كان لقاءً غير سار.
ما إن أدركت إيري أن لورانز يسخر منها، حتى نهضت وغادرت المتجر دون أن تلتفت. فقط أخبرت السيدة أنها ستعود في وقتٍ لاحق. ورغم فظاظتها، ودّعتها السيدة بهدوءٍ تام. هذا ما زاد من أسف إيري.
“كلّ هذا بسبب رجلٍ سخيف …”
وفوق كلّ ذلك، ناداها لورانز قبل خروجها.
“سأُرسل القفّازات مع خادمكِ.”
تجاهلته، لكن هذا لا يعني أن الأمر لم يُزعجها.
بينما حدّقت إيري من النافذة بتنهيدة، سألتها جينجر، الجالسة أمامها، بحذر.
“آنسة … هل حدث شيءٌ بينكِ وبين السير لورانز برينغر؟”
“لا تسألي حتى.”
عادةً ما تكره إيري الثرثرة، لكن كما لو كانت تنتظر السؤال، انطلقت في سرد قصّة ذلك اليوم كاملة.
سمعت جينجر الموقف بأكمله، وكلّ ما خطر ببالها فكرةٌ واحدة.
‘هذا غير صحيح، لا يُمكن أن يكون السير لورانز بهذا السوء.’
ومع ذلك، وقفت بحزمٍ إلى جانب سيدتها. ففي النهاية، من الواضح أن هناك مَن أساء إليها.
بعد أن قضت بعض الوقت في التنفيس عن غضبها بشأن لورانز، نظرت إيري إلى جينجر وشعرت ببعض الخجل.
“آسفة … أعلم أنكِ معجبةٌ به.”
“لا بأس يا آنسة. أعتقد أنه وسيمٌ من الخارج فقط.”
“يبدو كذلك. الرجال جميعهم سواء …”
“حتى أبطال الحرب، على ما يبدو.”
عادت إيري إلى غرفتها، وفتحت الدرج المجاور لسريرها وأخرجت قفّازات الموسلين العزيزة عليها.
“هذه. هل تعتقدين أنه يمكن ترميمها؟”
شعرت بالارتياح لمجرّد سؤال جينجر عن ذلك. فحصت جينجر القفازات الممزّقة بعنايةٍ وأجابت بأمل.
“السيدة لورا بارعةٌ في التطريز. وحتى لو لم تكن تجيده بنفسها، فأنا متأكّدةٌ أنها تعرف خيّاطًا ماهرًا.”
توقّفت إيري عند الاسم الغريب، فأضافت جينجر بسرعة.
“السيدة لورا هي رئيسة وصيفات البجعة البيضاء.”
“حسنًا، شكرًا لكِ يا جينجر.”
“لا، على الإطلاق. سأُحضّر لكِ ماء الاستحمام قريبًا، لذا اطمئني.”
بعد قليل، جاءت خادمةٌ أخرى لتسخين الماء. كما تركت زجاجة عطرٍ على الطاولة، قائلةً إنها هديّةٌ من السيد.
يُرجَّح أنها عطر الورد الذي ذكره الكونت إرنست على العشاء الليلة الماضية. الزجاجة، على شكل برعم ورد، كانت جميلةً بحدّ ذاتها. انكسر ضوء الشمس المتدفّق عبر النافذة بشكلٍ مُبهِر على الزجاج ذي الملمس الخشن.
رشّت إيري القليل منه على معصمها الداخلي.
“أوه … هذا رائع.”
ملأ عطر الورد الناعم الغرفة برفق، فذاب غضبها في لحظة.
“حسنًا. لنهدأ.”
فركت معصمها برفقٍ خلف أذنها وحاولت تهدئة نفسها.
“إنه شخصٌ لن أراه مجدّدًا على أيّ حال.”
***
في الليلة التالية، تناولت إيري عشاءها الثاني مع الكونت إرنست.
مرّةً أخرى، زُيِّنت الطاولة بالمأكولات البحرية الطازجة. لا تزال ترتدي نفس الزي، ولم تصل فساتينها الجديدة بعد، كانت إيري تعبث بأدواتها، ويبدو عليها بعض التوتر.
