من الشرفة المطلّة على النهر، كان سطح المياه يلمع بفضيةٍ تَعمي الأبصار.
رَاقبت إيري صغار البط وهي تسبح وسط هذا الضياء، شعرت وكأنها دخلت إلى داخل لوحةٍ رومانسيةٍ مفرطة.
حتى عندما أدارت رأسها نحو الطاولة، وجدت لورانز برينغر يُحدّق بها وهو مُسنِدٌ كوعه إلى الطاولة.
كانت الأطباق فارغةً نظيفة، والماء الذي أعاده النادل يتراقص بصورةٍ شفافة.
“ألا تظن أننا نلتقي كثيراً هذه الأيام؟”
سألته إيري، لم يمضِ أسبوعٌ منذ أن اختارا معاً هديةً لجدها في دوسينتا.
أجابها لورانز بهدوء.
“لا أعتقد ذلك.”
“……”
كان واقفاً أمام بنك ويلسون عندما رآها، فبادر لمحادثتها فوراً.
«لنتناول الغداء معاً.»
«هذه أوامر الكونت إرنست.»
بوقاحةٍ لم تغيّر من تعابير وجهه، استخدم ذريعةَ جدها.
«إذا كانت أوامر الجدّ، فلا خيار لي. سيحرمني من حلوى الفواكه المفضلة لثلاثة أيامٍ إذا رفضتُ.»
وهكذا رقصت إيري على نغمته كما أراد.
“هل ننطلق الآن؟”
حتى في هذه اللحظة، شعرت إيري بغرابةٍ وهي ترد ‘حسناً’ وتُمسك بذراع لورانز.
“لنذهب لتناول حلوى الفواكه المفضلة لديكِ. أعرف مكاناً رائعاً.”
دفع الفاتورة بانسيابيةٍ وأخرجها إلى الشارع.
في الشارع الرئيسي، أصبحت نظرات المارّة أكثر وضوحاً. أدركت إيري مرّةً أخرى مدى شهرة لورانز.
“معذرةً… هل أنتَ السيد لورانز؟”
عندما تقدّمت شابةٌ متردّدة، شعرت إيري وكأنها تعيش لحظةً من الديجافو. حاولت فكّ ذراعها المتأبطة ذراع لورانز بإحراج.
“آسف، أنا مشغولٌ الآن.”
لكن لورانز قطع عليها الطريق بردٍّ قاطعٍ وثبّت ذراعه حولها. لم تترك نظرة عينيه الجليدية مجالاً للنقاش. تراجعت الفتاة بخية أمل.
شعرت إيري بالذنب تجاهها دون سبب.
“إنها من معجباتك.”
“تبدو كذلك.”
أجاب لورانز بلامبالاة. حاولت إيري فكّ ذراعها بقوّة من ذراعه. كانت مشاعرها … معقدة.
لقد فرحت سرّاً لأنه رفض الفتاة من أجلها، لكن هذا الفرح ولّد كراهيةً ذاتيةً خفيفة.
وازدادت انزعاجاً من لورانز لأنه جعلها تشعر بهذا التناقض، فسألته بنبرةٍ غاضبة.
“لم يكن عليكَ أن تعاملها بهذه البرودة.”
“لا يمكنني إرضاء كلّ مَن يُعجَبون بي.”
ظل لورانز غير مبالٍ. كأن إيري وتلك الفتاة وأيّ شخصٍ آخر لا يعنون له شيئاً.
في تلك اللحظة، أدركت إيري أنها قد تكون مجرّد فتاةٍ أخرى بالنسبة له. شعرت وكأن جدارًا يفصل عقلانيتها.
كلمات لورانز التي قالها لها، كلماتٌ دفنتها بطريقةٍ ما في ذاكرتها، انهارت دفعةً واحدة.
«بدلًا من الحُبّ، أُفضّل النوم معها.»
ليست مميزةً لأنه يرافقها الآن. لديه معادلةٌ للزواج الناجح، وهو يجرّب نساءً مختلفاتٍ كمتغيّراتٍ فيها. طالما تفي بشروطه، يمكنه النوم مع أيٍّ منهن.
«لماذا تُعدّ كراهيّتكِ لي إهانةً لي؟»
رجلٌ لا يفكّر إلّا بنفسه. هذا هو لورانز برينغر.
كانت تعرفه جيداً. لذا لا ينبغي أن تشعر بخيبة أمل، لكن إيري شعرت بالاكتئاب الشديد.
على الأقل كان لورانز متنبهاً. لاحظ تغيّر مزاجها وهمس بكلماتٍ حلوةٍ لتهدئتها.
“بالطبع إذا قالت الآنسة إيري أنها تحبّني، فسأعاملكِ معاملةً خاصة.”
“لا تسخر مني.”
تصلّب تعبير وجهها.
“ألستِ كذلك؟ أظن أنكِ وقعتِ في حبي بالفعل.”
“لن أقع في حبّ السر لورانز أبدًا. حتى لو انشقّت السماء إلى نصفين.”
أقسمت.
عقدت عهداً مع نفسها. لن تقع أبداً في حبّ هذا المتغطرس الذي يعتبر الحب مجرّد لعبة.
“……”
حدّق بها لورانز طويلاً بتعبيرٍ غامض. شعرت وكأن قلبها سينفجر، لكنها لم تندم على كلماتها. لذا قبلت المواجهة معه طواعيةً دون أن يرمش لها جفن.
كان لورانز أوّل مَن استسلم.
“هذا مؤسف.”
“لا يمكن للجميع أن يحبّوك.”
“……”
“كما قلتَ أنتَ سابقاً.”
