في صباح اليوم التالي، تناولت إيري فطورها بمفردها في غرفة الطعام. ورغم أنها نامت قليلاً، إلّا أن الساعة كانت قد قاربت التاسعة. وبدلًا من انتظارها أو إرسال خادمة، تركها الكونت إرنست وشأنها. تخلّصت أخيرًا من التوقّعات التي كانت عالقةً في ذهنها.
بعد أن أنهت فطورها، الذي بدا مُبالَغًا فيه بالنسبة لها، اقتيدت إلى الفناء. تلألأت البلاطات السوداء والكريمية والبيضاء تحت أشعة الشمس، وحلّقت العصافير على الدرابزين المُنحني، تحكّ أجنحتها قبل أن تُحلِّق.
بينما كانت مُشتّتة الذهن تُفكّر بين الشاي الأسود والقهوة، قُدِّمت لها صينيةٌ من ثلاث طبقاتٍ مليئةٍ بالحلويات. فركت إيري بطنها مُبالِغةً وقالت لجينجر بخجل.
“لقد تناولتُ الطعام للتوّ. في الغرفة المجاورة.”
“أرجوكِ، لا تُبالغي في الرسمية، آنستي.”
كان هناك شيءٌ ما في أسلوب جينجر الماهر في تحويل مسار الحديث ذكّر إيري بالخادم الشخصي.
بينما كانت إيري تبتلع حلوىً سكّريةً لدرجة أنها تُثير ارتعاش لسانها، كانت تُجهّز لها ثلاث صحفٍ مختلفة.
الصرامة والعدل …
لم تستطع إلّا أن تتذكّر تلك الكلمات مجدّدًا. كان ذلك حتميًا بمجرّد أن عَلِمت أن الصحف التي تُوزَّع كلّ صباحٍ تُمثِّل وجهات نظرٍ مُحافِظةٍ، ومتقدّمةٍ، ومتوسّطة.
ولأنها لا تعرف شيئًا عن المشهد السياسي في بريتيا، فقد أخذت وقتها في قراءتها. كلّما خطر ببالها سؤال، كانت تسأل جينجر فورًا.
لدهشة إيري، بدت جينجر ممتنّةً تقريبًا لفرصة الإجابة، فقد كانت مُلِمّةً للغاية بالشؤون الجارية.
“هل تقرأين الصحيفة عادةً أيضًا يا جينجر؟”
“كان والدي صارمًا جدًا في التأكد من أنني أعرف كيف تسير الأمور.”
‘أبٌ صارمٌ آخر، هاه.’
“ماذا يعمل والدكِ؟”
“يعمل كخادمٍ شخصيٍّ لدى عائلةٍ نبيلة.”
“…أيّ عائلةٍ نبيلة؟”
شعرت إيري بشعورٍ غريب.
“عائلة الكونت إرنست.”
“آها…”
كما توقّعت، كانت جينجر ابنة الخادم الشحصي. راضيةً عن حلّ هذا اللغز الصغير، شعرت إيري بارتياحٍ كبير، فتناولت على الفور ثلاث قطع بسكويتٍ أخرى مغطّاةً بمربى التفاح.
وعندما انتهت من قراءة آخر الصحف، وجدت نفسها تتمتم.
“همم… لورانز برينغر…”
مهما كانت الصحيفة التي تقرأها، فإنها جميعها تُشيد برجلٍ واحد: لورانز برينغر.
اختلفت الصياغة، لكن الرسالة كانت واحدة. كان بطلاً بحرياً، ويحمل وسامةً لا تُضاهى، رجلاً تبرّع بكامل مكافأة الحرب التي حصل عليها، وهي 100,000 دورين، لدار أيتام، والأهم من ذلك، أنه كان يبحث عن زوجة.
حتى أن الصحيفة المُحافِظة خصّصت صفحةً كاملةً لصورته بالأبيض والأسود. وتضحيتهم بإيرادات الإعلانات مقابل ذلك جعلهم يتوقّعون عائدًا ماليًا أكبر من صورته وحدها.
“… إنه وسيم.”
بينما همست إيري بلا مبالاة وقلبت الصفحة، تجمّدت جينجر فجأة.
“…؟”
نظرت إيري بين منظر جينجر ولورانز قبل أن تسأل.
“جينجر، هل أنتِ معجبةٌ بالسيد لورانز؟”
“أعتقد … أنه حقًا … مثيرٌ للإعجاب.”
لأوّل مرّة، بدت جينجر، التي كانت تقف كجنديٍّ صارم، وكأنها اعترفت بجريمةٍ شنيعة.
“سمعتُ باسمه. مع ذلك، لم أرَ وجهه من قبل.”
قاتل لورانز برينغر في حرب غينيس-ريبروت كحليفٍ لغينيس، ونال إشادةً كبيرةً بسبب ذلك. كان الكثير من سكّان غينيس معجبين به. ومع ذلك، ولأن إيري عاشت في قريةٍ صغيرةٍ حيث كانت أخبار الحرب تصل متأخّرةً وكان الناس يتجنّبون مناقشتها، لم تسمع سوى تعليقاتٍ عابرةٍ عن كون ‘بطلٍ بحري’ شابٍّ وغير متزوّج. لم يكن هناك سببٌ لرجلٍ مثله أن يضع قدمه في قرية غينيس النائية.
” قاد معركة ميسيسيني البحرية إلى النصر رغم أن القيادة الرئيسية قد فقدت الأمل. كما أنقذ حياة الأمير.”
