كانت ركبتا لورانز برينغر تستحقان ثمن جثوهما.
غفرت إيري كلماته غير اللائقة وسمحت له بمرافقتها.
بما أنهما تناولا القهوة بالفعل، قرّرا المشي قليلاً، مستمتعين بأشعة الشمس النابضة بالحياة والجميلة التي بدت وكأنها تُغذّي كلّ شيء.
ولكن دون تحديد وِجهة، تهاوت خطواتهما بلا هدف. ثم سأل لورانز أخيرًا.
“هل زرتِ جامعة بولن من قبل؟”
هزّت إيري رأسها بإيجاز، محاولةً تذّكر ما إذا كانت قد ذكرت له من قبل أن ذلك كان هدفها الأكاديمي الأسمى.
“إذا كنتِ ترغبين في جولة، أعتقد أنني أستطيع ترتيب واحدة.”
“لا بد أن أحد معارفكَ قد ذهب إلى هناك؟”
كانت تعلم أن لورانز قد تخرّج من الأكاديمية العسكرية في العاصمة. ولكي يُقدِّم جولةً في جامعة بولن، لا بدّ أنه زارها كثيرًا ليرى أحدهم.
“صحيح. أحد أصدقائي خرّيجها.”
” آه، هل لي أن أسألك عمّا درس؟”
“الأدب.”
“الأدب … رائع.”
كانت إيري جادّةً في كلامها. أكثر ما أدهشها هو أن لورانز كان لديه صديقٌ يدرس الأدب، كان الأمر مُفاجِئًا وممتعًا.
ضحك لورانز وقادها إلى طريقٍ رئيسي. في تلك اللحظة، مرّت عربةٌ ذات عجلتين وسقفٍ صغير. رفع يده، كبيرةٌ كورقة جميز، ليحيّيها.
“هذا الرجل مجرّد أحمقٍ متبجّح. يحفظ جميع سونيتات هنري ميلتون فقط ليُبهِر النساء.”
كان هناك 108 سونيتات لهنري ميلتون.
(السونيت: قصيدة ذات بيت شعري ثابت، من أربعة عشر سطرًا، تتبع عادةً نظام قافية ووزنًا شعريًا محددين. تطرح السونيتات مشكلةً في بدايتها، ثم تحلّها لاحقًا.)
“هذا تفانٍ مُبهر. أتخيل أنه متزوّجٌ الآن.”
مازحت إيري بخفّة. ردّ لورانز بالمثل، وإن كان بنبرةٍ جامدة.
“ما زال أعزبًا. مثالٌ ساطعٌ على ما لا ينبغي فعله.”
“هل أصفّق له؟”
“إذا التقيتِ به يومًا، فأرجوكِ افعلي. سيسعده ذلك.”
توقّفت العربة أمامهم. مدّ لورانز يده إلى إيري بابتسامةٍ ماكرة.
“لأنه أحمق.”
شعرت إيري وكأنها تحلم، تُجري محادثةً عابرةً مع لورانز برينغر هكذا.
بدا سوء الفهم، والصراعات، وسوء التقدير الذي خيّم على ماضيهما وكأنه بقايا من حياةٍ أخرى.
كان من الصعب تصديق أن موسمًا واحدًا فقط قد مرّ منذ انتقالها من مورنينغ غلوري في غينيس إلى البجعة البيضاء في بريتيا، وفي تلك الفترة القصيرة، التقت بهذا الرجل مرارًا وتكرارًا.
نظرت إلى لورانز وهو يُعرِّفها بثقةٍ على الحرم الجامعي، كما لو كانت جامعته الأم. لفتتد انتباهها الميدالية القديمة على كتفه، لا بد أنها مُنِحت له أصلًا لخدمته في معركة ميسيسيني.
انضمّ إلى الجيش فور ترقيته إلى رتبة ضابط …
وبحساب ذلك، يعني أن لورانز قد تقدّم إلى الأكاديمية العسكرية في الوقت الذي بدأت فيه الحرب تُلقِي بظلالها على بريتيا.
فجأة، انتاب إيري الفضول.
