“لا أريد.”
بعد أن غادر المحامي جونسون، ظلّت إيري تكرّر نفس الكلمات.
“لا أريد ذلك إطلاقًا.”
كانت السيدة آبيل تتوقّع تمامًا ردّ فعل إيري هذا. كانت تعلم مدى عناد ابنتها، لكنها قرّرت أنها ستقنعها مهما كلف الأمر. لقد حسمت أمرها بالفعل، بل وأكملت نقاشاتها مع جونسون.
كانت إيري مُستلقيةً على سريرها الصغير. لو كانت أكثر اضطرابًا في نومها، لسقطت على الأرض كلّ ليلة.
جلست السيدة آبيل بجانب السرير، تُداعب ظهر إيري وهي تبكي. لكن عينيها تجوّلتا بين رموز فقرهما المختلفة؛ هيكل السرير المُصدَّع، والغرفة القاحلة الخالية من خزانة ملابس أو مكتبٍ مناسب، والأهم من ذلك كلّه، فستان إيري البالي الذي رُقِّع مرّاتٍ لا تُحصَى.
لاحظت السيدة آبيل أن درزات فستان إيري الأزرق الداكن المفضّل قد تمزّقت مرّةً أخرى، فشعرت بضيقٍ لا يُطاق في صدرها.
كل والدٍ يريد أن يُعطِي طفله الأفضل. ولم تكن السيدة آبيل استثناءً.
مرّرت يدها بلطفٍ على رأس إيري الصغير وتحدّثت بنبرةٍ مُلحّة.
“فكّري في الأمر جيدًا. سيعطونكِ أسبوعًا لاتّخاذ القرار.”
“لا أريد ذلك.”
“لطالما اعتقدتُ أن ابنتي أذكى من أيّ شخصٍ آخر. لذا لا تدعي عواطفكِ تسيطر عليكِ، حاولي التفكير بعقلانية-“
في تلك اللحظة، رفعت إيري رأسها فجأة. لمعت عيناها الزرقاوتان الجميلتان بالدموع، وعقدت حاجبيها الرفيعين بتحدٍّ.
“كيف تطلبين مني أن أترككِ؟ كيف لي أن أفعل ذلك؟ هذا قاسٍ. هذا فقط … قاسٍ …”
“لفترةٍ قصيرةٍ فقط.”
“كيف لكِ أن تعلمي أنها لن تدوم لوقتٍ طويل؟ بالإضافة إلى ذلك …”
شهقت إيري وفركت عينيها بظهر يدها.
“لا أريد أن أعيش في رفاهيةٍ وحدي في منزل لا يقبلكِ.”
“ستتمكّنين من مواصلة دراستكِ.”
“أنا أدرس بالفعل.”
“أعلم أنكِ تركتِ المدرسة المسائية.”
“كيف …؟”
كانت السيدة آبيل تعلم ذلك منذ البداية. كانت ترى إيري تغادر المنزل كلّ مساء، متظاهرةً بأن شيئًا لم يتغيّر، وكان يُحزِنها أنها لا تستطيع قول أيّ شيءٍ عن ذلك.
“هذه فرصة، إيري.”
كان كونت إرنست قد وعد بتوفير أفضل المعلمين إذا رغبت إيري في مواصلة تعليمها. رأت السيدة آبيل كيف عضّت ابنتها على شفتيها عندما سمعت ذلك.
“قد تكون فرصةً لن تتكرّر …”
أصبح صوتها أجشًا.
لم تكن الحياة شيئًا يُستدام بقوّة الإرادة أو الحبّ وحدهما.
حتى عندما كان زوجها على قيد الحياة، لم تكن الأمور سهلةً أبدًا. كانت يتيمة، ولم يتلقَّ زوجها أيّ دعمٍ من عائلته. بدأوا حياتهم بالكاد. لم تكن الحياة رغيدةً لهم قط.
“آه، إيري.”
ثم، في يومٍ من الأيام، تلقّوا أعظم هِبَةٍ على الإطلاق؛ إيري. جلبت لهم فرحًا وسعادةً لا حدود لهما. أصبحت الحياة بدونها الآن لا تُطاق. لكن مع هذا الفرح جاء عبءٌ لا يُحتَمل أيضًا.
