جين احمرت فجأة، وكأن أحداً قد ألقى عليها ماءً مغلياً.
نظرت إلى أوتيس ، لكنه هذه المرة كان يحدق فيها بتعبير غريب. ابتسم ابتسامة خفيفة ثم قال:
“إنها مريضة قليلاً فقط. لا شيء خطير.”
لكن إيريس لم تكن مقتنعة. نظرت إلى وشاح جين، ثم فجأة، مدت يدها وسحبت الوشاح برقة.
“الجو حار جداً، وأنتِ تتعرقين. لماذا ترتدين هذا الوشاح؟”
عندما سقط الوشاح، ظهرت على عنق جين علامات زرقاء واضحة.
صمت ثقيل خيم على الغرفة.
إيريس جمدت في مكانها، عيناها تنتقلان بين جين وأوتيس. جين انتزعت الوشاح بسرعة من يدها ولفته حول عنقها مرة أخرى، يداها ترتجفان واحمرت من الخجل .
“ماذا… ماذا حدث لكِ؟” همست إيريس بصوت مكسور.
جين لم ترد. فقط نظرت إلى أوتيس، عيناها تقولان كل شيء.
إيريس بدأت تفهم. وجهها احمر فجأة، ثم شحب تماماً. “أنا… أنا آسفة.”
نهضت جين فجأة، “عذراً، يجب أن أذهب.” ثم خرجت مسرعة من الغرفة، تاركةً الباب ينغلق خلفها بصوت خافت.
بعد مغادرة جين، بقيت إيريس جالسة في صمت.
عيناها لا ترفعان من الأرض. أوتيس كان يشعر وكأنه قد طعنها بخنجر.
“إيريس…” حاول أن يقول شيئاً، لكن الكلمات اختنقت في حلقه.
نهضت إيريس فجأة، وجهها لا يعبر عن أي شيء. “يجب أن أذهب.”
“انتظري، …”
ثم خرجت، تاركةً أوتيس وحيداً مع ذنبه.
وقف عند النافذة، يحدق في حديقة القصر حيث كانت إيريس تغادر. شعر وكأن الأرض قد انفتحت تحت قدميه.
*لقد خانها. خان إيريس ، الفتاة التي أحبها منذ الطفولة.*
لكن الأكثر إيلاماً كان أنه لم يشعر بالندم على ما حدث مع جين. فقط على أنه جرح إيريس.
***
مرت عدة ايام ، استيقظت جين مع بزوغ الفجر، لكنها لم تشعر بأي راحة.
التعب كان عالقاً في عظامها كالرصاص، وعيناها كانتا ثقيلتين كما لو أنهما لم تناما لأسابيع.
نظرت إلى نفسها في المرآة: شاحبَة، هامدة، مع دوائر داكنة تحت عينيها الزرقاوين.
“ماذا يحدث لي؟”
حاولت أن تتجاهل الشعور، ارتدت فستاناً بسيطاً من القطن الأزرق وربطت شعرها الأصفر في ذيل حصان غير متقن.
حتى هذه المهمة البسيطة جعلتها تلهث كما لو أنها ركضت لمسافة طويلة.
عندما نزلت إلى قاعة الطعام، وجدت الدوق أوتيس جالساً وحيداً عند الطاولة الطويلة، يقرأ إحدى الوثائق بينما يحتسي قهوته السوداء. نظر إليها عندما دخلت، وعيناه الرماديتان لاحظتا على الفور شحوبها الواضح.
“صباح الخير.” قال بصوته المعتاد الجاف، لكنه أضاف بعد لحظة، “هل أنتِ بخير؟”
جلست جين بعيداً عنه قدر الإمكان. “نعم.”
“يجب أن يقوم الطبيب بفحصك.”
“أنا بخير!” قالت فجأة بصوت أعلى مما توقعت، حتى أنها فاجأت نفسها.
نظر إلى صحنها الذي لم تلمسه. وفقط تلعب به “أنتِ لم تأكلي شيئاً.”
“ليس لدي شهية.”
وقفت فجأة، دفعت بالكرسي للخلف. “إذا سمحتِ، سأعود إلى غرفتي.”
قبل أن يتمكن من الرد، كانت قد خرجت من القاعة، تاركةً أوتيس جالساً في صمت، عيناه تتبعان ظلها وهي تختفي.
في الايام الأخيرة، لاحظ أوتيس التغيير الغريب في تصرفاتها:
– كانت تنام لساعات طويلة، لكنها تستيقظ متعبة.
– تختفي فجأة في منتصف النهار كما لو أنها تبحث عن مكان لتغفو فيه.
– شهيتها التي كانت دائماً جيدة، اختفت تماماً.
***
في وقت لاحق من ذلك اليوم، وجدت جين نفسها تسير في الحديقة الخلفية للقصر.
الشمس كانت عالية، لكنها لم تشعر بدفئها. خطواتها كانت بطيئة، ثقيلة، كما لو أنها تسير في حلم.
ثم وقفت فجأة أمام الباب الخشبي الكبير المغطى باللبلاب والأعشاب البرية.
