كان من المقرّر تناول عشاء ذلك المساء مع الكونت إرنست.
إن لم يكن هناك شيءٌ خاص يمنعهم من الحضور، كانوا يستمتعون بعشاءٍ رسميٍّ كلّ ليلة جمعة. وبحسب تفكير إيري، بدا أن الكونت إرنست كان يحاول جاهدًا ألّا يخلق ‘أيّ شيءٍ خاص’ في ليالي الجمعة.
في البداية، تعرّضت للعتاب عدّة مرّاتٍ بسبب سوء الأدب، ولكن لم يعد ذلك يحدث الآن. ومع ذلك، لم تكن تلك الجلسات مليئةً بالمحادثات المتدفّقة بسلاسة.
لم يكن الكونت إرنست جَدًّا دافئًا، ولم تكن إيري أيضًا حفيدةً ودودة.
لكن عشاء هذا المساء كان مختلفًا قليلًا. لقد لاحظ الجميع التغيير في الأجواء، من الخادم جِريت إلى جينجر والخدم الآخرين.
على الرغم من أن المحادثات لم تختلف كثيرًا عن المعتاد، إلّا أن هناك جوًّا من الارتياح يخيّم على المكان. ربما يمكن وصفه بأنه ‘جوٌّ مفعمٌ بالحيوية’.
عندما قُدِّمت شريحة لحم البافلو، فاجأت إيري الجميع بذِكرها لورانز برينغر أولًا. كانت تحكي كيف كان يوقّع باجتهادٍ للمعجبين في المرّة السابقة.
“نسيتُ أن أطلب منه توقيعًا لجينجر.”
“لا تقلقي، ستأتي الفرصة مجددًا قريبًا.”
بعد أن فتحت إيري الباب للموضوع، تمكّن الكونت إرنست من إخبارها عن حفل العيون الزرقاء الراقص. ابتسمت إيري وقالت إنها متشوّقةٌ لذلك.
ثم توقّفت المحادثة بشكلٍ طبيعي. انشغل كلٌّ منهما بإفراغ طبقه.
في الحقيقة، كان كلاهما متوتّرًا للغاية، ولم يعرف سواهما أنهما كانا يتظاهران بالبهجة أكثر من المعتاد لإخفاء ذلك التوتر.
وفجأة، تحدّثا في نفس الوقت.
“إيري.”
“سيدي الكونت.”
“تحدّثي أنتِ أولًا.”
“لا، من فضلكَ تفضّل أنتَ أولًا.”
ابتسم الكونت إرنست برقّةٍ وهزّ رأسه.
“حفيدتي أولًا.”
تردّدت إيري لفترةٍ وهي تعبث بغطاء المائدة قبل أن تبدأ.
“هذا .. حسنًا، لديّ شيءٌ لأقدّمه لك.”
أشارت إيري لجينجر، فاقتربت من الكونت إرنست. ارتفع حاجبا الكونت الكثيفة بشكلٍ غريب، وكأن الزاوية الملتوية تسألها عن هذا التصرّف أثناء العشاء، مما زاد من توتّر إيري.
“ما هذا؟”
سأل الكونت بينما أخذ صندوق الهدية الفاخر الذي قدّمته جينجر. كان الصندوق السميك ملفوفًا بشريط ساتانٍ بلون الكرز. وعلى زوايا الصندوق الأنيق كان هناك توقيع ‘دو سينتا’ مطليٌّ بالذهب.
“افتحه من فضلك.”
قالت إيري. بدأ الكونت إرنست بسحب طرف الشريط بحذر.
داخل الصندوق كان هناك صندوقٌ أصغر. أمسك الكونت بالعلبة السوداء بيديه وفتحها. كانت بداخله ربطة عنقٍ أرجوانيّةٍ ملفوفة.
“أردتُ أن أشكرك.”
رفع الكونت الربطة بنظرةٍ مستغربة. كانت مطرّزةً بزهرة مورنينغ جلوري (مجد الصباح) بخيطٍ أرجوانيٍّ باهت.
أُعجِب الكونت بذوق حفيدته، حيث أن لون ربطة العنق المفضلة لديه كان مشابهًا لهذا اللون الأرجواني. كان يرتديها دائمًا عندما تكون لديه أعمالٌ في العاصمة.
شعر فجأةً بغصّةٍ في حلقه رغمًا عنه.
