كانت مدينة بولن، موطن الكونت إرنست والعديد من العائلات النبيلة الأخرى، مزدهرةٌ وكثيفة السكان لدرجة أنها كانت تُسمّى غالبًا ‘العاصمة الثانية’.
وكان شارع دولبيش، المليء بالمتاجر الفاخرة، وجهةً لا غنى عنها حتى لأفخم سيدات العاصمة. يُقال إن صيحات الموضة الحقيقية بدأت في شارع دولبيش.
كانن البجعة البيضاء تقع في ضواحي المدينة، لذا استغرق الوصول إلى شارع دولبيش حوالي ثلاثين دقيقة بالعربة.
خلال الرحلة، عرّفت جينجر إيري على بعض الأماكن التي سيزورانها.
“يشتهر متجر دوسنتا باستيراد الأقمشة المستوردة أسرع من أيّ متجرٍ آخر في البلاد. والسبب هو-“
“لكن بولن ليست مدينةً ساحلية. كيف يُمكنهم الحصول على البضائع المستوردة بهذه السرعة؟”
وجدت إيري، وهي فتاةٌ من مدينةٍ ساحلية، هذا الأمر غريبًا.
“لطالما كانت دوسينتا شركةً عائليةً لثلاثة أجيال. والدة المالِك الحالي، المتقاعدة الآن، كان لها حبيبٌ شابٌّ كان بحّارًا على متن سفينةٍ تجاريةٍ عندما كانت أصغر سنًا.”
أشارت إيري برأسها لها لتكمل وعيناها تلمعان، وهي تستشعر رائحة الرومانسية.
“هممم.”
“كلّما عاد من رحلاتٍ طويلة، كان يُحضِر لها الكثير من الهدايا. في ذلك الوقت، كانت الواردات نادرةٌ جدًا. بدأت السيدة، التي تتمتّع بحسٍّ تجاريٍّ ومعارف، تطلب منه إحضار بعض الأشياء الإضافية لبيعها لأصدقائها، بسعرٍ أعلى قليلاً.”
انغمست إيري تمامًا في قصّة امرأةٍ من المدينة وبحّارٍ من البحر. انتصر الحب، وكسبت الثروة، فأيّ قصّةٍ أكثر مثاليةً من هذه؟
“قصص النجاح مؤثّرة. تكاثرت متاجر مثل دوسينتا، وشكّلت في النهاية ما يُعرَف الآن بطريق دولبيش.”
ربما لهذا السبب؟
بدا أن طريق دولبيش يحمل في الهواء رائحة المحيط المالحة. رفرفت في كلّ مكانٍ أعلامٌ بيضاء وزرقاء، رمز البحّارة. بدا أن الكثير من الناس هنا تربطهم صلاتٌ بالبحّارة أو البحرية، ممّا منح إيري شعورًا غريبًا بالراحة والحنين إلى الوطن.
كانوا قد حجزوا طاولةً في دوسنتا أولًا، وتجوّلوا في بعض المتاجر الأخرى بخفّةٍ قبل أن يتجوّلوا في الشارع حاملين آيس كريم خفيف.
عندها كادت جينجر أن تصطدم برجلٍ يرتدي زيًّا بحريًا.
“آه، أنا آسفٌ جدًا.”
اعتذر الرجل بأدبٍ وواصل طريقه. راقبت إيري ظهره بتفكيرٍ وهمست.
“ماذا كان يفعل لورانز برينغر في بولن؟ أليس من العاصمة؟”
تلعثمت جينجر، كما لو أن مجرّد ذكر اسم بطلها شرفٌ لها.
“أعتقد أنني سمعتُ أنه يبحث عن منزلٍ هنا.”
“لكن … لديه واحدٌ بالفعل في العاصمة، أليس كذلك؟”
” منزل عائلته في العاصمة، لكنه كان يسكن عادةً في مساكن الأكاديمية البحرية.”
لذا كان يفكّر في الانتقال بمفرده الآن، ولكن حتى مع هذه الإجابة، لم يتم إشباع فضول إيري تمامًا.
