مهما كان لورانز يثرثر، لم يُعِر فيليكس أيّ اهتمامٍ لهراءه وظلّ يستفزه.
“هذا أفضل من الحُب… ألا تعتقد أنها إجابةٌ عامّة؟”
“استجوابي لن يُجدي نفعًا.”
“أنا لا أستجوبُك. يبدو أنكَ تُفكّر فقط من تلقاء نفسك.”
وبالمثل، تجاهل لورانز أيّ هراءٍ يُلقيه فيليكس. لو تورّط في جدالٍ لا طائل منه وانتهى به الأمر بالكشف عن شيءٍ ما، فسيجد نفسه منهكًا أكثر بمرّتين.
أنهى سيجارته وأطفأ جمرها. نفخ فيليكس خدّيه وسَخِر.
“لقد أمسكتُ بكَ الآن.”
كان فيليكس، ملك سوء الفهم، حادًّا على غير العادة اليوم.
“تلك المرأة، أنتَ تهتمّ لأمرها، أليس كذلك؟”
توقّف لورانز. ضحك فيليكس ضحكةً مكتومةً على ظهره المتأمّل.
“لا تحاول حتى إنكار ذلك. لن تخدع عيني.”
“فكِّر كما تشاء.”
“كما لو أنكَ لا تعرف ما أفكّر فيه بالفعل.”
وضع فيليكس ذراعه حول كتف لورانز. لوى لورانز، منزعجًا، جسده لينسحب.
“أنتَ باردٌ جدًا.”
“سموّكَ متشبّثٌ جدًا.”
“أنا الأصغر، فلا مفرّ من ذلك.”
“لكن لا تزال هناك أميرةٌ أصغر منك.”
“الابن (الذكر) الأصغر.”
عندها، لم يستطع لورانز إلّا أن يسخر. كان فيليكس لا يُطاق، لكن من المستحيل أن يكرهه حقًا. كان هناك ثلاثة أصدقاء ينظر إليهم لورانز بهذه الطريقة؛ كان فيليكس الأوّل، وواينز، صديق طفولته، الثاني، والأخير ملازمه، الذي التقى به في ساحة المعركة تمامًا مثل فيليكس.
فجأة تساءل عن حال ملازمه هذه الأيام، وبفضوله العابر، شقّ طريقه ببطءٍ نحو قاعة الملائكة.
***
“أرفض.”
“…”
حتى لورانز صُدِم بهذا الرّد للحظة.
مع تحوّل الموسيقى إلى لحنٍ راقصٍ بهيج، شقّ طريقه وسط الحشد، مع أن الحشد، في الحقيقة، انفصل لأجله ليقترب من إيري مباشرةً.
استندت إيري إلى الحائط بجانب السيدة بونز، وارتسمت على وجهها تعابيرٌ أبردُ من المعتاد. كان هذا مختلفًا عن سلوكها المتذمّر المعتاد. بدت عيناها اللامعتان أقلّ زرقةً وأكثر رماديّةً عاصفة.
‘ما الذي أزعجها الآن؟’
ليس أن الأمر يهمّه. كان لديه عِدّة رقصاتٍ مُرتّبةٍ لهذه الليلة، وليس لديه وقتٌ ليُضيّعه.
لذا، طلب من إيري إرنست الرّقصة الأولى، فرُفِض رفضًا قاطعًا.
ولكن على الرغم من رفضها الصريح، ردّ لورانز بهدوءٍ لا يتزعزع.
“هل لديكِ ارتباطٌ سابق؟”
“لا، ليس لديّ ارتباط.”
“هل تشعرين بتوعّك، ربما-؟”
“أنا بخيرٍ تمامًا.”
عند هذا، بدأ صبر لورانز ينفد.
أصبحت قاعة الرقص بأكملها جمهورًا لهذا المشهد المُضحِك.
كان من بينهم فيليكس فاغرًا فاهه، والسيدة بونز، والكونت إرنست، الذي بدا على وشك الإغماء.
“إيـ إيري، عزيزتي …”
لم تعد السيدة بونز تحتمل الأمر، فسحبت شال إيري برفق. لكن إيري وقفت ثابتةً كالصخر، دون أن يرفّ لا جفن.
