“لا بأس. سأتفقّد المكان بمفردي اليوم.”
تحدّثت إيري بينما توقّفت جينجر، التي كانت مشتّتة الذهن للحظاتٍ بتصفيف شعرها الأسود الناعم للغاية، للحظةٍ قبل أن تُجيب.
“أوه، حسنًا. كيف أُعِدّ الغداء؟”
“هل يُمكنني أن أقرّر بعد عودتي؟”
بدلًا من الإجابة، أومأت جينجر برأسها ببساطةٍ وانتهت من تمشيط شعرها.
تسلّل ضوء الشمس إلى غرفة الملابس. لم تكن إيري معتادةّ على هذا بعد – أن يُعتَنى بها، وأن يُساعدها أحدهم في تجهيز نفسها.
كان الأمر مُحرجًا.
لم تتمنَّ قط حياةً كهذه، ومع ذلك لم يسعها إلّا أن تشعر بموجةٍ صغيرةٍ من الفخر. في الوقت نفسه، وجدت نفسها منزعجةً قليلًا من نفاقها.
لكن كلّ هذه المشاعر المُعقدة ذابت تحت ضوء الصباح الذهبي، مثل الزبدة على الخبز الدافئ.
نظرت إيري إلى المرأة في المرآة بخجل. مدّت يدها لتلمس أقراطها؛ كانت باهظة الثمن جدًا بالنسبة لما اعتادت عليه، حين هتفت جينجر فجأة.
“أوه، كدتُ أن أنسى.”
أخرجت جينجر دبوس شعرٍ من علبة، دبوس الأكوامارين الذي أهداه لها لورانز برينغر. وبينما كانت جينجر تثبّته، لَفَّت إيري أصابعها لا شعوريًا. كان شعورًا غريبًا، جعلها تشعر بالقلق.
“إنه يناسبكِ تمامًا، آنستي.”
لم يكن هذا إطراءً فارغًا، فقد ناسبها دبوس الشعر حقًا. كان مطابقًا تقريبًا للون قزحيتي عينيها الغامضتين.
‘صدفة، بالتأكيد.’
من المستحيل أن يكون ذلك الرجل قد بذل جهدًا كبيرًا للعثور على حجرٍ كريمٍ يطابق لون عينيها تمامًا. كانت فكرة انحناءه، وهو ينتقي بعنايةٍ قطعة مجوهراتٍ رقيقة، غريبةً للغاية لدرجة أنها أطلقت ضحكةً خفيفة.
‘انتظر لحظة.’
تجمدت إيري، وشعرت بنوعٍ من التنافر.
‘هل ظننتُ للتوّ أنه… لطيف؟’
ابتعدي، أيتها الأفكار الحمقاء!
شعرت بالرعب، وصفعت خديها بقوّةٍ كافيةٍ لإصدار صوتٍ حادّ. شعرت بوخزٍ في جلدها من الصدمة.
التفتت جينجر، التي كانت تُرتب صندوق المجوهرات، إليها بنظراتٍ متّسعة.
“آنستي؟ هل أنتِ بخير؟”
“لا، أعني – نعم. أحتاج فقط إلى المشي.”
خرجت إيري من غرفة الملابس مسرعةً بعد أن أنهت استعداداتها. على كرسيٍّ مجنّحٍ فاخر، كانت روزي تُمزّق وسادة، ثم أطلقت مواءً طويلاً. كان فراءها بلون الجُبن الدافئ، ومخالبها كأنها مغموسةٌ في الدقيق.
“هيا بنا، روزي.”
بإشارةٍ منها، قفزت روزي.
وفقًا للسيدة بونز، كان عمرها حوالي ثلاثة أشهر، لكنها كان قويةً وحيويةً بالفعل. كانت تتبع إيري كجروٍ متحمّس.
بعد أن تعلّقت إيري بروزي، كانت تستكشف مُلكية البجعة البيضاء بحريّةٍ خلال الأيام القليلة الماضية.
