كان يومًا عاديًا من تلك الأيام التي تمضي دون أن يلتفت لها أحد.
أوراق التصميم مبعثرة فوق المكتب، أكواب القهوة الفارغة تتناثر كجنود سقطوا في معركة السهر، وشاشة الحاسوب تومض ببرنامج تصميم لم يُحفظ بعد.
جلست يورا، ذات السبعة وعشرين عامًا، على كرسيها الجلدي المعتاد، تراقب بعينين مجهدتين آخر اللمسات على فستان زفاف فاخر صممته لممثلة شهيرة.
كانت حياتها صاخبة، مزدحمة بالمواعيد والعمل، لكنها أحبّت ذلك.
لم يكن لديها وقت كافٍ للأصدقاء، ولا للعائلة، ولا حتى للراحة، لكن الشهرة التي بدأت تحصدها كمصممة أزياء صاعدة كانت تسد ذلك الفراغ.
كانت لديها قطة صغيرة تُدعى “موكا“، ترافقها في الليالي الطويلة، وهي على غير عادتها قررت أن تأخذ استراحة قصيرة وتغوص في صفحات روايتها الإلكترونية المفضلة.
الرواية التي أصبحت إدمانها اليومي: “الحب المقيد “.
ابتسمت بسخرية وهي تقلب الصفحات على هاتفها.
“جين الحمقاء، ألا تعلمين أن نهايتك ستكون مأساوية؟”
قالتها وهي تقرأ كيف أن جين، الشريرة المدللة، تواصل استفزاز البطل الوسيم أوتيس، فقط لتُذبح على يده لاحقًا بعد سلسلة من الكوارث.
شخصية جين لطالما جذبتها خصوص صورتها المرسومة على غلاف الكتاب مع باقي الابطال دائما ما تتسائل فتاة بجمال جين لما تلقي نفسها الى الهلاك .
قالت لنفسها بابتسامة، بينما كانت تسمع في الخلفية صوت مذيعة الطقس تتحدث عن الامطار الغزيرة و تحذر الناس للسياقة بتمهل لاجتناب الحوادث .
في طريق العودة إلى المنزل، تحت المطر الغزير، لمحت سيارة مسرعة تنحرف نحوها
صوت فرامل، صراخ مفاجئ، ضوء أبيض، وبرودة لا تشبه أي برودة شعرت بها من قبل.
لا وجع… لا صوت… لا شيء.
حين فتحت عينيها، لم تكن هناك أصوات سيارات، ولا ضوء شاشة، ولا موكا تقفز فوقها.
بل سقف مرتفع بزخارف ذهبية، وستائر حريرية تتمايل على نوافذ شاهقة، وعبير خافت من الزهور الجافة.
نهضت فجأة، بارتباك، لتجد جسدها مكسوًّا بملابس نوم ناعمة لم تر مثلها من قبل، شعرها مسدول على وسائد مخملية، والغرفة… ليست غرفتها.
“أين… أنا؟”
قفز قلبها حين فتحت الباب وظهرت أمامها فتاة ترتجف، ترتدي زي خادمة، انحنت فورًا وهي تتلعثم:
“آنستي… أنستي جين! لا يجب أن تنهضي وحدك بعد ما حدث بالأمس…”
تجمدت في مكانها.
جين؟
“هل قلتِ… جين؟”
لم تجب الخادمة، بل انحنت أعمق، جسدها يرتعش خوفًا.
أغلقت الباب ببطء، عادت تتكئ على السرير، وضعت يديها على وجهها… لكنه لم يكن وجهها.
ركضت إلى المرآة، وكأنها تخشى أن ترى ما تعرفه مسبقًا.
وكانت الصدمة.
الوجه في المرآة ليس غريبًا عليها… انتظر لحظة … انه وجه جين نفسها، الشريرة المتغطرسة في روايتها.
“هذا… هذا مستحيل.”
لم تستوعب. لم تصدق. لا يوجد تفسير منطقي واحد.
