كان شارع دولبيش نابضًا بالحياة كعادته. رفرفت الأعلام البيضاء والزرقاء في النسيم، وارتسمت على وجوه العشّاق الذين التقوا حماسةٌ وبهجة.
جلست إيري في ذلك الجزء من الشارع الذي تصطفّ على جانبيه المطاعم الراقية. كانت تستمتع بفنجان قهوةٍ في فناء المكان الذي تناولت فيه غداءها، تراقب المارّة.
في حوض الزهور في الفناء، ازدهرت الورود كوجهها، مبالغٌ فيها قليلاً. انفرجت البتلات تحت أشعة الشمس، وبدت السُّداة الصفراء الزاهية فاتنة.
أخرجت رسالةً من معطفها. كانت رسالةً أرسلتها لها والدتها منذ مدّة. كانت زواياها مهترئةً من كثرة قراءتها، وقد حفظت عدّة سطورٍ في ذاكرتها عن ظهر قلب.
اجتهدي في الدراسة، تناولي طعامًا صحيًّا، كوّني صداقات…
كان الصيف على الأبواب. لديها خطاب توصية، ولكن للالتحاق بالمدرسة الثانوية، لا يزال عليها اجتياز امتحان القبول بدرجاتٍ دُنيا.
لقد اعتادت قليلاً على الحياة في البجعة البيضاء، وظهرت لأوّل مرّةٍ في المجتمع، وحان وقت الدراسة. لم يفت الأوان، لكن أيّ تأخيرٍ آخر سيكون مقلقاً.
وهكذا، طُبِعت نصيحة والدتها تقريباً بالكامل.
على عكس الكونت إرنست، استجاب كبير طهاة البجعة البيضاء بسخاءٍ للمديح، وبفضل إطراءات إيري الحارّة، أصبح مؤخّراً مهووساً بالأطباق التجريبية. ونتيجةً لذلك، أصبحت إيري تتناول طعاماً صحيّاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
كما كوّنت صداقاتٍ خلال وليمة النصر وتجربتها المتواضعة كفتاة ظهرت لأوّل مرّة.
وبحجّة استعراض حدائقهن، أصبحت سيدات بولن الآن يُقِمن حفلات شايٍ شبه يومية. وكانت إيري تكتب الردود بعناية، وتقبل الدعوات.
والآن لم يبقَ سوى السطر الأخير من رسالة والدتها.
ادرسي بجد، وتناولي الطعام جيداً، وكوّني صداقات، وقَعِي في الحب.
لم تُبدِ والدتها اهتماماً كبيراً بحياة إيري العاطفية في حياتها.
هذا لا يعني أنها لم تكن فضولية، فأيّ والدٍ لا يفعل ذلك؟ لكن السيدة آبيل أرادت أن تُربّي إيري لتكون مستقلّة، وربما ظنّت أن طلبها المباشر قد يُشعِر ابنتها بالضغط.
بعد وفاة والدها، انشغلت الأم وابنتها بالبقاء لدرجة أنهما لم تُفكّرا حتى في مثل هذه الأمور.
ومع ذلك، كتبت والدتها ذلك. تُوصِيها بالوقوع في الحب.
مرّرت إيري إبهامها ببطءٍ على ذلك السطر، كما لو أنها قد تُشعِرُها بقلب والدتها.
المشكلة أنها كانت تقترب من سنّ الزواج، وبعض صديقاتها في بولن كنّ متزوّجاتٍ بالفعل، والآن يأتي الحبّ مع أفكارٍ لا مفرّ منها عن الزواج.
هذا، بالإضافة إلى الميراث الضخم لعائلة إرنست، جعل الرومانسية والزواج يبدوان عبئًا ثقيلًا.
‘لو كنتُ أعلم أن الأمر سيصل إلى هذا الحد، لربما واعدتُ شخصًا في غينيس…’
الوقت الذي كانت تُحب فيه شخصًا ما بحريّةٍ لمجرّد أنها أُعجِبَت به، قد ولّى. لا يُمكنها العودة.
بقلبٍ حزين، طوت الرسالة وكادت أن تضعها جانبًا عندما ثارت ضجّةٌ أمام المطعم المقابل.
“قلتُ اغربوا عن وجهي! لا نخدم المتسوّلين هنا.”