باستثناء دروسها مع السيدة بونز، لم يكن لديها الكثير لتفعله. حتى أنها حاولت المساعدة في الأعمال المنزلية، لكن الخدم كادوا أن يفقدوا وعيهم من شدّة الفزع، فأخرجوها على الفور من غرفة الغسيل.
في النهاية، لم يبقَ لها ما تفعله حتى بدأ الفصل الدراسي رسميًا في الخريف. ولأنها تعلم أن هذا النوع من الترفيه سيكون نادرًا في حياتها، قرّرت أن تتجاهل أيّ شعورٍ بالذنب أو القلق وتستمتع به على أكمل وجه.
كان من المضحك حقًا كيف أن حتى الاسترخاء يتطلب قرارًا حازمًا.
***
سمعت إيري أن أجزاءً من المُلحَق الغربي محظورة، لذلك كانت تتجوّل في الغالب في حديقة الورود الشرقية.
بدت الغابة، التي يُشاع أن بها نهرًا مخفيًّا، شاقّةً للغاية لاستكشافها بمفردها، لذلك تجوّلت اليوم في أرجاء المكان.
زارت الإسطبلات والبستان وغرفة الصلاة.
روزي، التي كانت تتجول بنشاطٍ في البداية، أنهكها التعب في النهاية. قدّم القِسّ للقطّة الصغيرة بعض الحليب بلطف، وهي تُخرخِر له باستمتاع.
ما إن امتلأت بطن روزي، حتى استأنفت هجمتها المرحة، تركل العشب بمخالبها الصغيرة.
إيري، التي كانت تقرأ تحت شجرة صفصافٍ كبيرةٍ قرب غرفة الصلاة، لم تُدرِك اختفاء روزي إلّا عندما انقلبت الصفحات بسهولةٍ بالغةٍ في غياب وزنها.
“روزي؟ أين أنتِ؟ روزي!”
كانت عِزبة الكونت مُعتنى بها بعناية، مما يعني أن حتى الحيوانات البرية كانت تُربَّى بعيدًا. مع ذلك، كانت إيري قلقةً من أن روزي قد تكون وقعت في مشكلة.
“روزي!”
“مواء.”
“روزي؟!”
“ووونغ.”
تسارعت خطوات إيري نحو الصوت. ووجدت روزي تخدش صندوق بريدٍ أحمرٍ مُلحَقٌ بالمُلحَق الغربي.
“لا يجب أن تفعلي هذا!”
“ميااووو!”
حملت إيري روزي، وأمطرتها بالقبلات، مما جعلها تتلوّى.
“يا لكِ من مُشاغبة.”
كانت على وشك الالتفاف، لم يكن هناك سببٌ لبقائها هنا.
ومع ذلك …
لماذا شعرت فجأةً بالفضول تجاه صندوق البريد المُغبَر؟
لقد مرّ شهران منذ وصولها إلى بريتيا. أرسلت رسالةً إلى غينيس لكنها لم تتلقَّ ردًّا بعد. حتى أنها كلّفت خادم المنزل بإبلاغها فور وصول رسالةٍ من والدتها.
‘من غير المُحتمل، ولكن… ماذا لو؟’
ماذا لو كان ردّ والدتها الذي طال انتظاره موجودٌ داخل صندوق البريد هذا؟
بدافعٍ اندفاعي، مدّت إيري يدها لفتحه.
نقرة.
تصاعد الغبار في سحابةٍ صغيرة. حجبت إيري وجه روزي بيدها غريزيًا.
في الداخل، لم تكن هناك رسائل.
لم تتفاجأ.
لكن كان هناك شيءٌ آخر.
“مفتاح؟”
أمالت رأسها بفضول. لم تستطع المقاومة، فالتقطته.
“أوونغ.”
أفلتت روزي من قبضتها، ممّا أتاح لها فرصة فحص المفتاح عن كثب.
كان له رأسٌ على شكل برسيم، صَدِئٌ وبالٍ. كان هناك سلكٌ جلديٌّ رفيعٌ يمرّ عبر ثقبه، ولكن بخلاف ذلك، بدا عاديًا.
لم تكن لديها أيّ فكرةٍ عمّا يفتحه. لم يكن له أيّ معنًى بالنسبة لها.
