“اتصلنا بكَ فور عرض العقار للبيع، سير.”
كرّر وكيل العقارات كلامه للمرة الثالثة.
“لا يوجد منزلٌ أجمل من هذا في بولن كلها. أضمن لكَ ذلك.”
استمع لورانز بنظرةٍ لا مبالية، وعقله يتخيّل قصرًا مبهرًا أبيض كالبجعة. امرأةٌ تنظر إليه من الشرفة …
“آه، أعتقد أننا وصلنا.”
نزلا من العربة. وبالفعل، لم يكن حماس الوكيل غير مبرّر.
“يُدعى ‘العيون الزرقاء’!”
رفع لورانز يده ليحمي عينيه من أشعة الشمس ونظر إلى المنزل.
نعم، كان للقصر طابعٌ رومانسي. وكما يوحي اسمه، كان ‘العيون الزرقاء’ مُغطًى بدرجاتٍ زرقاء هادئة. ليس ضخمًا، ولكنه بالتأكيد ليس متواضعًا أيضًا.
كان في الأصل منزلًا لقضاء العطلات لرجلٍ ثري، ثم عُرِض للبيع فجأةً، على الأرجح بسبب تعثّر مالي.
“لقد حالفكَ الحظ.”
كرر الوكيل الأصلع هذه العبارة سبع مرّاتٍ على الأقل في طريقه.
“كلّ هذا بفضل خدماتكَ الجليلة وإنجازاتكَ البطولية، سير لورانز! إنها نعمةٌ إلهيةٌ بلا شك!”
بصفته شخصًا غير مؤمن، سمح لورانز للمديح بالمرور من أذنه والخروج من الأخرى، وتبع الوكيل بهدوءٍ عبر الفناء الأزرق.
تم صيانة المكان بعنايةٍ فائقة، أكثر بكثيرٍ مما يتوقعه المرء من منزلٍ يُستخدم بضع مرّاتٍ فقط في السنة.
“حتى أنهم أعادوا طلاء الواجهة الخارجية بعد أمطار الربيع قبل بضعة أيامٍ فقط.”
“يبدو جديدًا بالفعل.”
“صحيح؟ حدث كلّ شيءٍ في توقيتٍ مثالي، كما لو أن القدر-“
“هل الغابة عميقة؟”
قاطعه لورانز وهو ينظر نحو الغابة خلف القصر. كانت الغابة الكثيفة تنضح بطاقةٍ منعشةٍ متعدّدة الطبقات.
“آه، عميقةٌ بما يكفي للاستمتاع بالصيد.”
“أنا لا أصطاد.”
“أ-أوه، حقًا؟ معظم الشباب يستمتعون به-“
“بعد أن قتلتُ هذا العدد الكبير من الناس في ساحة المعركة … لا أرى حاجة لإراقة المزيد من الدماء.”
تحدّث لورانز بسخريةٍ لاذعةٍ من نفسه. حملت ابتسامته نفس الحدّة الساخرة، مما جعل العميل يتعرّق كما لو كان يتحدّث إلى قاتلٍ متسلسل.
“صـ صحيح! بالطبع! أنتَ لستَ مثل ‘معظم’ الشباب، سير لورانز. اعذرني على جهلي!”
“… أطلِعني على الداخل.”
“نـ نعم، بالطبع! فقط اتبعني!”
على الرغم من ثرثرته المتوترة، كان العميل محترفًا بوضوح. كونه من سكان بولن وسمسار عقاراتٍ لمدّة عشرين عامًا، أصبح شديد التركيز عند عرض منزل.
كان هناك عشرون غرفةً إجمالًا، وإذا رغب لورانز، يمكن نقل طاقم المنزل الحالي إليه. كان هذا خبرًا سارًّا، فلم يكن لدى لورانز علاقاتٌ قويّةٌ حتى تُمكّنه من العثور على موظّفين جديرين بالثقة.
“قصرٌ يمزج بين الغابة والنهر، ومع ذلك لا يزال قريبًا من المدينة؟ أمرٌ نادرٌ جدًا. إنه عقارٌ مميّز.”
ساروا في أرجاء المكان، ثم عادوا إلى البوابات الأمامية. بعد رحلةٍ طويلة، مسح الوكيل عرقه بمنديل، وأضاف.
“والأفضل من ذلك كلّه، أنه يبعد أقلّ من ثلاثين دقيقةً سيرًا على الأقدام عن البجعة البيضاء.”
“…البجعة البيضاء؟”
رفع لورانز حاجبه. شرح الوكيل بحماس.