طرد عاملٌ في المطعم رجلًا عجوزًا يرتدي ملابس رثّة. كان شعره ولحيته مُغطّىً بالشيب، كما لو أنه لم يقصّ شعره منذ زمن.
“لديّ مال … استبدلتُ ميداليتي في محل رهن …”
“الأمر لا يتعلّق بالمال. لا يقبل أيّ مطعمٍ في شارع دولبيش شخصًا مثلك. جرِّب الأزقة الخلفية، ستناسبك.”
شاهد بعض المارّة الشجار، لكن لم يتدخّل أحد. عبس معظمهم وابتعدوا، يتمتمون فيما بينهم.
حتى موظّفو المطعم الذي تجلس فين إيري بدوا قلقين، كما لو كانوا يخشون أن يعترض طريقهم الرجل العجوز.
وقفت إيري، ويداها مثبّتتان على الطاولة.
كرانش. أصدر الكرسيّ المعدني صوتًا عاليًا وهو يتحرّك.
“سيدي-“
ولكن قبل أن تنزل من الشرفة، اقترب رجلٌ طويل القامة من الرجل العجوز. انحنى قليلاً وتحدّث إليه.
كان لورانز برينغر.
راقبه مَن تعرّفوا عليه فورًا بعيونٍ فضولية. على الأقل، بدا أن كلّ مَن في الشرفة ينظر إليه.
تبادل لورانز بعض الكلمات اللطيفة مع الرجل، ثم قاده برفقٍ إلى شارعٍ آخر.
“هاه؟”
عادت إيري إلى جلستها، مضطربة.
جزئيًا، كانت تتوقّع شيئًا غير عادي، لأن لورانز كان استثنائيًا. وجزئيًا، شعرت بالتوتر من اصطدامها بالرّجل الذي كانت تتجنّبه.
بدأ قلبها ينبض بسرعة.
بعد حوالي ثلاثين دقيقة، عاد لورانز إلى الشارع. سحبت إيري، التي طلبت قهوةً أخرى لتمضية الوقت، قبّعتها غريزيًا وابتلعت ريقها بجفاف.
كان الرجل العجوز معه. لكن مظهره تغيّر تمامًا، أصبح يرتدي بدلةً أنيقةً ونظيفة، وشعره ولحيته مشذّبان بعناية.
عادا إلى المطعم نفسه. خرج الموظّف الذي طرد الرجل من قبل مسرعًا، يتملّقه بحفاوةٍ الآن.
“أهلًا بعودتك!”
لكن الرجل العجوز لم يتحرّك. ربّت لورانز على كتفه مطمئنًا إياه. قال الرجل شيئًا للموظف، الذي احمرّ وجهه بسرعةٍ وعاد إلى المطعم مذعورًا.
ضحك لورانز ضحكةً مكتومة.
نعم، ضحك.
ضحكةٌ عابرة، بل مازحة. حدّقت إيري في عينيه المغمضتين وكفّه المرفوعة، مستعدًا لمصافحته.
لم تعد تحتمل، فاندفعت إلى محل الرهونات المجاور للمطعم.
“انتظر، لحظة!”
عندما خرجت، كان الرجل العجوز يعانق لورانز ويستعدّ لوداعه.
التقطت إيري أنفاسها ومدّت الميدالية البالية نحو الرجل.
“هـ هذه …”
“آسفة. سمعتُ ما قلتَه سابقًا …”
اتسعت عينا لورانز. كان من الواضح أنه لم يلاحظ إيري وهي تراقب من الشرفة.
ركّزت إيري انتباهها على الرجل العجوز وتابعت.
“لقد استرجعتُها من محل الرهونات. من فضلك، أَعِدها. إنها مُهِمّة.”
“شـ شكرًا لكِ. حقًا. لكن … أنا آسف، يا آنسة.”
دفع الرجل العجوز الميدالية برفقٍ إلى يديها.
“أعتقد أن هناك شخصٌ آخر أحقُّ بها مني.”
“شخصٌ آخر …؟”
أشار إلى لورانز. أدارت إيري رأسها في حيرة، وهي لا تزال تحمل الميدالية التي تشبه الشمس. هزّ لورانز كتفيه.
ثم أعادت نظرها إلى الرجل العجوز. ضحك وأخرج ميداليةً جديدةً لامعةً من سترته.
“أعطاني هذا الشاب ميداليّته.”
“آه.”