ذلك الباب الذي سألت عنه الخادمة ماريا في أول يوم لها هنا، والذي قيل لها أنه “ممنوع على الجميع”.
‘لماذا؟ ماذا يوجد خلفه؟’
اليوم، على وجه الخصوص، شعرت برغبة لا تقاوم لفتحه.
نظرت حولها، تأكدت أن لا أحد يراقبها.
‘هذا غريب… لماذا أشعر أنني يجب أن أدخل؟’
يدها الصغيرة ارتعشت عندما وضعتها على المقبض الحديدي البارد.
دفعت الباب ببطء…
فأصدر صريرًا خافتًا كأن المكان يعترض على اقتحام صمته.
ما إن عبرت العتبة، حتى فوجئت بمنظر حديقة واسعة كانت في يومٍ ما تزهر بالحياة، أما الآن فقد غطّت الأعشاب البرية كل شيء، وأزهار ذابلة تمايلت في مهب الريح الخفيفة وكأنها تهمس بحكايات قديمة.
في قلب تلك الفوضى الخضراء، امتد ممر خشبي ضيق متهالك بالكاد تُميز حدوده بين العشب الكثيف.
تقدّمت جين بخطى حذرة، تتفادى الأغصان الجافة التي تعترض طريقها، وكانت نسمات الهواء المحمّلة برائحة الخشب العتيق والزهور الميتة تثير في قلبها إحساساً غريباً بالحزن والحنين.
في نهاية الممر، ظهر كوخ زجاجي مهجور. كان الزجاج متسخاً ومغطى بطبقة من الغبار والعفن، لكن يمكن تمييز هيكله الجميل تحت الإهمال الذي تراكم عليه لسنوات. دفعت الباب الذي استجاب بصرير ثقيل، ودخلت.
الداخل كان بارداً، تشوبه رائحة الرطوبة والتراب.
الشمس اخترقت بعض الألواح الزجاجية المكسورة، مرسلة خيوطاً من الضوء فوق الطاولات الخشبية القديمة والصناديق المغلقة.
وعلى أحد الرفوف، كانت هناك صور قديمة مغطاة بالغبار.
مدت يدها ومسحت الغبار بأطراف أصابعها، لتكشف عن وجه امرأة ذات ملامح رقيقة وشعر بلون الفحم، تقف مبتسمة بجانب طفل صغير بعيون رمادية وملامح مألوفة…
“أوتيس!”.
بلا شك، هذه المرأة كانت والدته.
لطالما سمعت أن هذا المكان كان يخصّها.
شعرت جين بشيء يعتصر قلبها وهي تحدّق في صورةٍ جمّدت لحظة من الزمن، لحظة يبدو أنها كانت سعيدة.
تجولت قليلاً، لمست أشياء لم تُلمس منذ أعوام، ثم أخيراً، غادرت المكان بصمت، وعادت بخطى بطيئة نحو القصر.
بدأت عيناها تثقلان فجأة، كأن سحابة سوداء حجبت عنها العالم.
ترنحت قليلاً عند وصولها إلى مقعد حجري قرب الباب الخلفي للقصر، انهارت عليه، وغلبها النوم فوراً.
راها اوتيس وتوقف عند رؤيتها نائمة بتلك الطريقة، ذراعاها مضمومتان حول نفسها، وجهها شاحبٌ كما لم يره من قبل.
“جين؟”
صوت الدوق أوتيس اخترق ضباب نومها الثقيل.
فتحت عينيها لتراه واقفاً فوقها، أشعة الشمس الذهبية المتأخرة تحيط به كهالة.
“ماذا تفعلين هنا؟” سأل، لكن صوته لم يكن غاضباً، بل… قلقاً.
حاولت الجلوس، لكن دواراً غريباً أجبرها على البقاء مكانها. “كنت… أتجول.” ثم فجاة عادت للنوم مجددا .
اقترب منها ببطء، نزع معطفه ووضعه عليها برفق، ثم بقي واقفاً للحظة، يتأمل ملامحها وهي تغفو، قبل أن يغادر دون أن يُصدر صوتًا.
عند حلول المساء، جلست جين على الطاولة مقابل أوتيس، محاطة بصمت ثقيل لم يقطعه سوى صوت أدوات المائدة.
كان هو يرمقها بين الحين والآخر، يلاحظ كيف تتجنب النظر إليه، وكيف أن ملامحها أصبحت أكثر تعبًا وإرهاقًا.
دخلت الخادمة بصينية الطعام، وبدأت بوضع الأطباق أمامهما.
وما إن وضعت طبق الدجاج المطهو أمام جين، حتى شحب وجه الأخيرة فجأة، ووضعت يدها على فمها.
“جين؟” سألها أوتيس بقلق، لكنها لم ترد.
قامت من مكانها بسرعة وركضت خارجة من الغرفة، يدها لا تزال تغطي فمها.
اندهش أوتيس ونهض من مكانه، بينما تبعتها نظرات الخادمة بقلق.
قال بحدة: “حضّري لها حساءً خفيفاً، فوراً.”
