذاء إيريس؟
رفع يده ببطء، وكاد أن يلمس وجنتها، لكنه تراجع، وخرج من الغرفة بصمت، يبتلع صراخه داخله.
***
ت
حرك أوتيس بخطوات ثقيلة عبر الممرات الواسعة للقصر ، صوت نعليه الرنان يتردد على الأرضية الرخامية الباردة.
كانت مشاعر مختلطة تتلاطم داخله، قلق وغضب وارتباك، وكلها كانت تثقل صدره مثل صخرة كبيرة.
كل ما يستطيع التفكير به الآن هو إيريس… هل هي بخير؟ وهل حقًا جين هي من دفعتها؟
حين اقترب من جناح الضيوف،كان الممر المؤدي إلى غرفة إيريس يعج بالحركة والهمسات.
الخدم يتنقلون بسرعة، يحملون أطباقاً من الثلج وأوعية ماء دافئ ومناشف بيضاء بدت حمراء في بعض الأجزاء من آثار الدم.
الأطباء يدخلون ويخرجون بوجوه قلقة، بينما وقف والدا إيريس عند الباب، كأنما جذبت أقدامهما إلى الأرض.
أوتيس اقترب بخطوات ثقيلة، صوته يعلو فوق الضجة: “كيف هي؟”
التفتت الكونتيسة دوفريه نحوه فجأة، عيناها الحمراوتان تشتعلان بغضب صامت. “أوه، أخيراً! قررت أن تتذكر أن لديك ضحية هنا؟!”
“كونتيسة، أنا…”
“لا تكلمني!” قطعت كلامه بيد مرتعشة. “ابنتي تكاد تموت، وأنت تقف هناك تدافع عن تلك… تلك…”
“زوجتي لم تفعل شيئاً!” هز أوتيس رأسه بعنف، لكن الكونتيسة لم تكن تسمع.
“ألم تكن كافية محاولتها تسميمها ؟! ألم تكن كافية كل تلك المواقف التي حاولت فيها الإساءة لها؟! والآن هذه؟!”
أوتيس شعر بغصة في حلقه.
نعم، لقد كان هناك اتهامات سابقة، لكن… “لقد ثبت براءة جين في حادثة التسميم.”
الكلمات خرجت أكثر حدة مما قصد.
الكونت دوفريه، الذي كان صامتاً حتى الآن، اقتحم الحوار فجأة: “براءتها؟! كل الدوقية تعرف أنها عاهرة لا تستحق المكانة التي أعطيتها! هي تغار من إيريس لأنها تعرف أنها لن تكون مثلها أبداً!”
أوتيس شعر بقبضتيه تنقبضان من تلقاء نفسها. “احترس في كلامك، كونت. أنت تتحدث عن دوقة فالدور .”
“بل أنت من يجب أن يحترس!” صرخت الكونتيسة وهي تندفع نحوه. “هل نسيت من هي؟ هل نسيت كيف تزوجتها؟ أم أن قلبك بدأ يميل لها؟”
السؤال ضرب أوتيس كالصاعقة. أحب جين؟ لا، مستحيل. هو فقط… فقط يريد العدالة.
“هذا هراء.” قال بصوت أجش. “أنا أؤمن بالعدل. وإذا ثبت أن جين مذنبة، فستواجه العقاب. لكنني لن أتهمها دون دليل.”
“الدليل؟!” ضحكت الكونتيسة ضحكة مليئة بالمرارة.
“الدليل هو أن ابنتي كانت معها لوحدها في الطابق العلوي! الدليل هو أن إيريس لم تكن لتسقط بنفسها! الدليل هو أن كل من في القصر يعرف كراهية جين لها! وحتى هناك شاهد رأها تدفعها هل هناك دليل اكبر من هذا ”
أوتيس أدار عينيه نحو الباب المغلق.
كم مرة ظلم جين؟ وكم مرة كان مخطئاً؟ لكن… ماذا لو كانت هذه المرة مختلفة؟
“سأحقق في الأمر بنفسي.” قال أخيراً. “إذا كانت جين مذنبة، فأعدكم أنها ستأخذ عقابها ، ولكن إذا كانت بريئة…”
“إذا كانت بريئة؟!” هز الكونت رأسه باستنكار. “إذا كانت بريئة، فسأعتذر لها شخصياً.
لكننا نعرف الحقيقة، أوتيس. وأنت تعرفها أيضاً.”
في تلك اللحظة، فتح باب الغرفة، وخرج الطبيب ، وجهه شاحب من التعب.
“حالتها مستقرة الآن.” قال الطبيب وهو يمسح جبينه. “لديها ارتجاج في الرأس، لكن الضرر ليس خطيراً. هي بحاجة للراحة فقط.”
“هل يمكننا رؤيتها؟” سألت الكونتيسة بصوت مرتجف.
“نعم، لكن لفترة قصيرة.”
اندفع والدا إيريس إلى الداخل، بينما بقي أوتيس واقفاً عند الباب.
من خلال الفتحة الضيقة، رأى إيريس مستلقية على السرير، شعرها البني منتشر حولها مثل الهالة، وجهها الشاحب يبدو أصغر سناً، أكثر ضعفاً.
كان عليه أن يدخل. كان عليه أن يتأكد بنفسه. لكن قدميه رفضتا التحرك.
لماذا؟
هل كان يخاف من رؤيتها هكذا؟ أم أنه… يخاف من شيء آخر؟
شعر بثقل في صدره. مشاعر مختلطة لا يستطيع تفسيرها. غضب. ذنب. قلق. وشيء آخر… شيء لم يرد الاعتراف به.
ثم فقط أدار ظهره ومشى بعيداً.
كان عليه أن يجد الحقيقة.