“أوه، نعم، هذا هو لقب عزبة الكونت إرنست. منظر العزبة، كبجعةٍ تنشر أجنحتها، خلّابٌ حقًا. يجب أن تزوره يومًا ما، سير.”
“لقد زرتُه بالفعل.”
“آه! بالطبع، أنتَ سريعٌ حقًا، يا سيدي! الكونت إرنست أنبل النبلاء. وله علاقاتٌ واسعةٌ أيضًا. حتى قبل شهر، كان يُحكِم إغلاق المكان ولا يستقبل الزوّار، لكن الآن … بدأت رياح الربيع تهبّ.”
أدرك لورانز أن العميل كان يقصد إيري إرنست دون أن ينطق باسمها مباشرةً.
“يقولون إنه أحضر حفيدته الوحيدة من غينيس.”
“سمعتُ ذلك أيضًا.”
“وقبل أيام، ذهبت إلى طريق دولبيش. يُقال إنها كانت جميلةً بشكلٍ لا يُصدَّق، أعني حقًا، احمم، على أيّ حال.”
“….”
“على أيّ حال! بوجود شابّةٍ هناك الآن، ستُقام حفلات، وستُنعِش هذه المنطقة بأكملها!”
منزلٌ أزرق.
تذكّر لورانز بطبيعة الحال عيني إيري إرنست. عينان حادّتان، حازمتان، عينان نظرتا إليه بيقينٍ تامٍّ أنه يسخر منها. احترقت نظراتها بوضوحٍ في رماد قلبه. وفي اللحظة التالية، دون أن يُدرك ذلك، قال.
“سآخذه.”
“!”
“نقدًا. المبلغ كاملًا.”
***
وصلت فساتين دوسينتا. شعرت إيري بالارتياح لأنها تمكّنت من تغيير ملابسها قبل لقاء السيدة بونز.
“كانت السيدة بونز صديقةٌ مقرّبةٌ لسيدة المنزل الراحلة. إنها مرحةٌ ومليئة بالطاقة.”
أوضحت جينجر، موضّحةً كلّ ما قد ترغب إيري في معرفته مسبقًا.
“ربما تكون أكثر امرأةٍ نفوذًا في بولن. تستضيف حفلات الشاي كثيرًا … لا أبالغ إن قلتُ إن هذا هو مصدر كلّ ثرثرة المدينة.”
أضافت جينجر تعليقًا شخصيًا بحذر. لحسن الحظ، بدت إيري وكأنها تفهم.
بابتسامةٍ صافية، نهضت.
“إذًا ما تقصدينه هو … أن عليّ أن أتصرّف بحذر؟”
“لـ لا أقصد بالضرورة أن تتصرّفي، ولكن فقط أن تكوني حذرةً لأن ما سيحدث بينكما قد ينتشر لاحقًا.”
“فهمت. شكرًا لكِ، جينجر. بصراحة، لا أعرف كيف كنتُ سأعيش هنا بدونكِ.”
“لا تذكري الأمر، آنستي …”
نزلت إيري إلى غرفة الاستقبال بفستانٍ أزرق داكنٍ أنيق. وقفت السيدة بونز، وهي تحتسي الشاي، متّكئةً على عصًا عندما رأتها.
“آنسة إيري.”
“مرحباً، السيدة بونز.”
“مرحبًا، هذه أوّل مرّةٍ نلتقي فيها. سررتُ بلقائكِ.”
تتمتّع السيدة بونز بوجهٍ دافئٍ وودودٍ وقوامٍ ممتلئ. قيل إنها أصغر بخمس سنواتٍ من الكونتيسة الراحلة إرنست، التي كانت هي نفسها أصغر من الكونت بعشر سنوات. لذا، كان وصفها بـ’سيدة عجوز’ غريباً، مع أن العصا في يدها كانت غريبةً أيضًا.
“ظننتِ أنكِ ستقابلين جدّةً عجوز، أليس كذلك؟ إنها فقط ألمٌ في ركبتَيْ. أما باقي جسدي فهو بخير.”
ضربت ركبتيها بكفها ووبختهما.
“يا مثيري المشاكل الصغار! الجو لا يُمطِر حتى، ما عذركم اليوم؟”
لم تتمالك إيري نفسها من الضحك. انحنت قليلاً، وألقت نظرةً خاطفةً على ركبتَي المربية.
“حسنًا إذًا، سيدتي، يبدو أن ركبتيكِ تقولان لنا أن نجلس على ذلك الكرسي المبطن الجميل هناك. هلّا فعلنا؟”
“هوهو، لنفعل ذلك!”
