حوّلت إيري أبيل نظرها من المحامي الذي عرّف بنفسه باسم جونسون إلى والدتها التي جلست صامتةً خلفه.
“أمي. ماذا يعني هذا؟”
“…تعالي واجلسي أولًا. سيد جونسون، وأنتَ أيضًا.”
جلس جونسون مطيعًا وسحب كرسيه أقرب إلى الطاولة. كانت هناك قبّعة فيدورا كبيرةٌ موضوعةٌ على الطاولة المصنوعة من خشب البلوط. شعرت إيري بغرابةٍ لرؤية أغراض رجلٍ في المنزل بعد كلّ هذا الوقت. كما شعرت بعِداءٍ لا يمكن تفسيره تجاه جونسون، لمجرّد أنه ليس والدها.
جلست إيري منتصبةً بجانب والدتها، متيقّظة. كان الشاي باردًا تمامًا، وإبريق الشاي فارغًا، مما يعني أنهما قد تحدّثا طويلًا.
ما إن جلست إيري، حتى كرّر جونسون كلامه بتلقائية.
“أنا جونسون، محامٍ أخدم عائلة إرنست. شركتنا تعمل لدى العائلة منذ ثلاثة أجيال. اليوم، جئتُ بأوامر الكونت لمرافقتكِ يا آنسة إيري.”
“ومَن هو كونت إرنست هذا تحديدًا، ولماذا يريد رؤيتي؟”
“يا إلهي، إذًا أنتِ لا تعرفين شيئًا.”
تنهّد جونسون تنهيدةً قصيرةً وألقى نظرة لومٍ على السيدة آبيل. خفضت بصرها كشخصٍ مذنب.
شعرت إيري بأنها ستفقد صوابها وهي ترى والدتها، الواثقة بنفسها عادةً، جالسةً هناك صامتة.
أكمل جونسون.
“كونت إرنست هو جدّكِ.”
“جـ … جدي؟”
“أجل. عائلة إرنست عائلةٌ نبيلةٌ ذات تاريخٍ عريقٍ ومتميّز. الكونت نفسه رجلٌ مميّز، ويُبجَّل كقدوةٍ بين الطبقة الأرستقراطية.”
تردّدت إيري في الرّد. لطالما أخبرها والداها أن جدّها قد توفّي. لكن إذا ضغطت على والدتها بشأن هذا الآن، فسيستمرّ جونسون في توبيخها بنفس النظرة الرافضة.
بينما كانت إيري تنظر إلى والدتها بقلق، نقر جونسون على لسانه وتابع حديثه.
“كان للكونت ثلاثة أبناء. أصغرهم هو والدكِ، يوريو إرنست. ومع ذلك، اختلف السيد الأصغر مع الكونت بسبب زواجه …”
وبينما كان يتحدّث، رمق جونسون والدتها بنظرةٍ أخرى. هذه المرّة، كانت نظراته عدائيّةً بشكلٍ واضح.
“في النهاية، قطع السيد الشاب علاقته بالكونت وانتقل إلى هنا مع السيدة آبيل.”
كان سماع تفاصيل تاريخ عائلتها من شخصٍ غريبٍ أكثر إزعاجًا ممّا توقّعته إيري. لكن الأسوأ من ذلك كان وقاحة جونسون الصارخة.
“أفهم هذا. لكن يا سيد جونسون، لماذا تنظر إلى أمي باستمرارٍ وكأنكَ تلومها على شيءٍ ما؟”
“إيري!”
رفعت السيدة آبيل، التي كانت صامتةً حتى الآن، رأسها مصدومة.
استطاعت إيري بسهولةٍ تخمين سبب تصرّف جونسون بهذه الطريقة. لو كان قد خدم عائلة إرنست لثلاثة أجيال، فمن المرجّح أنه عرف والدها منذ صغره. حتى عندما كان يناديه ‘السيد الشاب’، كان هناك لمحةٌ من المودّة في صوته.
“يبدو أنكَ تعتقد أن أمي هي سبب تخلّي عائلة أبي عنه.”
“….”
“الزواج يحدث لأن شخصان يحبّان بعضهما بعضًا. أمي لم تُقيّد والدي، وليست هي سبب نبذه. اختارها والدي، لم يختر عائلته، ولا لقبه النبيل، لأنه أحبّها.”
“… أعتذر.”
اتّسعت عينا جونسون قليلاً من الدهشة، لكنه سرعان ما هدأ وتحدّث بنبرةٍ جافّة.
“أعتذر عن وقاحتي، سيدة آبيل. وأعتذر لكِ أيضًا يا آنسة إيري.”
مع أنه غيّر عنوانه من السيدة آبيل إلى الآنسة إيري، إلّا أن إيري وجدت الأمر أكثر راحة. شعرت أخيرًا أنهما يتحدّثان على نفس الخط. خفّفت نبرتها قليلًا وهي تخاطبه.
“على أيّ حال، ما لا أفهمه هو لماذا يحاول رجلٌ لم يَحضُر جنازة والدي حتى الآن، بعد عامين، إعادتنا إلى حياته.”
كانت نبرتها لطيفة، لكن كلماتها كانت بعيدةً كلّ البعد عن ذلك.
‘أتظنّ أنه الوحيد الذي يمكنه أن يكره شخصًا ما؟ أنا أيضًا أكره جدي.’