ثم تكلّمت أخيرًا.
“أنا فقط لا أريد الرقص معك.”
“…”
“هذا كلّ ما في الأمر.”
تردّدت أصداء الشّهَقَات في أرجاء قاعة الرّقص. بدا الأمر كما لو أن الموسيقى قد توقّفت. تفرّق الضيوف الأكثر إدراكًا بصمت، وهم يتجاذبون أطراف الحديث بصوتٍ عالٍ عن أمورٍ أخرى.
خطوةٌ حكيمة، فلم يكن من المفيد أبدًا أن تشهد إذلال شخصٍ آخر.
ومع ذلك، سواء كانت هذه المجاملة المزعومة في صالح لورانز أم مجرّد إهانةٍ لكبريائه، فهو وحده مَن يقرّر.
‘ماذا ستفعل إذًا؟’
كانت نظرة إيري شرسةً ومتحدّيةً كما لو كانت تتحدّاه ليتصرّف.
“فهمت.”
قال لورانز أخيرًا.
من أيّ زاوية، كانت ترتسم على وجهه ابتسامةٌ مثاليةٌ وساحرة. مع انحناءةٍ خفيفة، أظهر أقصى درجات المُجاملة التي يمكن أن يُظهِرها رجلٌ نبيل. انثنت شفتاه الجميلتان بنبرةٍ ناعمةٍ كالعسل.
“يجب دائمًا احترام رغبات المرأة. أتمنّى لكِ أُمسيةً رائعة. وربما، في المرّة القادمة، ستمنحينني هذا الشرف.”
عضّت إيري على اللحم الطري داخل فمها.
لأن لورانز قد استسلم بأدبٍ ودون شكوى، سرعان ما تجمّع التعاطف حوله.
وبطبيعة الحال، هذا يعني أن إيري إرنست أصبحت الشريرة.
***
“…”
داخل العربة، ساد صمتٌ مُزعِجٌ كالبالون حتى نطق الكونت إرنست أخيرًا، ففجّره.
“رجال العاصمة جميعهم سواء. حفنةٌ من المتعجرفين ذي الألسنة الحادّة.”
كانت ملاحظته غير متوقّعةٍ لدرجة أن السيدة بونز، التي كانت عابسة، رفعت بصرها بدهشة.
كان وجه الكونت هادئًا، خاليًا من القلق.
بالطبع، كان غاضبًا في البداية من سلوك حفيدته الفظيع، وحتى من السيدة بونز لتقصيرها في توجيهها كما ينبغي.
لكنه كان رجلًا يضبط أعصابه جيدًا. بدلًا من أن يثور أو يقبض على صدره في غضب، سأل إيري عن أسبابها، ثم قاد مجموعتهم بتكتّمٍ بعيدًا عن قاعة الرّقص، متعاملًا مع الموقف بكرامة.
ما إن صعد إلى العربة، حتى خَفَت غضبه تدريجيًا، عندها أدرك حقيقةً بسيطة؛ أن حفيدته ما كانت لتتصرّف بهذه الطريقة دون سبب.
هذا لا يعني أنها تصرّفت بشكلٍ صحيح. كان من الأفضل لو رفضت بلباقةٍ أكبر.
مع ذلك، قرّر الكونت عدم الخوض فيما حدث. بدلًا من ذلك، ركّز على مواساة حفيدته، التي افترض أنها لا بد أنها تعرّضت للأذى من رجلٍ متعجرفٍ ومغرور.
“الرجال من بولن، أصبحوا الآن رجالًا حقيقيين. كلّ واحدٍ منهم قنّاص، قادرٌ على ترويض خيولٍ بريّةٍ أكبر حجمًا بثلاث مرّات.”
لم تُجِب إيري. اكتفت بالتحديق من النافذة، وتعابير وجهها جامدةً من العناد.
“سأُقيم لكِ حفلًا راقصًا بمناسبة ظهوركِ الأوّل.”
عندها فقط التفتت إليه ببطء. كانت عيناها الرماديّتان داكنتين وغير واضحتين، كما لو كانتا مُلطّختين بالحُزن.
شعر الكونت بالاطمئنان، فقد اختار النهج الصحيح. في الوقت نفسه، وبّخ نفسه بشدّةٍ لفشله في فهم مشاعر حفيدته مبكّرًا.