سألها الكونت عن انطباعاتها عن بولن، وكقاصٍّ يحنّ إلى الماضي، شاركها قصّة شارع دوسينتا الأصلية، التي سبق أن روتها لها جينجر.
خفّ الجو المُحرِج سابقًا بشكلٍ ملحوظ، واستجمعت إيري شجاعتها للتحدّث.
“همم، كونت.”
للحظة، تصلّب تعبير الكونت إرنست. دون أن تشعر، تابعت إيري حديثها بنبرةٍ مرحة.
“جرّبتُ عطر الورد الذي أهديتَني إياه. وقد أعجبني كثيرًا.”
“هل أعجبكِ؟ هذا جيد.”
“لذا، امم، هل يُمكنني الحصول على زجاجةٍ أخرى؟”
أجاب الكونت دون تردّد.
“بالتأكيد.”
“شكرًا لك! أمي … ستُحبّه أيضًا.”
توقّف صوت ارتطام أدوات المائدة. حتى الخادمة التي كانت تصبّ الماء أخذت نفسًا عميقًا. تناثرت قطرات الماء على سطح الكوب.
“…”
أدركت إيري خطأها فورًا.
‘الحديث عن أمي محظور.’
لقد شكّت في ذلك. حتى أنها اختبرت الأمر ببراعة، لكن مع ذلك، كان من الصعب التخلّص من الشعور المرير.
استأنف الكونت إرنست تقطيع لحمه ببطء.
“… فهمت.”
بدا أن هذا أفضل ما استطاع الكونت فعله. قال بضع كلماتٍ فقط، لكن كان من الواضح أنه غير مرتاح. شعرت إيري فجأةً بأنها على وشك الإصابة بعُسر هضم مجدّدًا.
ثم غيّر الكونت الموضوع بسرعة.
“سيُقام حفل نصرٍ في القصر الشهر المقبل.”
“أوه … هل سيُقام أخيرًا؟”
تابعت إيري بحماس، مُدركةً أن من مسؤوليتها استعادة الأجواء التي أفسدتها.
“نعم. أبحث حاليًا عن سيدةٍ لتكون مرافقتكِ.”
“لي؟”
اختنقت إيري بسعالها واضطرّت لتصفية حلقها. ابتلعت بعض الماء وسألت مرّةً أخرى وعيناها تلمعان.
“هل سأذهب إلى الحفل أيضًا؟”
رمقها الكونت بنظرةٍ قالت هل ظننتِ أنكِ لن تذهبي؟
“بالتأكيد.”
أجابها بحزم.
“سنجد لكِ مُعلّمًا هذا الأسبوع. سيُعلّمكِ آداب السلوك وكلّ ذلك، فلا تقلقي كثيرًا.”
“آه …”
“عليكِ تعلّم الأساسيات، في النهاية.”
الأساسيات.
“إذن، ليس لديّ حتى الأساسيات الآن.”
كان من الطبيعي ألّا تعرف آداب مجتمع بريتيا. لكن ما هو ‘طبيعي’ لا يمكن قبوله كعُذر. بصفتها حفيدة الكونت إرنست، كان عليها أن تكون مثالية، أو على الأقل غير مُخزية.
شعرت الآن أن معدتها تثور. ليس فقط عسر هضم، بل قد تتقيّأ. وضعت شوكتها وسكينها بحرص وحدّقت في الطبق نصف المكتمل.
“أنا … أنا لا أستطيع رفض الذهاب إلى الحفل، أليس كذلك؟”
“ألا تريدين؟”
توقّعت رفضًا فوريًا قاطعًا، لكن الكونت سألها بدلًا من ذلك. دقّ قلبها بقوّة.
‘هل هذا اختبارٌ آخر؟’
حتى لو لم يكن الأمر كذلك، لم تستطع إيري أن تُبدي نوبة غضبٍ طفولية. لذا أجابت بهدوء.
“ليس الأمر أنني لا أريد ذلك.”