ومع ذلك، انجذبت إليه بطريقةٍ غامضة، كما لو كانت تحت تأثير تعويذة. بدا الأمر أشبه بروايةٍ خيالية، كبوابةٍ إلى عالمٍ آخر، حيث قد يؤدي فتح خزانة ملابس إلى مغامرةٍ عظيمة.
ربما إلى عالمٍ أقلّ وحدة. عالمٌ لا يزال والدها على قيد الحياة فيه. عالمٌ بلا حرب.
دون أن تفهم السبب تمامًا، خبَّأت إيري المفتاح سرًّا في جيب فستانها.
***
وصل حفل النصر الذي طال انتظاره.
في الليلة السابقة، مكثت إيري في منزل العائلة في العاصمة. في صباح اليوم التالي، استقلّت عربة. بينما كان كونت إرنست يسافر عادةً بالسيّارة، كانت العادات المَلَكية تقضي باستخدام العربات في مناسبات القصر.
بالطبع، لا يزال النبلاء ورجال الأعمال الشباب المتحمّسون يواصلون القدوم بالسيارات. انقسمت ردود الفعل، فبعضهم ضحك على جرأتهم، بينما انبهر آخرون بتقدّم الحداثة.
أُقيم الحفل في قاعة الملائكة داخل المبنى الرئيسي للقصر. وعلى عكس الحفلات العادية، كان هذا حفل نصر، وقد فُتِحَت القاعة الرئيسية خصّيصًا لهذه المناسبة.
لمَن لم يكونوا من سلالةٍ نبيلةٍ عريقة، من المرجح أنها كانت أوّل مرّةٍ تطأ أقدامهم هذا المكان. اصطفّت نوافذٌ شاهقةٌ على جانبٍ واحدٍ من الممرّ، وزجاجها نقيٌّ كالبِلّور.
“الجو مختلفٌ بعض الشيء.”
تمتم كونت إرنست بذهول. التفتت إيري إليه.
“متى كنتَ هنا آخر مرّةٍ؟”
“قبل حوالي ثلاث سنوات. بدا المكان أكثر فخامةً حينها.”
بالنسبة لإيري، بدا البناء الفخم لا يزال مهيبًا. عندما رأى الكونت عدم موافقتها، استطرد قائلًا.
“المكان أخفّ وطأةً الآن. انظري، الستائر ليست مُسدَلة.”
في الماضي، كان البروتوكول الملكي ينصّ على فتح الستائر لمدّة ثلاث ساعاتٍ فقط يوميًا، ممّا عزّز أجواء القصر الحصرية. لكن الآن، المَلَكية تتغيّر. لم يعد الناس يرون العائلة المالكة بعيدةً كما في السابق.
ما إن دخلوا قاعة الملائكة، حتى أعلن الخادم أسماءهم.
وكما كان متوقّعًا، اتجهت الأنظار إليهم. كانت عائلة الكونت إرنست مرموقة، والآن، هناك سببٌ آخر لنثر فضولهم.
الوريثة الوحيدة لثروة الكونت إرنست.
الفتاة التي استيقظت ذات صباحٍ وفي فمها ملعقةٌ ذهبية.
إيري إرنست.
ضغطت السيدة بونز على يد إيري الباردة بحذر.
“اضبطي ظهركِ. الوضعيّة الجيّدة هي نصف المعركة.”
ابتسمت إيري ابتسامةً مصطنعة، ممتنّةً لأنها تدرّبت أمام المرآة مُسبقًا. بكلّ خطوة، وكلّ نفس، بدت غير طبيعية.
لكن بالنسبة للناظرين، كانت السيدة المثالية؛ رشيقةً كبجعة، تشعّ بالدفء.
ثم،
“آه! الكونت إرنست! لم أرَكَ منذ وقتٍ طويل!”
اندفع الأمير فيليكس عبر الحشد
.
وكان يقف بجانبه لورانز برينغر، مرتديًا ثيابًا بيضاء ناصعة.
كان تعبيره غامضًا.
“أنتِ لا ترتدين دبوس الشعر الذي أهديتُكِ إياه.”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 17"