أشرقت أشعة الشمس الذهبية على المظلة. زيّن طقم شايٍ فاخرٍ الطاولة المغطاة بغطاء أبيض من الدانتيل. انخرطت سيداتٌ في منتصف العمر، بشعرهن المصفّف بعنايةٍ فائقةٍ دون أيّ خصلة شعثاء، في نقاشٍ حيويٍّ حول طقم الشاي.
كانت هؤلاء السيدات ضيفاتٍ دائماتٍ في حفلات شاي السيدة بونز. دارت اجتماعاتهن المعتادة حول نقاشات حامية حول فناجين الشاي الخزفية الفاخرة أو أوراق الشاي النادرة.
“صحيح! سمعتُ أنكِ كنتِ تُدرّسين الآنسة إرنست الصغيرة مؤخرًا؟”
“يا إلهي، حقًا؟ كيف لم تخبرينا أولًا، سيدة بونز؟”
ارتفعت أصواتهن في سخرية من الخبر غير المعلن.
“لا بد أن السيدة بونز تعتقد أنها أكبر منا بكثيرٍ الآن.”
“بالفعل. تتجاهلنا كما لو كنا مجرد عجائز قدماء.”
“أوه، يا سيداتي، أنتن تُحببن المبالغة. كنتُ ببساطةٍ أحتفظ بقصةٍ رائعةٍ لوقتٍ لاحق.”
احتست السيدة بونز شايها بابتسامةٍ مرحة. انحنت النساء إلى الأمام بلهفة، وآذانهن منتصبةٌ في ترقب.
“هل هي حقًا جميلةٌ إلى هذه الدرجة؟”
“يقولون إنها أسرت قلوب جميع سكان مدينة بولن!”
كان فضولهن بشأن مظهرها، بطبيعة الحال، على رأس أولوياتهن. أجابت السيدة بونز دون تكلف.
“إنها جميلة بما يكفي لتثبت نفسها حتى بين نخبة العاصمة.”
كانت السيدات يكدن يصرخن من الفضول. أضافت السيدة بونز بابتسامةٍ مازحة.
“إنها مهذّبةٌ وحسنة الخلق. بصراحة، كنتُ قلقةً من أنها قد تكون بطيئة التعلّم، لكنني كنتُ مخطئة. آه، مع أن رقصها سيءٌ للغاية.”
“أوه، لكن، سيدة بونز، أنتِ صارمةٌ جدًا عندما يتعلّق الأمر بالرقص! إذا وصفتِيه بـ’سيء’، فلا بد أنه ليس سيئًا للغاية.”
“حسنًا، على الأقل سأتأكد من أنها لن تُحرِج نفسها في الحفل القادم.”
فهمت النساء على الفور. كانت السيدة بونز معجبةً بالآنسة إيري إرنست. على الرغم من أنها اجتماعيةٌ وساحرة، إلّا أن السيدة بونز كانت انتقائيةً في اختيار من تقبله حقًا في دائرتها.
همست إحدى السيدات بنبرةٍ حالمة.
“مع من سترقص الآنسة إيري لأوّل مرّة؟ يجافيني النوم وأنا أفكر في الحُبّ في سن الشباب.”
“نعم، إنه أفضل من مشاهدة مسرحية!”
“هوهو. لديّ تخمينٌ جيدٌ جدًا حول من سيكون شريكها الأوّل في الرقص.”
أطلقت السيدة بونز ضحكةً خافتة. وضعت يديها برفقٍ على الطاولة وجَلَت حلقها.
“خمّنوا ماذا رأيتُ في البجعة البيضاء؟”
تجمّعت السيدات كما لو كنّ يتآمرن. بعد لحظات، دوّت صيحة تعجّبٍ عالية، كادت أن تطير قبعةٌ مزخرفةٌ من وسط التجمّع.
“ماذا؟! السير لورانز؟!”
وهكذا، وُلدت شائعةٌ جديدةٌ في بولن.
***
مع عدم وجود أمتعةٍ لحملها، لم يكن الانتقال عمليةً سهلة. كان لورانز يقيم في فندق، وأيّ شيءٍ متبقٍّ في منزل عائلته كان مُعدًّا للتخلّص منه.
كانت أطرافه الطويلة، التي كانت تتحرّك بصعوبةٍ داخل السيارة وخارجها، أكثر إزعاجًا من أمتعته القليلة.
كان طاقم العقار، الموروث من المالِك السابق، يتألّف من أربعة خدم بالإضافة إلى الطاهي. لم يمضِ سوى أسبوعين تقريبًا، لكن لورانز كان قد عَهَد إليهم بالفعل بسلطةٍ كاملةٍ على المنزل.
في البداية، كانوا خائفين من فكرة خدمة بطل حرب. لكن عندما أدركوا أن لورانز ليس صعب المِراس ولا وغدًا متهوّرًا يستغلّ مظهره، سرعان ما استرخوا وتنهّدوا الصعداء.
مع ذلك، كان لا بد من الحفاظ على الانضباط. بذل لورانز جهدًا واعيًا لإظهار هالةٍ من الجديّة.
“إلى متى ستحتفظ بتلك النظرة المملة التي تشبه تعبير رجلٍ عجوز؟”
أدرك فيليكس على الفور زِيف تصرّفه وسخر منه. لقد طارد لورانز ليقيم حفلةً بمجرّد أن سمع بالانتقال. في النهاية، دعا نفسه بذريعة ‘حفل الانتقال إلى منزلٍ جديد’.