بعد وفاة والدها في الحرب، كافحت إيري ووالدتها من أجل البقاء. لم يكن لدى إيري وقتٌ حتى للحزن، فقد أُلقيت مباشرةً في سوق العمل. انتقلت من الدراسة النهارية إلى الدراسة المسائية وبدأت العمل. كان الجانب المشرق الوحيد هو أن والدتها الموهوبة تمكّنت من كسب دخلٍ ثابتٍ من خلال العمل في الخياطة في محل خياطةٍ في المدينة.
لكن الجانب السلبي هو أنه بسبب الحرب، ارتفعت تكاليف المعيشة بشكلٍ كبير. حتى مع عملهما طوال أيام الأسبوع، بالكاد استطاعتا توفير لقمة العيش.
بدا جونسون غير مستعدٍّ لسؤال إيري الحادّ، فصفّى حلقه وارتشف شايه البارد.
“…في الواقع، توفّي الابن الأكبر للكونت مؤخّرًا.”
كانت إيري تعلم أن لوالدها شقيقين أكبر منه. كما سمعت أن الأخ الثاني كان مريضًا وتوفّي في سنٍّ صغيرة. ولكن حتى لو كان الأخ الأكبر قد رحل الآن …
“كان للكونت ثلاثة أبناء، لكنهم ماتوا جميعًا في سنٍّ مبكرةٍ جدًا. إنها حقًا مأساة.”
كان هناك حزنٌ حقيقيٌّ في عيني جونسون.
“لم يتزوّج أيٌّ من الأخويَن الأكبرين، مما يعني -“
“أنا الحفيدة الوحيدو المتبقية.”
قاطعته إيري، وأصابعها تقبض على حافّة فستانها بشدّةٍ حتى ابيضّ لونها.
***
“آه، لورانز! لورانز، أيّها الطفل العاقّ الناكر للجميل!”
تشبّثت السيدة برينغر بتنورتها بقوّةٍ حتى كادت أن تتمزّق، وهي تصرخ بأعلى صوتها. انتفخ أنفها المرفوع وهي تزفر كوحيد قرنٍ غاضب.
“كيف تفعل بنا هذا؟ بعد كلّ ما فعلتُه لتربيتك! هل لديكَ أدنى فكرةٍ عمّا مررتُ به؟”
‘لقد ربّتِيني على أمل بيع ابنكِ الوسيم مقابل ثروة، أليس كذلك؟’
فكّر لورانز في نفسه، لكنه أجاب بلا مبالاة.
“لقد ربّيتِني لأكون شخصًا طيب القلب. كنتِ تأخذينني إلى الكنيسة كلّ أسبوع، وعلّموني مساعدة المحتاجين.”
“نحن المحتاجون! نحن هُم!”
صرخت السيدة برينغر، وهي تضرب صدرها من شدّة الإحباط.
“يا إلهي، لا أستطيع العيش هكذا! سأموت بسبب هذا الشاب! يا زوجي! قُل شيئًا!”
بينما أمسكت برقبتها وتظاهرت بالانهيار، سارع السيد برينغر ليدعمها. لكنه هو الآخر كان يرتجف من الصدمة.
ومع ذلك، بصفته ربّ الأسرة، حاول الحفاظ على كرامته. بعد أن أجلس زوجته الباكية على الأريكة، صرخ على ابنهما الآخر.
“جوفان! أمّكَ على وشك الإغماء! افعل شيئًا! أحضر لها الماء!”
عبس جوفان ودنا نحو المطبخ.
في هذه الأثناء، حاول السيد برينغر أن يبدو هادئًا، والتفت إلى لورانز الذي كان يقف على العتبة.
“لكن… لا يزال بإمكاننا استعادتها، أليس كذلك؟ ليس كلّها، ولكن بعضها على الأقل؟”
‘ـها’ التي يقصدها تشير إلى الـ 100,000 دورين التي تلقّاها لورانز برينغر من الملك كمكافأة حرب؛ وهو مبلغٌ لم يكن السيد برينغر ليتمكّن من كسبه حتى في عشر سنوات.
“أمي، أبي. بالطبع …”
لكن كلمات لورانز التالية حطّمت آمالهم تمامًا.
“لن تروا عملةً واحدةً من تلك الـ 100,000 دورين. حتى أنني وقّعتُ عقدًا يضمن عدم استعادتها أبدًا.”
“آآه! لورانز برينغر! يا لكَ من فاسقٍ مجنون!”
“هدّء من روعك، يا عزيزي!”
عاد جوفان بكأس ماء، لكنه أسقطه مصدومًا. دوى صوت تحطّم الزجاج وهو يحدّق في لورانز.
“أخي! هل تلقّيتَ رصاصةً في رأسكَ في الحرب؟”
“يا لها من طريقةٍ منمّقةٍ لوصفي بالمجنون.”
“كيف تتبرّع بكلّ هذه الأموال دون حتى استشارتنا؟”
سخر لورانز، وهو ينفث دخان سيجارته.
“كانت تلك الأموال تساوي حياتي. أستطيع أن أفعل بها ما أشاء.”
“يا لكَ من وغدٍ أناني.”
فتح الباب وأغلقه خلفه. حرّك لوران
ز شعره الأشقر الأشعث، واستنشق هواء الليل المنعش.
هاا، لم يشعر بمثل هذا الشعور في حياته.
***
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "2"