كان هذا العبء جيدًا لها. لم تندم السيدة آبيل أبدًا. ولكن منذ أن حلّ شبح المشقّة على إيري أيضًا، لم تنعم بنومٍ هانئ.
“أنا آسفةٌ لعجزي.”
بصوتٍ مُثقلٍ بالعاطفة، همست السيدة آبل.
“أخبرتُكِ ألّا تقولي ذلك.”
“أريد فقط أن تكون ابنتي سعيدة.”
“ماذا عن سعادتكِ إذن؟”
“إذا كنتِ سعيدة، فأنا سعيدة.”
“أنا … لا أستطيع أن أكون سعيدةً إلّا إذا كنتِ سعيدةً أيضًا.”
ضمّت السيدة آبيل وجه إيري الرقيق بكلتا يديها. تبادلتا نفس العيون اللطيفة والذكية.
“حياتيْنا منفصلتان يا إيري. كوني أنجبتُكِ وربّيتُكِ لا يعني أنكِ مسؤولةٌ عن حياتي.”
“….”
أدركت السيدة آبيل أن إيري كانت متردّدة. لم تكن هذه المدينة موطنها ومأواها. كانت متعطّشةً للمعرفة. كانت بحاجةٍ لرؤية المزيد، وتجربة المزيد، وتوسيع عالمها، حينها فقط ستشعر بالرضا الحقيقي.
“لا يوجد شيءٌ هنا يناسبكِ.”
قبّلت السيدة آبيل جبين إيري، وأعادت شعرها المنسدل خلف أذنها وهمست.
“اذهبي إلى بريتيا أولًا. افعلي ما يحلو لكِ.”
“أمي …”
“سأتبعُكِ إلى هناك.”
“حقًا؟ حقًا؟”
ابتسمت السيدة آبيل أبيل، وظهرت غمازاتيها العميقتين على وجنتيها.
“بالتأكيد. حالما أكون مستعدة، سآتي إلى بريتيا. سنعيش هناك معًا بسعادة.”
لم يكن أمام إيري خيارٌ سوى تصديق هذه الكلمات. أرادت تصديقها أكثر من أيّ شيءٍ آخر.
***
كان هناك وقتٌ وَثِق فيه لورانز بوالديه.
قبل حوالي عشرين عامًا.
توفّيت والدته بسبب المرض عندما كان في الخامسة من عمره. حدث ذلك بعد شهرٍ واحدٍ فقط من انهيار مصنع المنسوجات الخاص بعائلتها بسبب استثمارٍ سيئ، مما تركهم بلا مأوى.
لم يُبدِ السيد برينغر، الذي تزوّجها فقط من أجل المال، أيّ مشاعر حتى عند ترتيب جنازتها. عندما طلب منه متعهّد دفن الموتى اختيار نعش، قال ببساطة.
“الأساسيات فقط. اختر الأرخص”.
كان باردًا تمامًا تجاه ابنه الوحيد. بالنسبة له، لم يكن طفلٌ عاجزٌ في الخامسة من عمره سوى فمٍ آخر يُطعمه.
ومع ذلك، وبعد ستة أشهرٍ فقط، ادّعى فجأةً أنه وجد ‘الحب الحقيقي’ وتزوّج نادلة. حتى في صغره وهو لا يفقه شيئًا، وجد لورانز الأمر مضحكًا.
التقى الاثنان على طاولة قمار. ربح السيد برينغر مبلغًا ضخمًا بأعجوبة، وفي هذه العملية، حَمِلت منه نادلةٌ تعمل هناك كتاجرة. كان مفتونًا بها لدرجة أنه تقدّم لخطبتها، متعهّدًا بـ ‘تحمّل المسؤولية’.
بينما كانا يتقلّبان في فراشهما في الطابق العلوي، كان لورانز، البالغ من العمر ستّ سنوات، يعدّ المال الذي توسّل لأجله في الشوارع.
ولسخرية القدر، الآن، أصبح لورانز هو مَن يُدخِل المال في قبّعات متسوّلي الشوارع المقلوبة.