شعرت وكأنها تتلقّى ضربةً على رأسها بمطرقة. لفّ الرجل العجوز أصابعه برفقٍ حول الميدالية.
“ليس من الأدب ردّ الهدية. وأنا أحتاج فقط إلى ميداليةٍ واحدة.”
كانت فخره، اكتسبها نظير شجاعته خلال حرب الاتّحاد قبل أربعين عامًا. لكن مشقّة الحياة دفعته إلى رهنها.
في مواجهة الجوع، لا قيمة للشرف.
“أنتَ شابٌّ طيّب. أتمنى أن تكون حياتكَ مليئةً بالبركات.”
صافح لورانز ومشى في طريق دولبيش.
“….”
“….”
الآن وقفت إيري هناك، تحمل ميداليةً بلا صاحب.
بدا لورانز وكأنه خرج لتوّه من لوحةٍ فنية. كان يرتدي زيًّا رسميًّا أبيض، ولاحظت الآن أن إحدى شارات الكتف تنقصها ميدالية.
رفعت إيري ذراعها ووضعت الميدالية في مكانها الفارغ. لكن لورانز هزّ رأسه نفيًا.
“لقد دفعتِ ثمنها. إنها ملككِ الآن، آنسة إيري.”
“أنا … سأعطيكَ إياها.”
تحدّثت بعزم، متوقّعةً رفضه تمامًا.
“حسنًا. سأقبلُها بامتنان.”
لكن لورانز وافق على الفور. فوجئت إيري، لكنها كتمت ضحكتها وثبتت الميدالية بصمتٍ على زيّه.
فرك لورانز الميدالية البالية بإبهامه. برزت بوضوحٍ بين البقية، التي كانت جميعها سليمة.
“سأعتزّ بها.”
“….”
“إنها أوّل هديّةٍ تُهدِينني إياها، آنسة إيري.”
“لم أقصدها كهديّةٍ حقًا.”
“إذن، هل رميتِ شيئًا عديم الفائدة؟”
احمرّ وجه إيري خجلًا.
“رميت؟ أنتَ لستَ سلّة مهملات!”
“سلّة مهملات.”
“….”
“هاها …”
ضحك لورانز بخفّة. ارتجف كتفاه من ضحكةٍ خفيفة. حتى أنه مسح دموعه بحركةٍ ساخرة.
“آسف. أنتِ محقّة. لستُ سلّة مهملات. مع ذلك … لقد فعلتُ بعض الأشياء كالقمامة.”
عرفت إيري أن هذه المحادثة ستُطرح في النهاية. لقد أقسمت ألّا تسامحه أبدًا. ومع ذلك … وجدت نفسها تبتسم.
“لم آتِ إلى منزلكِ لأني ظننتُ أنكِ ستكرهين الأمر أكثر. أعتقد أنكِ أحرقتِ جميع رسائلي على أيّ حال.”
“هذا -“
حاولت الرّد، لكن فجأة، جثا لورانز على ركبتيه في منتصف طريق دولبيش.
“سير لورانز!”
شهقت إيري، ثم غطّت فمها بسرعةٍ بينما التفت الجميع في الشارع للتحديق بها.
“ماذا تفعل؟!”
حتى وهي تهمس في ذعر، نظر لورانز إليها كما لو أنه لم يسمع كلمة.
“لم أقصد إهانة محاربٍ قديم.”
“….”
“لكنني سبّبتُ لكِ ألمًا لا يُمحى.”
تحدّث بوضوحٍ وهدوء، كما لو كان يتدرّب على ما سيقوله.
“كنتُ أفكّر لأيام. كيف لي أن أخفّف غضبكِ …”
“لقد-“
“لذا، جثوت. هاتان الركبتان لا تساويان شيئًا، ولكن لهذا السبب تحديدًا، لم يكن لديّ عذرٌ لعدم استخدامهما.”
في تلك اللحظة، مدّ لورانز يده وأمسك بيدها.
تفاجأت إيري، كانت يداه أبرد مما توقّعت، ورطبةً بعض الشيء، ربما بالعرق.
لقد كان متوتّرًا.
أشعرها إدراك ذلك برعشةٍ خفيفة. شدّت قبضتها على يده. ارتعشت عيناه الخضراوان العميقتان، لكن صوته ظلّ هادئًا.
ثم سأل.
“هلّا سامحتِني؟”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 24"