كان كونت إرنست، الذي شارف على الستين من عمره، يندم على أمرين فقط في حياته.
الأول هو أنه لم يقل لزوجته ‘أتمنى لكِ رحلةً آمنة’ يوم حادث العربة.
والثاني هو اصطحاب يوريو إلى شاطئ غينيس لقضاء عطلةٍ صيفيةٍ في عيد ميلاده الثامن عشر.
كانت الفتاة التي التقيا بها على ذلك الشاطئ الأبيض الناصع رقيقةً كدميةٍ طرية. كانت تبيع حصائر النزهات على الشاطئ، وأعطى الكونت يوريو قطعة نقودٍ عندما رآه يختلس النظر إليها. عاد يوريو وفي يده حصيرٌ مزخرفٌ بالورود، وخدوده محمرّة.
خلال الأيام القليلة التالية، ألحّ يوريو عليهما للذهاب في نزهةٍ على الشاطئ كلّ يوم – لمجرّد رؤيتها. في صباح يوم رحيلهما، كانت الفتاة ترتدي قبعةً زرقاء تناسب عينيها الباردتين الصافيتين. كانت هي القبعة نفسها التي تردّد يوريو أمامها طويلاً في واجهة متجرٍ بالمدينة.
يا له من شغفٍ بريءٍ شبابي! وجد الكونت الأمر مُسلّيًا، بل وحنّ إلى الماضي.
حتى حلّ ذلك الشتاء، عندما أعلن يوريو أنه سيتزوّج تلك الفتاة.
حتى ابنه الأكبر المُزعج كان لا يزال ابنه أيضًا. ترأس كونت إرنست جنازة ابنه البكر في بداية شتاء ذلك العام، ولأوّل مرّةٍ في حياته، تمنّى الموت.
لم يكن هناك ما يدعوه للعيش أكثر من زوجته التي أحبّها، أو أبنائه. أصبحت الحياة معاناةً لا تُطاق، ولم يعد سوى نملةٍ صغيرةٍ تائهةٍ في الظلال.
بما أنه كان قد عزم على الموت، فقد استجمع شجاعته أخيرًا لينظر إلى حزمة الرسائل التي أرسلها له يوريو على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية. كاد أن يحرقها عندما سمع بوفاة يوريو في الحرب، لكنه في النهاية احتفظ بها.
ووجد بين تلك الرسائل صورةً لطفلٍ رضيع.
[هذه ابنتي الحبيبة، أبي. اسمها إيري. سمّيتُها تيمُّنًا باسم جدتي في طفولتها.]
مع مرور الوقت، أصبحت الرسائل أقصر، وأقلّ تكرارًا. حتى لو جُمِعت معًا، لم يكن هناك سوى حوالي عشرين رسالة.
كان عمر الطفلة عامًا واحدًا. ثم خمسة أعوام. ثم فجأة، خمسة عشر عامًا.
كانت تلك الرسالة الأخيرة.
بعد قراءة جميع رسائل يوريو دفعةً واحدة، نادى كونت إرنست محاميه، جونسون، عند الفجر.
“أحضِر لي حفيدتي، إيري.”
في تلك اللحظة، حسم الكونت أمره.
مهما كانت الشخصية التي ستكون عليها حفيدة غينيس، سيقبلها.
حتى لو استاءت منه، سيحبّها.
حتى لو رفضته، سيركع ويتوسّل طلبًا للمغفرة.
ثم نظرت إليه الفتاة، حفيدته، التي تشبه يوريو بشكلٍ غريب، وقالت.
“إذن، لا بد أنني أشبهكَ أيضًا.”
تصلّب وجه كونت إرنست.
لو هاجمها بشدّة، لو وبّخها على وقاحتها، لاعتذرت إيري فورًا. لكنه بدلًا من ذلك، اكتفى بعبوس حاجبيه، وشفتيه ترتعشان كدودة، عاجزًا عن النطق بكلمةٍ واحدة.