أومأ الكونت.
“جميع شخصيات المجتمع البارزة ستكون هناك.”
كما لو أنه يقول: إنها فرصةٌ عظيمةٌ لك.
***
بعد العشاء، توجّه الكونت إرنست مباشرةً إلى مكتبه. ارتشف البراندي وهو يستلم تقرير اليوم المُلخَّص من جريت، خادمه الشخصي العجوز. ورغم أنه وُصف بأنه ‘تقرير’، إلّا أنه كان أشبه بحوارٍ هادئٍ ودافئٍ مع شخصٍ خدمه لعقود.
تحدّث جريت براحة.
“أخيرًا، ردّت السيدة بونز بإيجابيةٍ بشأن مرافقة الآنسة إيري.”
“كنتُ أعتقد أنها ستفعل. السيدة بونز جديرةٌ بالثقة. لكن إيري …”
مسح الكونت إرنست شاربه ثم توقّف عن الكلام. هو أيضًا شعر أن إيري لم تكن سعيدةً بالحفل. لم يُرِد أن يُجبر حفيدته على شيءٍ لا تريده، لكن هذه المرّة، لم يستطع التراجع.
“إنها طقوس عبورٍ ستواجهها في النهاية كظهورٍ أوّل. من الأفضل أن يكون ذلك في مناسبةٍ رسميةٍ هادفةٍ كهذه. بهذه الطريقة، لن تكون محطّ الأنظار.”
كان هذا هو المنطق العملي. كان يحاول حقًا أن يتفهّم مقدار الضغط الذي تشعر به حفيدته. وفي هذا السياق، كانت حفلة النصر نعمةٌ مُقنِعة.
فهم جريت نيّة سيده. ومع ذلك، فكّر سرًّا أن الكونت يستطيع التعبير عن مشاعره تجاه إيري أكثر.
لو أنه شرح كلّ هذا للآنسة إيري الليلة، فكّر، لما بدت وكأنها على وشك التقيّؤ.
“سيكون هناك العديد من الرجال العائدين من الحرب بشرف.”
“مثل السير لورانز برينغر؟”
حتى جريت كان فضوليًا بشأن البطل المزعوم. في آخر زيارةٍ للأمير فيليكس، لم يره إلّا لمحةً سريعة.
شخصيًا، كان لورانز برينغر أكثر أناقةً ورُقيًّا مما يبدو عليه في الصحف والمجلات والملصقات. حتى أن جريت وجد نفسه يفكّر بينه وبين نفسه مُحرجًا
‘لو أن للسير لورانز والآنسة إيري ابنة، لكانت ملاكًا …’
“قد يبدو الأمير فيليكس زير نساء، لكنه انتقائيٌّ جدًا في اختيار أصدقائه. بعد التحدّث معه، أنا متأكّدٌ من أن الشائعات حول بحثه عن عروسٍ للورانز برينغر ليست بلا أساس.”
“سمعتُ أن العديد من الشابات قد رُفِضن بالفعل.”
“ستكون إيري خاصتنا مختلفة.”
تمتم الكونت إرنست بثقة.
“انظر فقط إلى ما حدث هذا المساء.”
“أجل، سيدي.”
“من الواضح أنها اختبرتني، لأنها كانت تعلم أنني أكره والدتها. ووفقًا للمحامي جونسون، فقد رفضت في البداية المجيء إلى هنا تحديدًا بسبب تلك المرأة. فتاةٌ عنيدة.”
نقر لسانه رافضًا، لكن عينيه الخضراوين اللامعتين لمعتا بفخر.
“لديها شجاعة.”
“نعم.”
“ولم تكن التوصية من مدرستها سوى الكثير من مديح. قالوا إنها ذك
يةٌ جدًا.”
“نعم، بالفعل.”
“إنها صورةٌ طبق الأصل من ابني يوريو.”
أدار الكونت إرنست كأسه بنظرة رضا، وأعلن كما لو كان يأخذ عهدًا.
“سأجِدُ لها الخاطب المثالي.”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "13"