مرّ الوقت بثبات، دون رحمةٍ أو استثناء. لأيّام عديدة، كان الطقس متقلّبًا، كئيبًا تارّة، وصافيًا تارّةً أخرى، ولكن في يوم الحفل، تحوّلت السماء إلى زُرقةٍ زاهية، كما لو كان ذلك سحرًا.
كان من حسن حظ إيري أن عائلة إرنست خصّصت قاعة رقصٍ خاصّةً بها. فبدلًا من القلق بشأن كلّ ركنٍ من أركان القصر، كان عليها فقط التركيز على مساحة الحفل نفسها.
دخل الضيوف القاعة عبر ممرٍّ مزيّنٍ بأضواءٍ خافتةٍ ونباتاتٍ استوائية. كان معظم الحضور من نبلاء مدينة بولن. أشادوا بالحفل بكلماتٍ كريمةٍ ولطيفة.
“للشباب أذواقٌ مختلفةٌ بالتأكيد. هذا راقٍ للغاية.”
“بالفعل. إنه يتماشى مع الموضة، وليس متأخّرًا عنها إطلاقًا.”
إيري، التي كانت متوتّرةً طوال اليوم، شعرت أخيرًا بأنها مستعدّةٌ للاستمتاع بالحفل بعد سماع هذه الإطراءات.
لم تكن تحاول أن تكون رائدةً في صيحات الموضة، لكن إخبارها بأنها ليست متأخّرةً عن العصر كان مصدر ارتياح. مع أنها لم تخجل يومًا من خلفيّتها، إلّا أن لا أحد يريد أن يُوصف بالريفيّة.
ثم جاءت إيري نفسها. هنّأها الناس على ظهورها الأوّل في المجتمع، كما لو أن وليمة النصر التي سبقتها لم تُقَم.
بمساعدة السيدة بونز، تعرّفت إيري على العديد من الشخصيات الرئيسية في بولن. تنافس الشباب العزّاب على فرصة التحدّث معها، متلهّفين لاستغلال غياب لورانز.
“لن يأتي الليلة، أليس كذلك؟”
“ليس إذا لم يُحَل ‘شجار العشّاق’.”
“أوه، دعكِ من المظاهر، أتمنّى فقط أن يظهر. لم أرَ اللورد لورانز من قبل.”
“ربما سيقيم حفلته الخاصّة قريبًا. لننتظر ونرى.”
تحدّثن الفتيات، بشعرهن المزيّن بريش الطاووس، بعفويّةٍ كما لو كنّ صديقاتٍ قديمات. كلّما اقتربت إيري، كانوا يتجنّبون ذكر لورانز. كانت تقدّر اهتمامهم، لكنها لم تستطع التخلّص من شعورها بأنها تُعيق حديثهم الصادق والطبيعي.
وسط الفرح، خيّم شعورٌ خفيفٌ بالانزعاج والضغط. حتى أن إيري تعثّرت في الرقصة الأولى.
للأسف، لم تستطع حتى تذكر اسم شريكها. رقصت مرّتين أخريين مع رجالٍ مختلفين بعد ذلك. راقبت السيدة بونز حلبة الرقص بتعبيرٍ فخورٍ وراضٍ.
“أوه؟”
ثم فجأة، سادت ضجّةٌ خفيفةٌ في أحد الأركان. كانت إيري قد أنهت لتوّها رقصتها الثالثة وكانت ترتشف الماء المُثلَّج.
ظهر لورانز برينغر عند مدخل قاعة الرقص. طويل القامة ومهيب، يرتدي ملابس رجلٍ نبيلٍ مُحافِظ. لم تكن ملابسه مُبالغًا فيها، لكن بدا كما لو أن الضوء نفسه يتدفّق من مكانه.
لم تدعُ إيري لورانز.
بحثت بسرعةٍ عن السيدة بونز، التي بدت مرتبكةً بنفس القدر. كانت قد راجعت قائمة المدعوّين بنفسها.
بعد الفراق المُزعِج على ضفاف البحيرة قرب غرفة الصلاة، وحادثة وليمة النصر، أمضت إيري وقتًا في التفكير في لورانز.
منذ أن اكتشفت الدفيئة السرية، كرّست نفسها لتنظيفها وترميمها، وفكّرت فيه أكثر في أثناء ذلك.
«لا تحاولي تبرير نفسكِ لي.»