نشأت إيري في عالمٍ يُعتَبر فيه التعبير عن المشاعر فضيلة. لذا، بدا ردّ فعل الكونت، وعدم رغبته في الرّد، غير طبيعيٍّ بالنسبة لها.
بالطبع، قرأت عن مجتمع وثقافة بريتيا في السيارة. كانت تعلم شعب بريتيا، وإن كانوا يُجلّون المنطق والعقل، إلّا أنهم ينظرون إلى المشاعر على أنها شيءٌ يجب كبتّه والتحكّم فيه.
لكن معرفة شيءٍ ما نظريًا وتجربته مباشرةً أمران مختلفان تمامًا.
وجدت إيري صمت الكونت الغامض غير محتمل، فتحدّثت مجددًا.
“… أليس لديكَ ما تقوله لي؟”
خارج النافذة، رفرف سربٌ من الحمام الأبيض في السماء. فجأة، شعرت إيري بالخوف.
استُدعيت إلى بريتيا من قِبَل كونت إرنست، لكنها تُرِكت واقفةً هناك، كما لو كانت تُعاقَب.
هل سيصبح هذا المكان سجنها الجميل؟
لم تكن هناك شروطٌ تمنعها من رؤية والدتها مجددًا. ولكن إذا طلب الكونت مثل هذا الأمر غير المعقول، فستغادر فورًا، تمامًا مثل تلك الطيور، تُحلّق بعيدًا بحريّة …
أخيرًا، أمسك الكونت بحافّة مكتبه وقال.
“لا بد أنكِ متعبةٌ من رحلتكِ الطويلة.”
كانت الرحلة طويلة، لذا لم تُكلِّف نفسها عناء الإنكار.
“يمكنكِ تناول عشاءكِ على انفراد. استريحي الآن.”
“….”
هذا كلّ شيء.
اعتلى على وجهه علامات الانفعال، فاستدار الكونت واختفى في الغرفة المجاورة.
تُرِكت إيري وحدها، ووقفت هناك للحظة، مذهولة، قبل أن تمدّ يدها أخيرًا إلى مقبض الباب وتغادر غرفة المكتب.
***
“ربما ظنّ أنكِ ستكونين منهكةً جدًا لتناول العشاء، لذا كان مراعيًا.”
في الخارج، حاول جونسون طمأنتها.
لكن حتى هو بدا عليه بعض الدهشة، متلعثمًا في كلماته. في النهاية، وجّه الخادم الشخصي، جريت، نظرةً حادّةً إليه أمام غرفة إيري المخصّصة، ليُجبره على المغادرة.
“هذه غرفتكِ، آنستي.”
عضّت إيري خدها من الداخل لتُخفي انزعاجها. لكن في اللحظة التي دخلت فيها الغرفة، التي كانت أكبر من غرفة جلوس مطعم مورنينج غلوري بأكملها، عضّت لسانها عن غير قصد.
“إنها … كبيرةٌ جدًا.”
“أمَرَنا السيد بالتحضير بعنايةٍ فائقة. ومع ذلك، إن رغبتِ، يمكنكِ تغيير الستائر والسجاد والفراش أو الأثاث كما يحلو لكِ.”
ربما شعر جريت ببعض المسؤولية عن تصرّف الكونت البارد لأنه حاول الدفاع عنه بمهارة.
ولكن، كان لذلك تأثيرٌ عكسي.
‘إذًا، كان ينوي أن يكون لطيفًا حتى رآني. لماذا غيّر رأيه؟’
كلمات ‘يمكنكِ تغييره إن رغبتِ’ بدت اختبارًا قاسيًا.
إذا قالت نعم، أودّ تغيير الأمور، ستبدو جشعة.
فأجابت ببرود.
“لا بأس”.
“إذا غيّرتِ رأيكِ يومًا، فأخبرينا”.
“… حسنًا”.