‘ألن يكون من المنطقي أكثر شراء منزلٍ في العاصمة، حيث تعيش عائلته؟’
ولكونها قريبةٌ من عائلتها، لم تستطع فهم سبب انتقال لورانز عمدًا إلى مكانٍ بعيد. لكن في النهاية، لم يكن الأمر بحاجةٍ للتفكير فيه. تناولت إيري الآيس كريم وضيّقت عينيها مازحةً.
“جينجر، يبدو أنكِ تعرفين الكثير عن لورانز برينغر~”
“لـ لقد قرأتُ الصحف فقط …”
“همم~ ليست مجلّات ثرثرة؟”
“أوه، هيّا الآن يا آنسة …”
لكنها لم تُنكِر ذلك تمامًا.
ابتسمت إيري ابتسامةً خبيثةً وربّتت على كتف جينجر. كانت تأمل أن تتعلّم خادمتها تمييز الرجل المحترم من دونه.
***
السيدة دوسنتا، على الرغم من لقب ‘سيدة’، إلّا أنها كانت تتمتّع بسحرٍ طفوليٍّ واضح. مع أنها في الأربعينيات من عمرها، بدت وكأنها في أوائل الثلاثينيات، مُعبِّرة، مُشرِقة، ومرحة.
“أود أن أطلب بعض الفساتين الربيعية والصيفية.”
“لقد وصلتِ إلى المكان الصحيح! بكم تفكّرين بالضبط؟”
“سأُلقي نظرةً أولاً.”
وهذا يعني: إذا أعجبها، فقد تطلب العشرات.
رمشت جينجر بصدمةٍ من ردّ إيري الجريء.
كانت إيري جادّةً للغاية. اليوم، كانت تخطط لصرف المال ببذخ. كان الكونت إرنست قد قال بالفعل إنها تستطيع فعل ما تشاء بالأثاث والملابس، وأن المال ليس مشكلة، حتى لو كان مَن مرّر هذا الكلام الخادم الشخصي.
تم إرشاد إيري إلى الغرفة الخلفية.
كانت الفساتين مرتّبةً ببراعة، كلٌّ منها بنسيجٍ فريدٍ ومُلفِت. تميل الفساتين الربيعية والصيفية إلى أن تكون أكثر بهرجة، لكن السجادة ذات اللون الطحلبي الداكن أضفت على المتجر هدوءًا فاخرًا.
أخذت وقتها في تصفّح الكتالوج. لم تكن متأكّدةً ممّا هو رائجٌ أو ما يناسبها، فتردّدت في البداية، لكن السيدة قدّمت لها نصيحةً لطيفةً ما وصادقة. الآن فهمت إيري سبب توصية جينجر القوية بهذا المكان.
انتهى بها الأمر باختيار خمسة فساتين ربيعية وخمسةٍ صيفية، جميعها فاخرةٌ بكلّ وضوح.
“أعتمد عليكِ.”
“سأبذلُ قصارى جهدي. بالطبع.”
“وأودّ أيضًا أن أرى بعض ملابس النوم الداخلية.”
تظاهرت السيدة بالدهشة، ثم ابتسمت ابتسامة تاجرٍ متمرّس.
“بالتأكيد. سأُحضِر بعضًا من أشهر أقمشتنا.”
أشارت إلى موظّفةٍ كانت واقفة. وبينما أسرعت الموظفة إلى غرفةٍ أخرى، قالت السيدة إنها ستُحضر المزيد من الشاي، فوجدت نفسها وجهًا لوجهٍ مع رجلٍ يتّجه نحوهما مباشرةً.
“وَيْحي.”
لقد خدمت العديد من الزبائن، لكن نظراته ما زالت تجعلها تلهث. مزيجٌ نادرٌ من القوّة والجاذبية الواثقة والأناقة الراقية. سرعان ما أدركت مَن هو.
“السير لورانز برينغر.”
انحنت قليلًا، كإتيكيتٍ لائقٍ لبطلٍ بحريٍّ ونبيلٍ فارس. لم يُبدِ لورانز أيّ ردّ فعلٍ يُذكَر. مسح الغرفة بنظراته الحادّة، ثم استقرّت على مؤخرة رأس امرأةٍ صغيرةٍ ذي شعرٍ داكن.