لكن ما تراه أمامها، وما تسمعه، وما تشعر به… حقيقي جدًا.
“هل أنا في الرواية?… في جسد جين؟”
وضعت يدها على فمها، تنفست بعمق.
هل ماتت؟ هل هذا نوع من الهلوسة قبل الموت؟ هل هذا حلم؟
لكن الألم في قدمها حين ارتطمت بالحافة كان حقيقيًا.
“يا إلهي… لقد تجسدت في جسد جين? الشريرة التي ستموت على يد البطل ?”
صرخت في سرّها، وهي تتذكر تفاصيل الرواية، تلك التي قرأتها مرات كثيرة.
قطع الصمت طرقٌ خفيف على الباب، ثم فُتح بتردد.
رجل في منتصف الخمسينات، بشعر أشيب أنيق، وعيون رمادية دافئة، دخل بخطوات واثقة، عطره فخم، وابتسامته تنضح بالفخر.
“أميرتي الصغيرة، هل أنتِ بخير؟”
نظرت إليه بذهول… ثم عرفت. هذا هو والد جين، النبيل الشهير، رئيس بيت “إلينور“، الرجل الذي لطالما دلل ابنته الوحيدة بطريقة أفسدتها تمامًا.
لم تعرف ما تقول، لم تعرف كيف تتصرف، واكتفت بالابتسام بتوتر.
اقترب منها، قبّل جبهتها كأب عطوف.
“سمعت أنكِ شعرتِ بالإرهاق ليلة أمس، أتمنى ألا يؤثر ذلك على استعداداتك… الزفاف بعد ثلاثة أيام، عزيزتي. لقد حلمت بهذا اليوم منذ ولادتك.”
سقطت كلماته كالصاعقة.
“زفاف؟”
همست بصوت لا يكاد يُسمع.
“بالطبع، زفافك من الدوق أوتيس، … ألم تكوني متحمسة لذلك؟ لقد كان حلمك منذ الطفولة!”
لم تجد ردًا. وجهها شحب، وعقلها يصرخ:
“هذا ليس حلمي، هذا كابوسي…”
غادر والدها بعد دقائق وهو مطمئن على “ابنته الحبيبة”.
وبدات فجاة ذكريات جين الحقيقية في التدفق الى عقلها
وحدها بقيت، تتلفت حولها كمن حُبس في قفص ذهبي.
لكن لم يكن هذا أسوأ ما شعرت به.
حين خرجت من الغرفة مترددة، نظرت إليها الخادمات في الرواق وكأنها شيطان خرج لتوّه من الجحيم.
كل واحدة منهن انحنت بتوتر، لم تجرؤ إحداهن على النظر في عينيها، بعضهن ارتجفن بوضوح، أخريات كدن يبكين.
“ما الذي فعلته جين بهن؟”
نظراتهن كانت كافية لتُفهمها: جين لم تكن فقط شريرة في الرواية… كانت ظالمة في حياتها أيضًا.
أحست بثقل غريب في قلبها.
ليست فقط حبيسة هذا الجسد… بل حبيسة تاريخ شخص لا يطيقه أحد سيموت قريبا .
تراجعت إلى غرفتها، جلست على السرير، عقلها يدور…
ثلاثة أيام فقط.
وهي ليست البطلة. ليست الشريرة الحقيقية. لكنها في الجسد الخطأ، في التوقيت الأخطر.
وهي الآن… العروس القادمة للدوق أوتيس.
ولم يكن هناك مفر.
ثلاثة أيام…
ثلاثة أيام فقط، ثم تقاد إلى قبرها وليس زوجها .
جلست “يورا” أو “جين” الآن على السرير الكبير، متشنجة الكتفين، تعصر أصابعها في حجرها.
“لا يمكنني أن أموت هكذا… ليس بهذه الطريقة.”
استرجعت بذاكرتها فصول الرواية التي تعرفها جيدًا.
أوتيس، البطل الفارس، لم يكن فقط قاتل جين… بل كان أكثر من ذلك: كابوسها اليومي، الجدار الذي تصطدم به حتى تنكسر.