“هل ترغبين في أن يتم إحضار وجبتكِ إلى غرفتكِ؟”
“لا. أريد فقط أن أرتاح اليوم. هل يمكنني أن أتجوّل في العقار غدًا؟”
“بالتأكيد. إذا احتجتِ لأيّ شيء، اسحبي جرس الباب بجانب سريركِ، حتى في منتصف الليل.”
“…حتى في الليل؟”
“ستأتي جينجر. ستكون خادمتكِ الشخصية.”
“إذن … متى تنام؟”
“جينجر خادمة. وهي أصغر منكِ، آنستي. يمكنكِ مناداتها كما تشائين.”
تجنّب جريت الإجابة على سؤالها بهدوء.
بعد أن أعطى بعض التعليمات الإضافية، انسحب بهدوءٍ كالظل.
***
مرّرت إيري يدها على المظلّة المصنوعة من الدانتيل الرقيق للسرير الكبير.
كانت الغرفة تحتوي على ركن جلوسٍ يُستخدَم كمكتب، وغرفة ملابسٍ منفصلة، وأثاثٍ أنيق؛ كلّ شيءٍ جديدٍ تمامًا.
تم شراء كلّ شيءٍ خصيصًا لي.
لا شك أن ‘التجهيزات المؤقتة’ تعني أن هذه الغرفة كانت شاغرةً لسنوات. كان الأثاث نظيفًا، ومع ذلك شعرت كما لو كانوا يراقبونها.
حدّقت في الساعة على لوحة التحكّم، عالقةً في صمت.
“آنستي، أنا جينجر.”
سرعان ما وصلت الخادمة لتفريغ أمتعتها وتجهيز حمامها. كانت مهذّبةً وهادئة. عندما رفضت إيري خدمة الاستحمام، أومأت جينجر برأسها وتركت لها ماءً دافئًا.
فحصت إيري بعنايةٍ خزانة الملابس الكبيرة، والطاولة الزجاجية المستديرة، وأزهار الحوذان النضرة، واللوحات الفنيّة الأنيقة.
تنهّدت.
الغرفة الجميلة والفخمة؛ التي تليق بأميرة، لم تُثِر في قلبها شيئًا.
لكن حوض الاستحمام الرخامي الأبيض كان جميلًا.
تركت جينجر زيوتًا عطريةً لحمامها، وأخذت إيري وقتها في شمّها جميعًا قبل خلطها وسكبها في الماء.
رش، رش.
تردّد صدى صوت انسكاب الماء المُبهِج على البلاط الفضي.
ماذا لو ترك بقع ماء؟
انتابها القلق بشأن البلاط، ثم أدركت، بشيءٍ من التسلية، أنها بدأت بالفعل تتخلّى عن فكرة تنظيفه.
بدا كلّ هذا وكأنه حلمٌ عابر.
انعكست تعابير الكونت الباردة على وجهها في الماء الراكد.
عيونه خاليةٌ من الكراهية والمودّة.
نفس اللون الأخضر الداكن الحازم كعين والدها؛ لون أعشاب الصيف العنيدة.
“هل تعلمين أن القانون قد تغيّر، ليُسمَح للنساء بوراثة العقارات؟”
ذكر جونسون ذلك في السيارة.
لقد تغيّر القانون منذ ثلاث سنوات.
“ربما لم يستطع الكونت تحمّل فكرة تسليم عمل حياته لأقارب بعيدين بالكاد يعرفهم.”
“هذا يعني …”
” صحيح. في حين أن لا شيء رسميٌّ حتى تُعاد كتابة الوصية، فإن الكونت يعتبركِ حاليًا وريثته الرئيسية.”
غرقت إيري في بحرٍ من الحيرة، تاركةً تلك الفكرة الصادمة تتسلّل إلى ذهنها.
تلاشى وجه الكونت المستاء، وحلّت محله ابتسامة السيدة آبيل الدافئة.
‘فقط اصمدي حتى ترثي.’
زفرت، وهي تراقب الفقاعات تطفو على السطح.