بالضبط.
لماذا حاولت تبرير نفسها لشخصٍ خاطبها بقسوة؟ لا فائدة من الظهور بمظهرٍ حسنٍ أمام رجلٍ كهذا.
صرخ عقلها أن تنساه، لكن عواطفها رفضت الاستجابة.
ظلت إيري تفكّر في لورانز، تتعامل معه من منظور انعدام الأمان المتزايد.
لذا عندما اقترب لورانز منها ومدّ يده، عرفت أنها لن تستطيع الرفض.
“هل لي بهذه الرقصة، آنسة إيري؟”
“….”
بالكاد استطاعت التنفّس. انحنى لورانز بجرأة ممثّلٍ مخضرمٍ وهمس في أذنها.
“هل ما زلتِ تكرهينني؟”
“لدأ … أنا …”
تردّدت إيري، وتجوّلت عيناها. تجمّع حولهم حشد، عيونهم تلمع فضولًا وترقّبًا.
ثم أدركت أن نظرة لورانز قد استقرّت على يدها، ممسكةً بتنّورتها بإحكام. ثم انحنت شفتيه الورديتين النضرتين في ابتسامةٍ ماكرة.
“!”
حينها فقط أدركت إيري أنها ترتدي القفّازات التي أهداها لها لورانز. كانت قفّازات والدتها قد أُصلِحت، لكنها أرادت الاحتفاظ بها. ولأن لورانز لم يكن من المفترض أن يَحضُر، فقد رأت أن الأمر لا يهم.
“أنا سعيدٌ لأنها تناسبكِ تمامًا.”
“هؤلاء، هم …”
“عذرٌ آخر؟”
“….”
“ذراعي على وشك السقوط.”
أشار بعينيه. أمسكت إيري بيده. عند هذه اللفتة الخافتة، انتشرت تنهّداتٌ عاطفيّةٌ بين الحشد. أصبح لدى بولن الآن ما يكفي من الثرثرة لأسابيع.
ارتدى لورانز بدلةً سوداء أنيقةً لامعةً كريش سنونو. كان شعره الذهبي مصفّفًا للخلف بدقّة، كاشفًا عن وجهٍ مشرقٍ ونظيف.
كانت هذه رقصته الأولى رسميًا.
في وليمة النصر، بعد أن رفضته إيري إرنست، لم يطلب من أيّ سيدةٍ أخرى الرقص معه. رغم أنه خرج في بعض المواعيد منذ ذلك الحين، إلّا أنه لم يرقص في الشارع أو في المسرح بالتأكيد.
قبل أسبوعين، أرسل له الكونت إرنست رسالةً منفصلة، بعد أن لاحظ غياب اسم لورانز عن قائمة المدعوّين. قدّم له ‘بدافع اللطف’ دعوةً إضافية.
ابتسم لورانز بسخرية. من المؤكّد أن الكونت المخضرم كان يعلم أن إيري قد استبعدته عمدًا.
كانت هذه طريقته للتدخّل، والضغط على لورانز لحلّ ‘شجار العشّاق’ مع حفيدته، سواء من خلال اعتذارٍ علنيٍّ أو محادثةٍ خاصّة.
أجاب لورانز بسعادةٍ أنه سيحضر، ويصفّي الأجواء، ويَفِي بوعده، كما يفعل الآن.
على الرغم من الإيقاع السريع، رقصت إيري برشاقة. أما لورانز، فقد كافح لمواكبة الرقص. ورغم أن وجهه لم يكن ظاهرًا، إلّا أنه كان يتصبّب عرقًا غزيرًا ويلعن نفسه لأنه دعاها للرقص. تحدث بجدية.
“لا بد أن السيدة بونز كانت مُعلِّمةً ممتازة.”
“هل هذه سخرية؟”
كان ردّ فعلها أكثر حدّةً مما توقّع. تفاجأ، فعامل الأمر باستخفاف.
“لا على الإطلاق.”
“بصراحة، رقصكَ سيءٌ للغاية.”
“أتفقُ في هذا.”
ألتفتت إيري، وتمتمت بعبوس.
“ما الذي أعطاكَ الثقة لتطلب مني الرقص؟”
أدارها لورانز بعيدًا. رفرفت تنّورتها البيضاء الدانتيل كموجةٍ هادرة. استدارت مرّةً واحدة وعادت قريبةً منه، وعطرها يلفّه.