“إيري، عندما جلبتُكِ إلى البجعة البيضاء-“
“أنا ممتنةٌ لذلك بالطبع، لكنني كنتُ أقصد أمر الدفيئة.”
“الدفيئة…؟”
بدا أن الكونت إرنست مصمّمٌ على التظاهر بعدم الفهم حتى النهاية. للمرّة الأولى، شعرت إيري أنه قريبٌ منها. كانت هذه هي المرة الأولى التي تشعر بها بذلك منذ أن سيطر عليها هوس ‘الصرامة والعدل’ الذي ذكره المحامي جونسون.
“لقد غطيتَني بمعطفكَ عندما غفوتُ في الدفيئة.”
“….”
“من فضلك لا تُعاتِب جينجر. لقد اكتشفتُ ذلك بنفسي من خلال أزرار الأكمام.”
اندهش الكونت إرنست مرّةً أخرى من ملاحظة إيري الدقيقة. ثم بدا محرجًا قليلًا، فوضع أدوات المائدة وأمسك بحافة الطاولة.
“لديكِ مهارات ملاحظةٍ دقيقةٌ حقًا.”
“نعم، هذا صحيح.”
لم تنكر إيري ذلك بتواضعٍ زائف.
“أعتذر لدخولي الدفيئة دون إذن. لكن الكونت … لم يعاقبني. بل اعتنيتَ بي بدقة.”
أخذت نفسًا عميقًا وراقبت تعابير وجه الكونت وردّ فعله. لم يبدُ منزعجًا على الإطلاق. بل كان ينتظر كلماتها التالية بعينين دافئتين ورطبتين.
“أودّ إعادة تهيئة الدفيئة.”
“حسنًا.”
“بما أنها من ممتلكات الكونتيسة…”
أشار الكونت بيده، فاقترب جريت منه. كان يُحضِر ورقةً وقلمًا ليُدوّن ما سيقوله إيري.
“قولي ما تحتاجينه.”
“هـ هل أنتَ توافق بهذه البساطة؟”
على الرغم من أنها كانت تتوقع ذلك منذ أن لم يوبّخها الكونت، إلّا أن إيري كانت مندهشةً من كيفية سير الأمور بسهولة.
لم تكن تعلم أن الكونت أيضًا كان قد وضع خطّة، كما فعلت هي في الليلة السابقة. أي أنه لم يوافق ‘ببساطة’.
بدلاً من الإجابة، سألها الكونت.
“أين وجدتِ المفتاح؟”
“في صندوق البريد في الملحق.”
“هل خطر ببالكِ فجأةً أن تفتحي صندوق البريد؟”
“حسنًا، إنه بسبب القطة …”
التقط الكونت كلامها كما لو كان ينتظر ذلك.
“إنها تشبه روزي إلى حدٍّ كبير.”
اكتشفت ذلك أيضًا. شعرت إيري بالحرج وخفضت رأسها. نظرًا لرغبة الكونت في ترك كلّ ما يتعلق بالكونتيسة كما هو، لم تخبره بقصة روزي الثالثة.
في النهاية، كشفت إيري أن القطة كانت روزي الثالثة التي تبنّتها من السيدة بونز. لم يبدُ الكونت مندهشًا عند ذكر اسم السيدة بونز، وكأنه توقّع ذلك إلى حدٍّ ما.
“إيري.”
قال الكونت بصوتٍ خافت.
“هل يمكنكِ القدوم وربط ربطة العنق هذه لي؟”
نهضت إيري وعبرت الطاولة الطويلة. نشرت ربطة العنق الجديدة ولفّتها حول عنق الكونت، ثم بدأت تربط العقدة بحذر.
“….”
كان ربط ربطة عنق الأب من واجبات الأم. عندها كان الأب يقول ‘عزيزتي’ ويقبّل جبهتها.
«سأعود.»
كم بدا ذلك جميلًا! عندما كانت طفلة، أصرّت إيري عدّة مرّاتٍ على ربط ربطة عنق أبيها. بعد عدّة محاولاتٍ فاشلة، أصبحت تجيد ربط العقدة تمامًا.
في ذلك الوقت، أدركت أن ‘ربط ربطة العنق’ كان نوعًا من الطقوس. وقتًا يعلن فيه الزوجان عن ثقتهما وحبّهما لبعضهما البعض، ويؤكّدان أن جسديهما وأرواحهما ما زالتا مقيّدتين ببعضهما البعض.