“شكراً لكَ، سيدي! شكراً جزيلاً لك! ليبارك الإله فيك!
ابتسم الصبي، وأشرق وجهه لرؤية الأوراق النقدية الحقيقية بدلاً من العملات المعدنية.
“ما الذي أصابك؟ منذ متى وأنتَ تُعطي الصدقات؟”
نظر إليه واينز، أحد أصدقاء الطفولة القلائل الذين تركهم لورانز، بدهشة. كان لورانز معروفاً ببخله.
تفحّص لورانز أوراق اللعب بتكاسل، ثم تخلّص من ورقتين.
“فكّرتُ أن أقدّم بعض الخير الآن.”
“ياللعجب … لقد أطلقوا النار على رأسكَ حقاً خلال الحرب، هاه؟”
“لماذا يبدو الجميع متلهّفين لإطلاق رصاصةٍ في جمجمتي؟”
“بالمناسبة، معاش الحرب … هل كان 50 ألف دورين؟ هل تبرّعت به كلّه حقاً للمدرسة ودار الأيتام؟”
“كان 100 ألف.”
صحّحه لورانز ببرود.
“لقد تبرّعتُ لملاجئ الإغاثة أيضًا.”
“يا لكَ من وغدٍ مجنون …”
كشف واينز عن أوراقه. تأوّه الآخرون على طاولة القمار، وانتهت الجولة.
لكن واينز لم يكن مهتمًّا بالفوز بقدر ما كان مهتمًّا بشيء آخر. وضع ذراعه حول كتفي لورانز وضحك ضحكةً مكتومة.
“لا بد أن النظر إلى وجوه آل برينغر كانت لا تُقدَّر بثمن! ها! أراهن أن ذلك الوغد جوفان كاد أن يركع ويتوسّل. كان عليكَ أن تجعله يلعق حذائك!”
“لو لعق جوفان حذائي الجميل، ألن يكون هو المستفيد، لا أنا؟”
على الرغم من نبرته غير المبالية، كان لورانز سعيدًا تمامًا مثل واينز.
الحقيقة هي أنه لا يزال لديه 100,000 دورين متبقّية.
على عكس ما اعتقده الجمهور، كان معاش الحرب في الواقع 200,000 دورين. لقد وضع الملك ثمنًا باهظًا على حياته. كان الأمر مُربِحًا للجميع؛ شعر الملك بالنُّبل، وحصل لورانز على ما أراد.
كانت التبرّعات حقيقية، لكن النصف الآخر من الأموال حُوِّلت إلى حسابٍ وهميٍّ ووُضِعت في أحد البنوك. ستكون أساسًا لخراب عائلة برينغر النهائي.
“بالمناسبة، ماذا عن الليدي بوي؟”
انتقلوا إلى حانةٍ بعد ذلك، وهما يقرعان أكوابهما.
“الأمير دبّر الأمر بنفسه، أليس كذلك؟ يا إلهي، مَن غيرك قد يُجبِر أميرًا على لعب دور الخاطبة؟”
“لو سارت الأمور على ما يرام، هل كنتُ سأجلس هنا معكَ الآن؟ وتوقّف عن التدخّل في حياتي العاطفية.”
“بحقّك، ألسنا أصدقاء؟”
“كفى هراءً.”
لكن واينز كان فضوليًّا كالأمير تمامًا.
ثم قال شيئًا لفت انتباه لورانز.
“عائلة إرنست ستكون خيارًا رائعًا.”
مرّةً أخرى مع عائلة إرنست.
“لا توجد فتاةٌ في تلك العائلة.”
“لا توجد. لكن قد توجد قريبًا.”
“ما هذا الهراء؟”
“وجدوا حفيدةً مفقودةً في بلدٍ آخر. لقد أرسلوا محاميًا ليُحضِرها.”
“أيّ بلد؟”
“غينيس.”
عقد لورانز حاجبيه.
ابتسم
واينز.
“إذا كانت حفيدتهم، فربما تكون في مثل سنّنا. ألن تكون مثاليّةً لك؟”
زفر لورانز دخانًا وسأل، غير متأثّرٍ تمامًا،
“تلك المرأة. هل هي جميلة؟”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "3"