نعم. ستتحمّل ذلك.
في هذا المكان الذي لم يرحّب بها فيه أحدٌ حقًا…
هذا القصر الجليدي الأبيض البارد.
***
عندما عبّر الخادم الشخصي جريت بلطفٍ عن انزعاجه من الضيف غير المتوقّع، التفت فيليكس إلى لورانز ليسأله عن رأيه.
“لن يطول الأمر. ماذا تريد أن تفعل؟ هل تعتقد أنكَ تستطيع تسلية نفسكَ بدوني؟ دون إثارة المشاكل؟”
مع أن صياغته كانت سؤالًا، إلّا أنها كانت بمثابة أمر.
بعد كلّ هذا، سيكون من السخافة العودة الآن، لذا قرّر لورانز قضاء الوقت بالتجوّل في الحديقة.
توجّه فيليكس إلى الطابق العلوي مع الخادم الشخصي، إلى غرفة الدراسة في الطابق الثاني، بينما كان خادمٌ مُكلّفٌ بخدمة لوران .
“هل أُحضِر لكَ بعض الشاي؟”
“أنا بخير. فقط أخبرني بالأماكن التي لا يجب أن أذهب إليها، وسأحرص على تجنّب تلك المناطق.”
طالما أنه لم يتجوّل في المُلحَق الغربي، كان لورانز حرًّا في استكشاف الحدائق كما يشاء. لتجنّب أيّ فرصةٍ للضياع، اختار الحديقة الشرقية، البعيدة عن المُلحَق الغربي.
“هذه حديقة الورود.”
أوضح الخادم.
“يمكنكَ أيضًا رؤية أنواع الورود التي طوّرتها عائلة إرنست حصريًا.”
قال لورانز إنه يفضّل المشي بمفرده، فتنحّى الخادم جانبًا على الفور. ربما ظنّ أنه بما أن أمير الأمّة هو مَن أحضر الضيف، فلن يكون مجنونًا بما يكفي ليبدأ بقطف الورود.
كان ربيعًا دافئًا على غير العادة. كانت الورود في أوج ازدهارها، وعبيرها الغنيّ يفوح في الهواء. بدلًا من خلع معطفه الطويل، الذي بدا وكأنه يمتصّ أشعة الشمس، فكّ لورانز زرّين من قميصه.
للوهلة الأولى، بدا أن الحديقة مصمّمةٌ بدقّةٍ متناهية. على عكس الصيحة الحديثة للحدائق الريفية غير المنظّمة، فضّل لورانز هذا النمط التقليدي المدروس بدقّة.
لأن رائحته تشبه رائحة المال.
كان من المهم أن يبدو ثريًا. إذا كان سينفق المال، أراد أن يكون ملحوظًا. هذا الجانب الماديّ منه ورثه عن والده، السيد برينغر. ملأته هذه الحقيقة بشعورٍ عميقٍ بكراهية الذات، لكنها ساعدته أيضًا على اجتياز الحياة.
بينما كان يتجوٌل في الحديقة، يقرأ بتردّدٍ الأسماء العلمية للورود المستوردة، توقّف فجأة.
“…”
كان قفاز موسلين مُلقًى في منتصف الطريق. كان قديمًا ومهترئًا. ربما كان غالي الثمن في يومٍ من الأيام، لكن في هذه الحالة، كان يجب التخلّص منه.
“تسك.”
لا بد أن خادمةً مستهترةً أسقطته.
لو تُرِك في منتصف الممرّ هكذا، لكان من المحتّم أن يُداس عليه. بدلًا من عناء ا
لانحناء لالتقاطه، اختار لورانز دفعه جانبًا بطرف حذائه.
تشاك، تشاك.
تردّد صدى صوت القماش وهو يُجَرُّ على التراب بخفوت. كان في تلك اللحظة.
“ماذا تظن نفسكَ فاعلًا؟”
ضربه صوتٌ حادٌّ كصفعة.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "6"