“كان يجب أن أفعل هذا منذ البداية. أنا آسف، إيري.”
“…”
“يمكننا عقده متى شئتِ. أنتِ مَن تختارين الوقت.”
“…”
“إيري؟”
تنهّدت.
“منذ متى كان رأيي مُهمًّا؟”
“ماذا تقصدين؟”
ازدادت تعابير وجه الكونت حيرة. كسرت السيدة بونز، التي شعرت بالحيرة أيضًا، الصمت رغم إدراكها أن هذه مسألةً عائليةً خاصّة.
“إيري، عزيزتي، الكونت يُعطي الأولوية لمشاعركِ دائمًا.”
“أجل، إيري. لا شيء أهمُّ من رغباتكِ.”
“حقًا؟”
بدا وكأن نظرة إيري الثاقبة تُثير تساؤلاتهما. هل فعل ذلك حقًا؟
لأوّل مرّة، شعر الكونت بخوفٍ غريبٍ من حفيدته. كان الأمر كما لو أن فمه قد سُدّ.
شعر فجأةً بغُربة هذه الطفلة المطيعة واللطيفة، تاركةً مرارةً في قلبه.
همست إيري بمرارة.
“لم أُرِد حضور هذه الحفلة.”
وقعت كلماتها في قلبه كالخنجر. ارتعشت التجاعيد حول عينيه لا إراديًا.
“لا أُمانع الحفلات. سيكون من الأسهل تكوين صداقاتٍ في بولن، على أيّ حال.”
أضافت ذلك بإهمال، ثم خيّم الصمت عليهما مرّةً أخرى.
راقب الكونت حفيدته، التي أغمضت عينيها وكأنها تُنهِي الحديث.
كانت تشبه يوريو كثيرًا. والمرأة التي أحبّها يوريو.
تساءل في صمتٍ إن كان فهم هذا التشابه سيسمح له بطريقةٍ ما بفكّ عُقَد علاقتهما المتوتّرة.
في تلك الليلة، أصيبت إيري بحُمًّى شديدة.
شخّص طبيب العائلة حالتها بأنها مجرّد إرهاق، مزيجٌ من السفر الطويل وضغط أوّل مناسبةٍ اجتماعيةٍ كبيرةٍ لها. كلّ ما تحتاجه هو الراحة.
رغم أن كلمات الطبيب كانت متوقّعة، إلّا أنها عزّتها. نامت كالميتة طوال اليوم، وشعرت بتحسّنٍ كبيرٍ عند استيقاظها.
حتى حينها، بقيت الذكرى عالقةً في ذهنها.
نسائم ليلة الربيع، وحفيف الستائر الناعم، ورائحة التبغ النفّاذة، ونبرة صوته الساخرة.
«بدلاً من الحُب، أُفضّلُ النوم معها.»
‘مقزّز …’
انقلبت إيري في سريرها، عابسةً عند تذكّرها لهذه الذكرى.
شعرت بالحُمق لأنها ظنّت أنه قد يكون مختلفًا. لأنها كانت تعتقد أنه، رغم غطرسته وتقلّباته، قد يكون شخصًا محترمًا.
شعرت بالخجل من حماسها الشديد لفكرة الرقص معه.
والأسوأ من ذلك، أنها شعرت بالرعب من أنها، ولو للحظةٍ عابرة، قبل أن ينطق بتلك الكلمات البذيئة، شعرت بترقُّب.
ولكن أكثر من أيّ شيءٍ آخر، ما جعلها تشعر بالبؤس الحقيقي هو عدم وجود مَن تثق به.
لم تكن هناك أمٌّ تُبوح لها بما في قلبها، ولا صديقةٌ عزيزةٌ مثل موين تُوافقها وتلعنه بجانبها.
كانت وحيدةً تمامًا مع كبري
ائها المجروح وقلبها المُتألِّم.
‘أفتقدهم جميعًا…’
دفنت وجهها في الوسادة، وأطلقت تنهيدةً مرتجفة.
وفي عصر اليوم الثالث منذ مَرَضِها، جاء لورانز برينغر لزيارتها.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 19"