“الآنسة إيري إرنست.”
“؟”
رفعت نظرها عن الكتالوج الذي كانت تناقش محتوياته مع جينجر، وها هو ذا. الرجل المعروف بفظاظته.
“…سير لورانز؟”
اتجه لورانز نحو الأريكة التي تجلس عليها إيري. نظر إلى الكتالوج المليء بملابس النوم الحريرية، وعيّنات الأقمشة المتناثرة، ونماذج فساتين الخروج.
“هل أنتِ مهاجرة؟ لقد وصلتِ للتوّ فقط إلى بريتيا.”
هل كان من المفترض أن تكون هذه سخرية؟
أكّدت تلك النبرة الساخرة شكوك إيري. منذ أن عرفته، لطالما كان هكذا.
معاملة جدّها لها كقطعة شطرنجٍ أمرٌ مختلف، على الأقل كان ذلك نابعًا من مشاكل شخصيةٍ وعائلية. لكن رفض لورانز معاملتها كإنسانة؟ لم يكن لديها سببٌ لتحمّل ذلك.
“لا أظن أن هذا يهمّك، سير. وكما تعلم، لم يكن بيننا أيُّ شيءٍ لطيف.”
“آه، نعم. لقد أسأتُ إليكِ.”
تمتم لورانز بصوتٍ خافتٍ وجلس قبالتها بلا مبالاة، واضعًا ساقًا فوق الأخرى. بدت حركته الرشيقة، التي أعقبها إشعاله سيجارة، بارعةً نوعًا ما، وشعرت إيري بالانزعاج من ردّ فعله.
“سيدتي، هل يمكنكِ أن تريني قفّازاتٍ نسائية؟ قفّازاتٍ موسمية.”
“….”
سحب لورانز سيجارته ببطء، غارت وجنتاه. لم يزفر الدخان. في تلك اللحظة، عاد الموظّف بعيّنات القماش وتوقّف، مرتبكًا من توتّر الجو.
كانت جينجر، واينز، وحتى الموظّف الشاب الذي كان يخدم لورانز، جميعهم متجمّدين. فقط السيدة هي مَن استعادت وعيها أولًا.
“هذه أشهر أقمشة ملابس النوم لدينا. إذا اخترتِ ما يعجبكِ، فسأقترح تصميمًا مطابقًا.”
التفتت إلى لورانتس مبتسمةً.
“سأُحضِر قفّازاتٍ أيضًا فورًا. هل تعرف أسلوب المتلقّية الشخصي؟ يمكنني تقديم اقتراحاتٍ أكثر دقّة على إثر ذلك؟”
رفع لورانز غرّته للخلف وأجاب.
“أعتقد أنني أستطيع اختيارها بناءً على الفساتين التي اختارتها الآنسة إرنست اليوم.”
دوي. أغلقت إيري الكتالوج بصوتٍ عالٍ وحدّقت به شِزرًا.
“ماذا تفعل تحديدًا؟”
“أختار هدية، كما ترين.”
“إذا كان الأمر يتعلق بـتلك الحادثة، فلا داعي للقلق. لن أقبلها.”
كان كلّ مَن لم يكن على علم بـ ‘تلك الحادثة’ يفكّر في الأمر بسرعة. تلك الحادثة؟ تلك الحادثة بين رجلٍ وامرأة؟! اتّسعت دائرة خيالهم بسرعة البرق.
“لا أتذكّر أنني قلتُ إن القفّازات لكِ.”
“…إذن هم ليسوا كذلك؟”
“بل هم كذلك.”
انزعجت إيري. كادت أن تقف بانفعال، لكن جينجر ضغطت برفقٍ على ركبتها، وساعدتها على البقاء جالسة.
“أنتَ تسخر مني.”
“حتى لو تكلّمتُ بصدق، فلن تُصدّقيني.”
“دعني أحكم على ذلك بعد سماع صِدقك.”
أطفأ لورانز السيجارة في المنفضة
.
“تلك الحادثة الأخيرة … لم تكن مقصودة.”
“….”
اعتلت على وجه إيري موجة غضبٍ باردة.
“إذن أنتَ تسخر مني بعد كلّ شيء.”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "12"