لكن… ماذا لو لم تصطدم؟
ماذا لو أغوته قبل أن يكرهها؟
ماذا لو لم يرَ فيها تلك المرأة الفاسدة التي تنفره، بل امرأة جديدة…؟
“نعم، هذه فرصتي الوحيدة.
إن لم يحبني، فعلى الأقل… ليتردد لحظة قبل أن يقتلني.”
نهضت بعزم، وبدأت تمشي في الغرفة ذهابًا وإيابًا.
“لكن لا يمكنني أن أظهر أمامه بملابس جين الفاضحة… هو يكرهها لهذا السبب.
يجب أن أبدو… جذابة لكن راقية.”
رنّ جرس صغير على الباب.
الخادمة وقفت خائفة كعادتها.
“نعم، أدخلي.”
“هل… هل ترغبين بشيء، آنستي؟”
ابتسمت جين برقة لم تعهدها الخادمة، فتجمدت في مكانها.
“أجل. أريد أن أخرج إلى السوق. أحتاج لشراء شيء… خاص.”
“السوق؟” ترددت، “لكن والدك قد لا يوافق...”
“إنه سيسمح. فقط أعدّي لي ملابس لائقة، واطلبي من أحد الفرسان مرافقتي.”
بعد ساعة، كانت تركب عربة فخمة بجانب خادمتها التي عرّفت نفسها لاحقًا باسم ليليان وفي مواجهتهما جلس أحد فرسان القصر، شاب ذو نظرات صارمة لم يحدق بها سوى مرة واحدة.
عندما دخلوا حدود المدينة، شعرت كأنها عبرت بوابة لعالم آخر.
المباني ذات الطابع الأوروبي، الأقمشة الملوّنة على نوافذ المحلات، باعة يصرخون، أطفال يركضون حفاةً يضحكون، نساء بأزياء تقليدية يتجولن بحذر… كان السوق ينبض بالحياة، حياً أكثر من أي شيء في حياتها السابقة.
نزلت من العربة وسط دهشة المارة، وأمسكت بطرف تنورتها الجديدة فستان أرجواني أنيق، مغلق عند الصدر، يكشف عن كتفيها بنعومة دون مبالغة مزيج بين الأناقة والاحتشام، بعكس ملابس جين السابقة التي كانت تصرخ: “انظروا إليّ!”
“آنستي… هذا المتجر يبيع المجوهرات.
هل تريدين الدخول؟”
أومأت وهي تهمس: “نعم. أريد شيئًا بسيطًا، لكن ملفت.“
جربت عقدًا ناعمًا مرصّعًا بحجر أزرق يشبه عينيها الجديدة، وحلقة رفيعة من الذهب الأبيض، ثم اختارت مشطًا للشعر على شكل فراشة من الكريستال.
بعد الانتهاء من التسوق وعند رجوعها لعربتها شمّت رائحة شيء جعل بطنها يقرقر.
“ما هذا؟” سألت، مائلة نحو العربة المتنقلة.
ليليان شهقت: “آنستي! هذا طعام شارع! لا يليق بكِ…”
لكن جين لم تسمع. اقتربت من البائع، اشترت قطعة من خبز محشو بالجبن والأعشاب، وأخذت قضمة.
“يا إلهي…” تمتمت، “هذا أفضل من كل الطعام الفاخر في القصر!”
ضحكت، ضحكة صافية لم تخرج من صدرها منذ دخلت هذا العالم.
ذلك اليوم… كان استراحة قصيرة من الجنون القادم.
***
حين عادت للقصر، جلست في مكتبها الجديد الغرفة الخاصة بجين، مليئة بالرسائل الغرامية وأحضرت ورقةً وقلماً.
“حسنا ، لنبدأ بالخطة.“
الرسالة:
“إلى حضرة الدوق أوتيس،
أرجو أن تمنحني من وقتك الثمين ساعة فقط. لدي أمر هام أود مناقشته معك شخصيًا، بشأن مستقبلنا المشترك.