أسرع أوتيس نحو جناحها، وطرق الباب، لكنه لم ينتظر إذناً للدخول. دخل وسمع صوت الماء في الحمام.
اتسعت عينا أوتيس، لكنه لم ينطق بكلمة. وقف مكانه متجمّدًا، عاقدًا حاجبيه كما لو أنه لم يفهم ما قيل للتو.
“…حامل؟”
“نعم، أعراضها واضحة. الغثيان، الدوار، الإغماء، كلها أعراض شائعة في الأشهر الأولى للحمل، خاصة إن لم تتغذَ جيدًا. يبدو أنها تعاني من ضعفٍ عام.”
عاد أوتيس ينظر إلى جين، التي ما زالت غافية على السرير، شفتاها متشققتان، وجبينها مبلل بقطرات العرق.
“هل أنت متأكد؟” سأل أخيرًا، بنبرة خافتة.
“تمامًا. ومع بعض الراحة، والتغذية الجيدة، ستكون بخير. سأصف لها بعض المقويات وفيتامينات مناسبة للحمل. حالتها مستقرة، لا داعي للقلق، لكن الأهم ألا تتعرض لأي ضغط نفسي أو مجهود زائد.”
أومأ أوتيس ببطء، ثم نظر للطبيب وقال بجدية: “لا تخبر أحدًا. أبداً.”
“لكن… سيدي، هذا أمر مهم، يجب أن—”
قاطعه أوتيس بنظرة صارمة: “ابقِ الأمر سرًا. إلى أن أقرر غير ذلك.”
تردّد الطبيب قليلاً، لكن أمام حزم الدوق، انحنى أخيرًا وقال: “كما تشاء، سيدي.”
كتب وصفته بخط سريع، ثم خرج من الغرفة بهدوء، يرافقه أحد الخدم.
عاد أوتيس إلى مقعده بجانب السرير، جلس بصمت، يده الكبيرة امتدت بحذر، ثم توقفت فوق بطنها المسطح.
لم يلمسها، فقط بقي هكذا، كأن هناك قوة خفية تمنعه.
لم يكن هناك شيء ظاهر بعد، لا انتفاخ صغير ولا حركة، فقط دفء جسدها الضعيف تحت أصابعه.
“أنتِ…” تمتم، صوته بالكاد يُسمع، “تحملين طفلي؟”
‘طفل… طفلي. طفلنا.’
الفكرة كانت غريبة جداً عليه. في كل خططه، في كل توقعاته، لم يكن هناك مكان لوريث. لم يكن يظن أنه سيرغب في ذلك يوماً ، خصوصا من امراة غير ايريس ، إمراة لطالما كرهها وأعتبرها عاهرة .
لم يكن يعرف ما يشعر به. خليط من الصدمة والدهشة، مشوب بذرة من شيء غريب… شيء أقرب للفرح، وإن لم يعترف به بعد.
ظل صامتًا، يراقبها، يتنفس معها، يحاول أن يستوعب أن الحياة التي تنبض في داخلها جزءٌ منه… منها ومنه.
وفجأة، تحركت يدها.
ثم ببطء، فتحت جين عينيها. نظرت حولها مشوشة، ثم توقفت عيناها على الدوق، الجالس بجانبها، يحدّق بها .
“أوتيس؟” همست، صوتها ضعيف بالكاد يُسمع.
أجابها سريعًا، صوته دافئ على غير العادة: “أنا هنا.”
نظرت إليه بقلق، ثم تمتمت: “ما الذي حدث؟ لماذا أشعر أنني كنت… طافية؟”
“لقد أغمي عليكِ.” قال بلطف.
“أنتِ لم تأكلي شيئًا تقريبًا طوال اليوم، جسدك كان مرهقًا جدًا.”
حدّقت في عينيه، تبحث عن شيء، كأنها تشعر أن هناك شيئًا ناقصًا في تفسيره.
لكنها لم تسأله، بل أغمضت عينيها للحظة، ثم قالت: “أنا بخير الآن… فقط أشعر بالتعب.”
“نامي.” قال بصوت خافت ، “سأبقى هنا.”
فتحت عينيها مجددًا، نظرت إليه بشك.
لكن عينيها كانتا تغلقان ببطء مرة أخرى.
ولم تنتظر لترد، فقد غلبها التعب مجددًا، واستسلمت للنوم.
جلس أوتيس بهدوء، أنفاسه متسارعة بعض الشيء، كأن شيئًا قد تغيّر داخله، كأن هذه اللحظة بين الغياب والوجود حوّلت شيئًا في قلبه لم يكن يعرف بوجوده.
مد يده ثانية، وضعها فوق بطنها بخفة، وكأنّه يخاطب الكيان الصغير الذي لم يرَ النور بعد:د
“أنا… لا أعرف كيف أكون أباً. ولا أعرف إن كنتَ ستأتي في عالم يستحقك. لكنني أقسم… أنني سأحميك.”
وبقي جالسًا، يحرس نومها، حتى غرق الليل في الصمت، ولم يتبقَ في الغرفة سوى خفق ثلاثة قلوب … أحدهم بدأ للتو.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 10"