أضافت إيري بغمزة. انحنى فم لورانز بما يشبه ابتسامة.
تحوّلت ملامحه إلى برودةٍ تختلف تماماً عمّا كان عليه عندما طلب منها مرافقته.
‘هذه طبيعته الحقيقية.’
واسَت إيري نفسها.
‘كدتُ أن أُخدع به.’
أنقذت نفسها بخطوةٍ جريئة.
“أوامر جدي لا تشمل وقت تناول حلوى الفواكه معك، أليس كذلك؟”
“هذا يعود إليكِ، آنسة إيري.”
“إذن فلننفصل هنا.”
“كما تشائين.”
حاولت إيري التخلّص من مشاعر الارتياح والقلق المتضاربة وهي تودّعه. أومأ لورانز برأسه فقط.
“لنذهب، جينجر.”
“نعم، آنستي.”
كانت خطتهما الأصلية تناول غداءٍ خفيفٍ ثم التوجّه إلى الحديقة المجاورة. كان لديهم مهمةٌ أخرى بجانب زيارة سوق الزهور.
“……”
توقفت إيري، التي كانت متّجهة إلى الحديقة مع جينجر، اثناء المشي عندما وصلت إلى مدخلها.
“لماذا تتبعنا؟”
كان لورانز على بعد خطواتٍ قليلة. هزّ كتفيه وقال.
“أنا أتمشّى فقط. كما ترين.”
لم يحاول حتى إخفاء أنه يتبعها، لكنه لم يكن يتعقبها تماماً. صرخت إيري به من الصدمة.
“أنتَ تتبعنا!”
“همم، ربما.”
“…حسناً. افعل ما تريد.”
أسرعت إيري مع جينجر، التي نظرت إلى لورانز ثم همست بشيءٍ لآنستها. هزّت إيري رأسها بحزم.
“لن أتعامل معه أبداً.”
وصل هذا الصوت إلى مسامع لورانز. بالطبع، كان هذا لانها قصدت أن يسمعها.
وجدت إيري الرّسام الذي تبحث عنه. على الطريقة المدلل بأشجار الدلب، كان الفنانون الفقراء يصطّفون وينصبون حواملهم.
كانوا يرتدون ستراتٍ صيفيةً باليةً وقبعات، وكأنهم متفقون على الزي. ينظّفون فرشهم في دلو ماءٍ أو يجذبون الزبائن بإيماءات.
كان معظم زبائنهم من العشاق والأطفال.
بعد فحص اللوحات المعروضة على جذوع الأشجار، اختارت إيري أحدهم.
“أودّ أن أطلب رسم لوحة.”
عندما كلّمت الرسام، أخرجت جينجر ورقة. نظر لورانز إليها من فوق كتفها.
كان رجلاً وسيماً. يبدو في أوائل الثلاثينيات من عمره، مع خطٍ جميلٍ يصل بين جبهته وأنفه وعظام خدٍّ مستديرة.
شعر لورانز بأنه رأى هذا الرجل من قبل.
‘أين رأيتُه؟’
عندما حاول تذكّر المزيد، أدرك على الفور سبب هذا الشعور بعدم الارتياح.
“إنه والدي. هذه صورةٌ له عندما كان أصغر بعشر سنوات.”
نعم. كان ذلك الرجل الوسيم والد إيري إرنست، يوريو إرنست.
مسح الرسام لحيته الرمادية المنسقة بعناية وقال.
“أنتما متشابهان كثيراً.”
“شكراً لك.”
طلبت إيري منه رسم صورةٍ تقديريةٍ لشكل أبيها الحالي. بينما كان يفحص الصورة بدقة، سألها بحذر.
“هل هذه الصورة لملصق شخصٍ مفقود؟”
“…نعم.”
“حسناً. أعرف متخصّصاً في هذا المجال.”
“سأكون ممتنةً جدًا لو عرّفتني على هذا الشخص.”
تبادلا المزيد من التفاصيل الضرورية.
التفت لورانز إلى جينجر التي كانت تنظر إلى سيدتها بعينين حزينتين وسألها بهدوء.
“أعتقد أن الكونت الصغير إرنست قُتل في معركة باترويركس أليس كذلك؟”
“… تعتقد الآنسة أن الكونت لا يزال على قيد الحياة.”
“ما الذي دفعها للتفكير بهذه الطريقة؟”
“هذا …”
نظرت جينجر إلى رأس سيدتها المستدير وأطلقت تنهيدة. خفضت صوتها إلى همسة.
“يبدو أن لديها شكوكٌ منذ البداية لأنها لم تتمكّن من استلام الجثة. ثم مؤخرًا، قابلت أحد الناجين من معركة باترويركس بالصدفة في الشارع -”
“ناجٍ؟”
كان الناجون من معركة باترويركس يمكن عدّهم على الأصابع. وعلى حدّ علم لورانز، لم يكن أيٌّ منهم في حالةٍ جيدة.
“هو الآن في مستشفى وات للأمراض النفسية.”
كما توقّع. وبينما كان لورانز على وشك أن يسأل شيئًا آخر، ربّتت إيري على كتفه.
“ويبدو أن هذا السيد يريد صورةً أيضاً.”
“……”
أخرجت إيري لسانها له كأنه تنتقم منه لملاحقته إياها.
ابتسم لورانز ابتسامةً خفيفة. وضع ذراعه حول كتفي إيري وقال.
“كم ثمن رسم صورةٍ لشخصين؟”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 33"
شكرا مرة على فصل .. ارجو رفع مزيد😭🫰🏻
حبيت حركة لورانس