المخلصة،
جين إلينور”
أعطتها للخادمة، وطلبت إرسالها فورًا.
لكن الردّ جاء أسرع مما توقعت.
“الدوق يرفض الحضور أو اللقاء بكِ.”
وكأن الردّ صفعها على وجهها.
“وقح...” همست من بين أسنانها، ثم نظرت نحو والدها الذي دخل لاحقًا للاطمئنان عليها.
“أبي، لدي طلب صغير… أتمنى أن تدعو الدوق للعشاء. سيكون من غير اللائق أن يرفض طلبك، أليس كذلك؟”
ضحك والدها: “أوتيس؟ طبعًا لا يمكنه أن يرفضني. سأرسل الدعوة بنفسي.”
***
في اليوم التالي، كان القصر في حالة تأهب قصوى.
الخدم يركضون ذهابًا وإيابًا، الطهاة في المطبخ يجهزون كل ما تمليه القائمة الملكية، وروائح الطعام تتسلل من كل ركن في جناح الضيوف.
استنفرت كل الخدم لتحضير أفضل الأطباق التي يحبها أوتيس (وفقًا لما ذكرته الرواية):
– **حساء بالكريمة بالاعشاب .**
– **لحم الغزال المشوي مع صلصة التوت.**
– **فطيرة التفاح بالقرفة** (حلواه المفضلة).
“هل تأكدتم من تجهيز حساء الكريمة بالأعشاب؟ إنه المفضل لديه.”
قالتها جين، وهي تقف بفستان فاخر بلون الكرز الغامق، شعرها مربوط نصفه بمشبك الفراشة الجديد الذي اشترته بالأمس، ووجهها مزين بمساحيق خفيفة تعكس نعومتها لا جرأتها.
الخدم كانوا يحدقون فيها بذهول، وكأنهم لا يعرفونها.
“آنسـتي، أنتي… مختلفة اليوم.”
ليليان قالتها بخفوت، فابتسمت لها جين ولم تجب.
عندما دقّت الساعة الخامسة، وصلت عربة الدوق.
هبط منها رجل طويل، عريض الكتفين، ملامحه صارمة كأنها نحتت على يد فنان غاضب.
شعره الأسود مموج، وعيناه الرماديتان تحدّقان بثبات لا يخلو من البرود.
كان يرتدي زيًّا عسكريًا أنيقًا، ممتلئًا بجسمه الرياضي ، سيفه يلمع عند خاصرته، وخطواته واثقة كأنه لا يدوس الأرض بل يأمرها أن تحمله.
إنه هو…
الدوق أوتيس، بطل الرواية، قاتل جين، وفارس الإمبراطورية الذي لا يُقهَر.
دخل إلى القاعة، محاطًا بهيبةٍ لا توصف.
عندما دخل توقفت جين عن التنفس للحظة.
كان وسيمًا أكثر مما تخيلت
لكن نظراته كانت جليدية.
“مرحبًا بك، دوقي العزيز.“
قالتها جين بابتسامة ناعمة، تمد يدها بلباقة.
لم يُقبّل يدها.
لم ينظر فيها. فقط انحنى بخفة دون نية، وقال:
“دعينا ننهي هذا بسرعة.“
كتمت صدمتها، وأمرت الخدم بالمغادرة.
حتى الطهاة خرجوا وهم يتبادلون النظرات المرتبكة.
حين أصبحا وحدهما، تقدّمت نحوه بخطى هادئة.
“لقد أمرت بإعداد كل ما تحبه. أردت أن أكرمك… كزوجي المستقبلي.“
جلس دون أن يرد، يراقبها كما يراقب عدوه.
“أعلم أن زواجنا صفقة… لكنني آمل أن نكون أصدقاء على الأقل.”
“الصداقة؟ معكِ؟” ضحك ساخرًا. “هل تمزحين؟”
حاولت إغراءه بلمسات خفيفة عندما سكبَت له النبيذ، لكنه انتزع الكأس بعنف
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"