منذ ذلك الحين، توقّفت إيري عن الإصرار على ربط ربطة عنق أبيها.
“انتهيت.”
قالت إيري وعيناها محمرتان قليلًا.
“إنها تناسبكَ جيدًا، كونت. لطالما ظننتُ أن اللون الأرجواني يناسبكَ حقًا. لكن يبدو أن لديكَ ربطة عنقٍ واحدةٍ فقط بهذا اللون.”
“إيري.”
غطّت يد الكونت يد إيري. على الرغم من أن الأوردة الزرقاء البارزة واليد المتجعّدة أظهرا تقدّم العمر، إلّا أنها بدت طبيعيةً وصحيّةً للغاية.
“لقد مرّت ثلاثون عامًا منذ أن دخلتُ تلك الدفيئة.”
“….”
“بعد ما حدث لشاشا، ابتعدتُ عن كلّ ما يتعلّق بها. لم أستطع تحمّل فكرة أنها لم تعد بجانبي.”
أثار اعتراف الكونت إرنست تعاطفًا عميقًا. لأن والدة إيري أيضًا، بعد وفاة والدها، وضعت كلّ متعلّقاته في صندوقٍ كبيرٍ وخبّأته في عمق الخزانة.
كانت إيري تفتح إيري الصندوق سرًا. أمسكت بالنرد الخشبي الذي كان يدحرجه والدها في يده وبكت.
“لكن تلك الدفيئة … كيف لي أن أصف ذلك …. كانت نوعًا من المواساة … ما زال يؤلمني أنها ليست في المكان الذي يجب أن تكون فيه. لكنها كانت مثل حلمٍ جميل. كان حلمًا حيًّا. الأوقات التي قضيتُها معها. وتلك الوردة الوردية.”
انزلقت يد الكونت ببطء. لم يذرف دموعًا، لكنه بدا كما لو كان يبكي.
“عندما رأيتُ الوردة التي زرعتيها، قررتُ أن أتوقّف عن تجنّب الأمر.”
“….”
“شكرًا لكِ، إيري. شكرًا لكِ.”
في هذه اللحظة، بدا الكونت إرنست في عيني إيري مجرّد شخصٍ فقد مَن يحب ويتخبط في حزن خسارته. على الرغم من أن ضباب الحزن الذي لن يتبدّد أبدًا قد غمر حياته، إلّا أنه كان يتقدّم مترنّحًا إلى الأمام.
مثل إيري تمامًا.
كانت مثل قاربٍ صغيرٍ يعبر ضبابًا كثيفًا مستندًا على شعاعٍ خافتٍ من منارة.
قرأت إيري الوحدة القاسية، والألم، والخطر في عيني الكونت إرنست. العينان الذكيتان التي تشبهان والدها تمامًا، وبالتالي تشبهانها هي حتمًا.
بعد ذلك الصدى العاطفي القوي، ساد جوٌّ من الإحراج بعض الشيء. جلى الكونت حلقه وقال.
“يمكنكِ ترتيب الدفيئة كما يحلو لكِ. سأدعمكِ بكلّ ما تحتاجينه.”
“سأعدّ قائمةً بكلّ ما أحتاجه وأسلّمها للسيد جريت غدًا.”
“إذا كان ذلك أسهل لكِ، فليكن.”
“نعم. وأيضًا… لديّ طلبٌ آخر.”
أومأ الكونت إرنست كأنه يقول لها أن تتحدّث. أخذت إيري نفسًا عميقًا وقالت.
“هل يمكنني مناداتكَ … بجدّي.؟”
“!”
“أ- أعني، ليس دائمًا، لكن من حينٍ لآخر-“
“حفيدتي الحبيبة.”
نبس الكونت إرنست. كان صوته يرتجف بشدّة.
“حفيدتي الوحيدة…”
“جدّي!”
عانقت إيري الكونت بحرارة. بدا الجد الذي كان دائمًا مخيفًا وكبيرًا في عينيها، الآن صغيرًا عندما احت
ضنته.
“جدّي…”
انفجرت في البكاء أخيرًا تحت لمسات يده اللطيفة على ظهرها. غمرتها عاطفةٌ هائلةٌ لا يمكن قياس عمقها.
وأدركت أيضًا أنها حقًا تحبّ جدها.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 31"