احمرّت وجنتي جينجر قليلاً الآن. كان التعبير الذي كانت عليه سابقًا، نظرة اليأس، واضحًا كفتاةٍ واقعةٍ في غرامٍ يائس. عندما رأت إيري هذا الجانب منها، أدركت أخيرًا أن جينجر أصغر منها بسنتين، ثمانية عشر عامًا فقط.
“أفهم إنقاذ الأمير، لكن المخاطرة بحياته بهذه الطريقة؟”
“إنه شجاعٌ للغاية.”
أو مُقامِرٌ بارع. إذا أنقذ حياة أميرٍ في الحرب، ستكون المكافآت لا تُصدَّق. لكن إيري قرّرت التخلّي عن الفكرة، الإدلاء بمثل هذه الملاحظة الساخرة أمام جينجر، التي كانت تملك حرفيًا نجومًا في عينيها من الانبهار، سيكون وقحًا.
قبل أن تطوي الصحيفة الأخيرة، سألت فجأة.
“جينجر، هل سمعتِ عن معركة باترويركس؟”
كان صوتها هادئًا بشكلٍ غريب، أشبه بالهمس. كادت جينجر أن تفوّتهاد.
“… عذرًا؟ بيرو… هل يمكنكِ تكرار ذلك يا سيدتي؟”
“معركة باترويركس.”
“أنا آسفة، لكنني لا أعرف الكثير عنها.”
“لا داعي للاعتذار.”
نقرت إيري على خدها بسبابتها ببطءٍ وتأمل.
“لم تكن معركةً مشهورة. خسرت قوّات الحلفاء تمامًا.”
“أرى …”
لاحظت جينجر مزاج إيري الهادئ بشكلٍ غريب، فجلت حلقها.
“هل تريدينني أن أتحقّق من الأمر لكِ؟”
“هل تفعلين هذا النوع من الأشياء؟”
“إذا كان قانونيًا، نعم. يمكنني سؤال وسيط معلومات.”
“لا، لا بأس. ما لم يكونوا هناك بالفعل، فلن يعرف أحدٌ عنها أكثر مني.”
“هل … تحبّين قصص الحرب؟”
“لا، أكرهها حقًا.”
ابتسمت إيري ابتسامةً مضطربةً وأنهت الحديث. ضغطت بمنديلٍ على شفتيها، ودفعت كرسيها للخلف، وأجبرت نفسها على الابتسام.
“على أيّ حال، أودّ أن أُلقي نظرةً حول ‘البجعة البيضاء’.”
***
توقّف لورانز في مكانه. اعترضت عربة فيليكس طريقه.
“هاي، هل تريد توصيلة؟”
“أنتَ ذاهبٌ في الاتجاه المعاكس.”
أجاب لورانز بلا اهتمام، مما جعل فيليكس عابسًا كطفلٍ غاضب.
“أنتَ لا تعرف حتى إلى أين أنا ذاهب.”
“وأنتَ لا تعرف إلى أين سأذهب أنا.”
“أنتَ عائدٌ إلى المنزل بعد أن حطّمت قلب فتاةٍ مسكينةٍ مرّةً أخرى، أليس كذلك؟ وبما أن الطقس جميل، فقد قرّرتَ المشي وحدك.”
“….”
كان من الغريب مدى دقّته. كان لورانز مذهولاً لدرجة أنه عجز عن الكلام للحظة. ابتسم فيليكس وأشار نحو العربة.
“حسناً؟ اركب.”
بدأ المزيد والمزيد من الناس يتعرّفون عليه، ونظراتهم الفضولية جعلته يفكّر في إيقاف عربةٍ على أيّ حال. تنهّد لورانز وصعد إلى عربة فيليكس. بدا قبول هذه الخدمة الصغيرة من الأمير الكسول منطقياً بما فيه الكفاية.
“….”
ومع ذلك، سرعان ما ندم على ثقته بفيليكس بهذه السهولة.
“أنتَ تسير في الاتجاه الخاطئ.”
“لم أقل أبداً أنني سآخذكَ إلى المنزل.”
“… إلى أين نحن ذاهبون؟”
“إلى البجعة البيضاء.”
لطالما اعتقد لورانز أن تسمية القصور أمرٌ مُتكلّف، مع أنه أطلق على حصانه اسم تشارلي. علاوةً على ذلك، لم يكن على درايةٍ كافيةٍ بالمجتمع الأرستقراطي ليعرف ما هي البجعة البيضاء.
“لقد ظننتَها تكلُّفًا، أليس كذلك؟”
“قليلًا.”
“لكن انتظر حتى تراها. إنها في الواقع تبدو كبجعةٍ تفرد جناحيها.”
“إذن، إلى أين بالضبط ‘سأُباع’ هذه المرّة؟”
“إلى عزبة الكونت إرنست. أقسم، إنه من أجل العمل. لا أعرف إن كانت تلك الآنسة ستكون هناك.”
ربما ظنّ فيليكس أنه سيكون من الجيد لو كانت هناك، ولكن إن لم تكن كذلك، فلا بأس. استسلم لورانز لهوس الأمير بالتوفيق بين الأزواج، واتكأ إلى الخلف في مقعده.
***
عندما وصلا، دفع فيليكس جانب لورانز ضاحكًا.
“أرأيت؟ لقد أخبرتُك.”
“… نعم.”
كان على لورانز أن يعترف؛ كان اسم ‘البجعة البيضاء’ مناسبًا. بدا فيليكس منتصرًا. وعلى أقل تقدير، كانت مناقشة العمل مع الكونت إرنست جديّة. كان الأمر يتعلّق بتطوير منجمٍ في جزيرة موتور.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "7"