وقع فيليكس في غرام ‘العيون الزرقاء’ على الفور. فعلى عكس قصرٍ فخمٍ شاسعٍ لا يتّسع له دفعةً واحدة، كان العقار مريحًا و’متواضعًا’. كان ممرّ غابةٍ كثيفةٍ يؤدي إلى نهرٍ بعيد، وبدا مثاليًا للصيد في الخريف، مع أن لورانز سيكره الفكرة على الأرجح. لكنه لم يكن من النوع الذي يرفض دعوة صديق.
“مع مَن سترقص أولًا؟”
من الفونوغراف، انطلقت أنغام الحركة الثانية من ‘ملكة القمر’ في الجو. كانت هديةً ثمينةً من فيليكس، عملية شراءٍ باهظة الثمن بما يكفي لتبرير انحناءةٍ كلّما مرّ بها أحد.
اتكأ فيليكس على درابزين الشرفة، يدخّن سيجارة. جلس لورانز خلفه على طاولةٍ زجاجيةٍ مستديرة، يقرأ وثائق استثمارية.
“همم؟ مع مَن سترقص؟”
“هل عليّ أن أرقص؟”
“ما هذا السؤال؟ الهدف هو الرقص مع آنسة جميلة.”
“ظننتُ أن هذه مأدبة ‘نصر’.”
“أوه، من فضلك. كل جنديٍّ آخر هناك يفكّر في الشيء نفسه، إنه مجرّد ذريعة. تسميتها ‘حفل تزاوج’ صراحةً سيكون مبالغًا فيه بعض الشيء، لذا يُضفُون عليها طابعًا رسميًا.”
عبس لورانز من كلمات فيليكس الصريحة.
“كم هذا مقزّز! كالبهائم.”
“الجنس شيءٌ مقدّس.”
“…”
ها قد بدأ. عِظَة فيليكس.
“المتعة شيء، ولكن عندما يرغب شخصان ببعضهما البعض بشدّة، فلا يوجد شيءٌ مقززٌ في ذلك.”
“نعم.”
“أعني ما أقول.”
“أفهم تمامًا.”
“ليس وكأنكَ تعرف، كونكَ ما زلتَ أعذرًا.”
“كفاكَ وقاحة. فقط انصرف.”
“لماذا؟ أتخجل من نقائِك؟”
“أوه، لا يمكنني أن أكون أكثر فخرًا. الآن، اخرُج.”
“أنا ذاهبٌ بالفعل.”
جعل موقف لورانز اللامبالي فيليكس ينقر بلسانه. لا بد أنه ترك وراءه جبلًا من العمل غير المكتمل، كما تأمّل لورانز.
“فارسي العزيز لورانز، جهِّز نفسك. سأجد لكَ شريكةً في الحفل.”
“تعرفُ الطريق إلى الباب، لن أودّعك.”
لوّح له لورانز بكسل.
“لم أتوقع منكَ ذلك حتى.”
خرج فيليكس، وسرعان ما ملأ هدير محرّكٍ الهواء. انطلقت سيارةٌ سوداء أنيقة تشقّ طريقها.
بيب!
أطلق فيليكس بوق سيارته مرّةً واحدة.
من المدهش أنه قاد سيارته بنفسه إلى هنا دون سائق.
“ارحَل الآن!”
مدّ لورانز رقبته وصرخ. تلاشى ضحك فيليكس في الأفق.
وأخيرًا، بعض السلام.
قلب لورانز بضع صفحاتٍ أخرى قبل أن يزفر ويضع الأوراق جانبًا. عصفت الرياح عبر الأشجار، وحفيف أوراقها يُشبه صوت شلال. في يومه الأول هنا، سأل حتى إن كان هناك شلالٌ حقيقيٌّ بالقُرب، لكن لم يكن موجودًا.
وضع سيجارةً طويلةً غير مشتعلةٍ بين شفتيه.
‘حفل تزاوج.’
لا.
‘مأدبة نصر.’
نقر على صدغه بأصابعه. كان عقله فاسدًا بوضوح.
فك لورانز ساقيه وسار نحو السور. فكّ ربطة عنقه وفكّ أزرار سترته، كان قد ارتدى ملابس رسميةً لزيارة البنك سابقًا.
ظلّل عينيه بيده، وحدّق في الأفق. في يومٍ صافٍ كهذا، كان قصر البجعة البيضاء ظاهرًا في الأفق.
برزت كنيسته، بسقفها الأبيض المدبّب وصليبها اللامع، حتى من هنا.
‘تلك المرأة قريبةٌ جدًا.’
مهما فكّر في الأمر، بدا سرياليًا.
ماذا تفعل الآن؟
تقول الشائعات إنها نادرًا ما تخرج. ربما كانت تؤجّل ظهورها الاجتماعي الأوّل للحفل الراقي، متخلّيةً عن حفلةٍ خاصّةٍ في قصر إرنست.
كانت تكره الحفلات لكنها تتوق للرّفقة …
أدرك لورانز بدهشةٍ أنه كان يراقب إيري إرنست عن كثبٍ أكثر مما كان ينوي.
“لا شأن لي.”
لقد سدّد دينه، حتى أنه أضاف مبلغًا إضافيًا. كان ذلك أكثر من كافٍ. أصبح بإمكانهما الآن أن يُحيّيا بعضهما البعض كجيرانٍ فحسب.
لم يتساءل ال
جيران عن مدى وحدة الآخر.
لم يتساءلوا إن كانت تغفو، أو تتدحرج على العشب مع قطةٍ صغيرة.
لا ينبغي لهم أن يتساءلوا.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 16"