“كيف حال روزي الثالثة؟”
“جيدة، بفضلكِ.”
“لم أفعل شيئًا.”
“كنتُ أُجامل فقط.”
“هل هذا أيضًا من آداب السلوك الاجتماعي؟”
“….”
انفصلا مجدّدًا. هذه المرّة، جذبها لورانز بقوّةٍ أكبر. استقرت يده على خصرها النحيل. وتمتمت إيري.
“لا أعرف.”
عقدت حاجبيها كما لو كانت تفكّر جديّاً في شيءٍ ما. وأمسكت بيده بقوّة.
“لقد قرّرتُ فقط أن أفعل ما أريد من الآن فصاعداً.”
“خيارٌ حكيم.”
“بفضلك.”
“عبارةٌ مهذّبةٌ أخرى؟”
مازح لورانز. لكن إيري هزّت رأسها نفيًا.
“كانت تلك العبارة صادقة.”
خفتت الموسيقى. أنهت إيري الرقصة ببراعة، مُهدئةً أنفاسها. كانت وجنتاها محمرّتين بلون الخوخ الصافي. حدّق بها لورانز مفتونًا. جفّ فمه بلا سبب.
والآن، حانت اللحظة التي سيتنحّى فيها شركاء الرقص جانباً لمحادثةٍ أكثر خصوصية. رافقها لورانز إلى الشرفة.
وقفا في صمت، يحدّقان إلى الأمام. امتدّت الغابة السوداء بهدوء. تحت ضوء النجوم الثابت، بدت إيري كلوحةٍ فنيّة. كان شعرها بلون الليل الداكن، وأنفها ورديًا نابضًا بالحياة.
فجأة، وجد لورانز الصمت يدغدغ حواسّخ بشكلٍ لا يُطاق. تشبّث بالسور. شعر صدره وكأنه يتشقّق.
“في ساحة المعركة …”
التفتت إيري نحوه بهدوء. ابتلع لورانز ريقه بصعوبة.
“هذا النوع من المتعة … كان أمرًا لا يُصدَّق.”
“….”
“تلذّذٌ خالص، حقًا.”
ابتسمت إيري ابتسامةً رقيقة.
“إذن، حتى مع هذه المهارة المريعة، استمتعتَ بالرقص؟”
“الشُكر لشريكي.”
“هل بقيتَ في الجبهة طويلًا؟”
لم يتوقّع لورانز أن تتعمّق في تاريخه الحربي. شعر بعدم الارتياح؛ لم يكن يحبّ تلك الفترة من حياته.
“نعم … حوالي ثلاث سنوات.”
“ثم …”
تقدّمت إيري.
“هل تعرف عن معركة باترويركس؟”
“باترويركس …”
بينما كان ينطق الاسم، بدت إيري يائسةً على غير العادة. أُعجِب لورانز بنظرة اليأس في عينيها الزرقاوين، فأجّل إجابته.
“لم أكن هناك، لكنني سمعتُ عنها.”
“أيّ نوعٍ من الأشياء سمعت؟”
“كانت عمليةً فاشلة. والقادة كانوا يعلمون ذلك.”
“…”
“فقط الجنود من ماتوا موتًا مأساويًا كميتة كلاب.”
“مثل … الكلاب …”
انفتح فم إيري ثم أغلقته ببطء. تصلّب لسانها. تابع لورانز، غافلاً عن الحزن الذي ارتسم على وجهها، حديثه بلا مبالاة.
“كانت القيادة السيئة مجرّد قدرٍ آخر. لقد كانوا سيئي الحظ للغاية. لا أحد ينكر أنها كانت ميتة كلب.”
ثم توقّف عن الكلام عندما لاحظها.
“آنسة إيري؟”
“….”
أحنت إيري رأسها بعمق. انحنى لورانز إلى الأمام.
“هل أنتِ مريضة؟”
“آه …”
مدّ يده ليساندها، لكنها انتفضت من لمسته.
“….”
رفعت رأسها
وهي تبكي. كانت وجنتاها أكثر احمرارًا من ذي قبل، وتجعّد الجلد المحيط بعينيها.
“لماذا …”
امتلأت نظراتها باللوم، كما لو أن لورانز نفسه هو مَن تسبّب في كارثة باترويركس.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 22"