“هل أردتَ أن تكون جنديًّا في صغرك؟”
يُقدِّس العديد من الأولاد الجنود، لكن معظمهم يُصاب بخيبة أملٍ عندما يُدركون ما يُكلِّفه الشرف في كثيرٍ من الأحيان.
توقّف لورانز، الذي كان يصف قاعة محاضراتٍ مُغطّاةٍ باللبلاب، للحظة.
جاء سؤالها من العدم، من الواضح أنها لم تسمع كلمةً واحدةً ممّا قاله للتوّ. لكنه حافظ على ابتسامته وهو يُجيب.
“لا على الإطلاق.”
بذكائه كعادته، فهم ما كانت تسأله حقًا، وأضاف.
“الأكاديمية لديها أفضل مساكن للطلبة.”
“هل تعني كلمة ‘أفضل’ وجود خياراتٍ أخرى؟”
“أجل. كنتُ متلهّفًا للانتقال. بحثتُ في بعض الأماكن، وخضتُ امتحان القبول على عجل، ونجحتُ.”
كانت نبرته مُتباهيةً بعض الشيء، لكن دخول أكاديميةٍ عسكريةٍ دون تحضيرٍ شاملٍ كان لا يزال مُثيرًا للإعجاب.
“حتى لو نجحتَ، لم تكن مضطرًّا للذهاب.”
“لحسن الحظ، حصلتُ على المركز الثاني وحصلتُ على منحةٍ دراسيةٍ كاملة.”
“آه …”
“وكما قلتُ، كانت غرف السكن الجامعي فسيحةً ونظيفة.”
بدا لورانز مُصممًا على ترك الأمر عند هذا الحد. أما سؤال إيري الأكثر جوهرية، لماذا كان متلهّفًا جدًا لمغادرة المنزل، فقد ظلّ دون إجابة.
لكن العائلة مسألةٌ شخصيةٌ للغاية. لم يصلوا إلى هذا المستوى من الأُلفة بعد، لذلك لم تُلِحّ إيري أكثر من ذلك.
بعد نزهةٍ هادئةٍ حول الحرم الجامعي، عادوا إلى البوابة الأمامية. كانت شجيرات الورد بجانب البوّابات الحديدية السوداء في أوج ازدهارها، تملأ الهواء برائحةٍ زكية.
كان الوقت مبكّرًا بعض الشيء، لكن ربما حان وقت تناول وجبة. فتحت إيري فمها لتسأل.
“معذرةً …”
لكن امرأةً أخرى نادت لورانز. كانت تحمل كتابًا دراسيًا سميكًا، وبدت كطالبةٍ جامعية.
“هل أنت … السير لورانز؟”
أومأ لورانز بهدوء، من الواضح أنه معتادٌ على هذا النوع من اللقاءات.
“يا إلهي، كنتُ أعرف ذلك! أنا معجبةٌ بكَ حقًا!”
“شكرًا لكِ.”
“هل تمانع … في إعطائي توقيعك؟”
بدا لورانز وكأنه على وشك الرفض، فقد كانت يده المرفوعة وتعابير وجهه الجامدة توحي بذلك.
لكن إيري كانت تعلم أكثر من ذلك. الرجل الذي ساعد لتوّه جنديًا مخضرمًا لن يكون بهذا البرود تجاه معجبة. كان متردّدًا فقط مراعاةً لإيري.
فألقت عليه نظرةً سخيّةً مُشجعةً.
أنا بخير. تفضّل ووقّع!
لحسن الحظ، بدا أن لورانز قد فهم الرسالة.
“بالتأكيد.”
“رائع! لحظة، ورقة وقلم …”
بينما كانت الطالبة تُفتِّش في حقيبتها، اقترب أخيرًا آخرون كانوا يُراقبون بتوتّرٍ من بعيد.
“سير لورانز، هل يُمكنني أيضًا الحصول على توقيعك …؟”
“لقد قصّصتُ كلّ مقالٍ عنك. هل يُمكنني مُصافحتُك؟”
“أنتَ وسيمٌ جدًا. إذا لم يكن لديكَ مشكلة، فهل يُمكنني …”
أصبحت واحدةً أو اثنتان اثنتي عشرة في ثوانٍ.