مرّرت إيري ذراعها بين ذراع المربية وقادتها إلى الغرفة الكبيرة حيث ستُعقَد دروسهم.
“أخبرني الكونت مرارًا وتكرارًا أن أعتني بكِ جيدًا لدرجة أن أذنيّ أصبحتا مُتقرّحتين. إذا صدر مني أيّ تقصير، فأخبريني.”
“إذا حدث أيّ خطأ، فسيكون خطئي، وليس خطؤكِ. أنا ممتنةٌ جدًا لأنكِ خصّصتِ وقتًا لي.”
جلست السيدة بونز براحةٍ على كرسيها المتحرّك وابتسمت ابتسامةً ساخرةً صارمة.
“حسنًا، تتحدّثين بلطفٍ الآن. لنرَ إن كنتِ لا تزالين بهذه الجاذبية بعد توبيخٍ لائق.”
***
كانت دروس ما بعد الظهر مُرهِقة لكنها مُجزية. لم تُقلّل السيدة بونز من شأن إيري لعدم إلمامها بآداب سلوك برينيا، ولم تُوبّخها بقسوة.
كانت صارمة، نعم، ولكن بطريقةٍ ساعدت إيري على التعلّم بدقّة. لم تكن بخيلةً في الثناء، ممّا ساعد إيري على الحفاظ على ثقتها بنفسها.
“ذكيةٌ وسريعة الحركة أيضًا! ممتازة!”
كما اتضح، كانت السيدة بونز راقصةٌ في السابق، وهي الآن تُعلِّم الآخرين في وقت فراغها. لا عجب أنها كانت أكثر صرامةً في تعليم الوضعيات والحركات.
“حسنًا، لقد درسنا بجد، حان وقت الراحة وتناول الوجبات الخفيفة!”
تشاركوا الشاي والحلوى.
وجدت إيري نفسها تتحدّث أكثر من المعتاد. باستثناء جينجر، لم تكن تجري محادثاتٍ عميقةٍ كثيرًا، ولكن رغم فارق السن، كانت هي والسيدة بونز على وفاقٍ تام. أرادت إيري أن تتقرّب منها أكثر.
في الواقع، ذكّرتها السيدة بونز بوالدتها في غينيس. مع أن والدتها كانت هادئةً ومتحفّظة، على عكس بونز المفعمة بالحيوية، إلّا أن نظرتهما إليها بوضوحٍ وطريقة تربيتهما على رأسها بحنانٍ كانتا متشابهتين.
بينما كانوا يتجاذبون أطراف الحديث عن البجعة البيضاء، ذكرت السيدة بونز الكونتيسة الراحلة.
“… لن أنسى أبدًا تلك الدفيئة. كانت مشهورةً بالنباتات النادرة، لكنا كنا نحب النباتات العادية. البرسيم وما شابه. كانت طفوليةً جدًا، لدرجة أنها عندما تجد برسيمًا رباعي الأوراق، كانت تغمرها السعادة طوال اليوم.”
قالت إن ذلك ذكّرها بإيري. تلك التفصيلة الصغيرة أثارت في إيري رابطًا عميقًا وشوقًا لجدّةٍ لم تلتقِ بها من قبل.
“أنا … أشعر بنفس الشعور.”
“ربما ورثتِ جانبكِ الإيجابي منها؟”
جدّة.
تردّد صدى هذه الكلمة في قلب إيري. لم تستطع حتى أن تُنادي الكونت إرنست بجدي. كان يعاملها كضيفة، مُحرَجة ومنعزلة. لكن السيدة بونز كانت أوّل مَن عاملها كما لو كانت تنتمي حقًا إلى العائلة.
“هل أنا … أشبهها حقًا؟”
“همم، حُسن تصرّفكِ، أجل. ورقصكِ السيء.”
“سيدة بونز!”
“هوهو! لن أخبر الكونت، لذا من الأفضل لكِ أن تستمرّي في التدرّب!”
كانت لحظةً نادرةّ من الضحك المشترك. تمنّت إيري ألّا ينتهي هذا المساء أبدًا.
لكن سرعان ما دخلت جينجر بتعبيرٍ غريب.
“آنسة.”
“ما الأمر؟”
“هذا … لديكِ ضيف.”
نظرت إيري حو
لها وأشارت إلى نفسها.
“ضيف؟ لي؟”
“نعم.”
“مَن يكون؟”
“…السير لورانز برينغر.”
أجابت جينجر بتردّد. عند كلمات جينجر، لمعت عينا السيدة بونز بفضول.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "14"