***
كان ضوء الفجر الباهت يتسلل عبر النوافذ العالية للقصر عندما بدأ أوتيس تحقيقه.
وقف في منتصف الغرفة الكبيرة التي تحولت إلى مركز للتحقيق، وجهه محفور بالتعب والتفكير و مرهقًا من السهر. أصدر أوامره الأولى بصوت أجش
“أحضروا لي الشاهد الذي ادعى رؤية الحادثة. الآن!” قال للحارس الواقف عند الباب، صوته بارد كالثلج.
“أمرك سيدي .” انحنى الحارس واختفى في الرواق.
لحظات فقط، ودخل رجل نحيل بوجه متوتر وعينين زائغتين. ارتبك وهو ينحني أمام أوتيس، يفتل أصابعه بقلق.
“نعم… نعم يا سيدي، هذا ما رأيته.” قال الرجل بصوت واهن.
“صف لي بالضبط ما رأيت.” اقترب الدوق منه خطوة واحدة، عيناه تخترقانه.
بلع الشاهد ريقه، ثم قال: “كنت أنظف الممر العلوي… وفجأة سمعت صوتًا، نظرت ورأيت امرأة تدفع الآنسة إيريس… كانت تضع ثوبًا زهريًا وشعرها أصفر…”
“هل رأيت وجهها؟” قاطعه أوتيس فجأة.
تردد الرجل، ثم هز رأسه: “لا… لم أتمكن من رؤية وجهها، كانت تدير ظهرها… لكن شعرها كان أصفر! من غيرها يمكن أن تكون؟”
“هذا ليس جوابًا.” قال أوتيس بجفاء. “اذهب الآن، وابقَ متاحًا إن احتجناك.”
خرج الرجل، بينما نظر أوتيس إلى الخارج، ملامحه جامدة.
بعد لحظة، استدار وسار عبر الممرات حتى وصل إلى موقع الحادث.
وقف عند قمة السلم، متفحصاً كل تفصيلة. بقعة دم صغيرة على حافة السلم، بعض الخدوش على الدرابزين… ثم لاحظ شيئاً غريباً. قطعة قماش صغيرة عالقة في مسمار بارز. أمسكها باحتراس. كانت قطعة من شال حريري أزرق، ليس من شيء تمتلكه جين.
“هذا لا يبدو من فستان جين…”
مرت دقائق، ثم وصل إليه أحد الخدم، يلهث: “مولاي… الآنسة إيريس… استيقظت، وتطلب رؤيتك.”
دخل أوتيس غرفة إيريس بخطوات هادئة. كانت مستلقية على سريرها الأبيض، رأسها مضمد، ووجهها شاحب.
فتحت عينيها حين شعرت به، وابتسامة واهية ارتسمت على شفتيها.
“أوتيس…” همست.
اقترب منها وجلس على حافة السرير. “كيف تشعرين؟”
“أفضل… الآن على الأقل.” أمسكت بيده برقة، عيناها تلمعان بدموع لا تزال متحجرة في الأطراف. “لقد سمعت… سمعت أن جين هي من دفعتني. لماذا؟ لماذا تفعل بي هذا؟”
شهق أوتيس خفيفًا. “إيريس، لم نثبت بعد أنها من فعلت هذا. لا تتعبي نفسك بالتفكير، عليك أن ترتاحي.”
هزت رأسها بخفة. “أنا فقط… كل ما أتذكره هو امرأة بشعر أصفر… كانت تقف خلفي، ثم… لا شيء.”
“امرأة بشعر أصفر؟ هل رأيت وجهها؟” سأله بهدوء.
“لا… فقط تذكرت دفعة قوية، وسقوطي، لكن لا شيء أكثر.”
“حسنًا… ارتاحي الآن. سأحرص على معرفة الحقيقة.” قبّل جبينها المضمد برفق، ونهض ليغادر.
عندما خرج من الغرفة، كان تفكيره مشوشاً أكثر من أي وقت مضى. كل الأدلة تشير إلى جين، لكن شيئاً ما بداخله يرفض تصديق ذلك.
ثم جائه أحد الحراس قائلًا: “سيدي، هناك شاهد جديد… يقول إنه رأى كل شيء.”
“أدخلوه فورًا.” قال دون تردد.
دخل شاب صغير، يبدو خائفًا ومرتبكًا. انحنى أمام الدوق.
“قل كل ما رأيته.” أمره أوتيس.
“كنت في الزاوية، أنقل بعض الصحون. رأيت امرأة بشعر أشقر تقف خلف الآنسة إيريس، ثم… دفعتها. لكن… لم تكن الدوقة! أنا متأكد!”
“كيف عرفت؟”
“رأيت وجهها بوضوح… كانت خادمة جديدة، اسمها… روزلين، أعتقد.”
“هل أنت متأكد؟”
“نعم يا سيدي، لقد كنت قريبًا جدًا. ورأيت السيدة جين نائمة لاحقًا في احد الارائك.”
رفع أوتيس حاجبيه، الإحساس بالارتياح المشوب بالحيرة بدأ يزحف إلى صدره. “أين روزلين الآن؟”
“لا أعلم لم ارها منذ ذالك الحين “
امر اوتيس الحراس بالبحث عنها وبعد دقائد عاد احد الحراس
لقد وجدناها ميتة سيدي ، في إحدى الغرف المهجورة خلف الاسطبلات.”
تجمد أوتيس في مكانه. “ميتة؟!”
“نعم، ويبدو أنها تناولت سُمًا…”
أغلق أوتيس عينيه لثوانٍ، ثم أمر: “أغلقوا القضية. برّئوا الدوقة ، ودعوا الجميع يعلم بالحقيقة.”
في تلك الأثناء، كانت جين قد استيقظت، متعبة، عيناها نصف مفتوحتين.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 12"