“أوه.”
انجرفت إيري من وسط الحشد ووجدت نفسها واقفةً بشكلٍ مُحرِجٍ قرب البوّابة الحديدية. في الطبقة الراقية، من الطبيعي أن يكون رجلٌ مثل لورانز موضوعًا للثرثرة، لكن هنا، شعرت حقًا بشعبيته الوطنية.
كان الناس من جميع الأعمار والأجناس يُعجَبون به. أشرقت وجوههم فرحًا بلقاء بطلٍ بالصدفة.
‘ربما عليّ أن أطلب توقيعًا أيضًا. ستحبّ جينجر ذلك…’
بدأت إيري تفكّر بهدوءٍ في كيفية استعارة بعض الورق والقلم.
“تسك. يا له من مُتباهٍ.”
ثمّ، نطق رجلٌ يمرّ من أمام البوابة بهذه الكلمات. كانت ابتسامته الساخرة مليئةً بالازدراء، وكانت وجنتاه وأنفه مُحمرَّين.
من الواضح أنه ثمل.
“إلى ماذا تنظرين؟ لا أستطيع التحدّث عن أخي؟”
التفت إلى إيري. كانت تعلم أنه من الأفضل تجاهله، لكنها لم تستطع التظاهر بأنها لم تسمع ‘أخي’.
نظرت إلى لورانز، الذي لا يزال مُحاطًا بالمعجبين، وسألته بحذر.
“هل أنت … قريبٌ للسير لورانز؟”
“أجل. أنا جوفان برينغر.”
لكن هذا قد يكون مجرّد هذيانات ثَمِل. مع ذلك، ازداد فضول إيري، وشعرت ببعض الملل من انتظار لورانز، فخاطبته.
“مرحباً سيد جوفان. أنا إيري إرنست. كنتُ أرافق السير لورانز.”
“إيري … إيري …”
أخيراً نظر جوفان في عينيها. ازداد وجهه المحمرّ احمراراً. كانت المرأة التي أمامه فاتنة.
اختبرت إيري الأمر.
“أفترض أنكَ خطّطتَ لتناول العشاء مع أخيك؟”
“أنا؟ مع ذلك الوغد؟”
سخر جوفان وهزّ ربطة عنقه المائلة.
“لقد تخلّى عن عائلته في اللحظة التي حقّق فيها نجاحاً باهراً.”
“آه …”
أدركت إيري أنها قد عثرت على سرٍّ ما كان ينبغي أن تسمعه. تمنّت أن يكون هذا الثمل يكذب.
أخطأ جوفان في تفسير ابتسامتها المضطربة على أنها اهتمام. كانت تفوح منه رائحة الكحول وهو ينحني.
“هل تريدين أن أخبركِ بما فعله بنا ذلك الوغد؟”
“لا، شكرًا.”
“هيّا~ تبدين فضولية. قلتِ إيري، صحيح؟ هل أنتِ على موعدٍ معه اليوم؟”
“حسنًا-“
ثم في لحظة، انتُزِع جوفان فجأةً للخلف.
“ابتعد عنها.”
عاد لورانز، وأمسك بأخيه من ياقته، وطرحه أرضًا. أطلق جوفان أنينًا.
“كيف تجرؤ؟”
بدا لورانز قاتلًا، والازدراء في عينيه، مستعدًّا لضرب الرجل الذي سقط عند قدميه. أصاب إيري الخوف من هذا المنظر.
“لنذهب.”
شدّت على كمّه. لكن لورانز لم يتزحزح.
في تلك اللحظة، شعرت إيري بمدى ضخامة فارق القوّة بينهما.
لقد نجا لورانز من ساحات معارك لا تُحصى. لو أراد استخدام القوّة، لما كان هناك ما يمنعه.
“ماذا قال لكِ؟”
أدركت إيري حينها شيئًا آخر.
كان هذا الثمل شقيق لورانز، جوفان برينغر.
ولم يكن لورانز غاضبًا من جوفان فحسب … بل كان غاضبًا منها أيضًا.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 25"