العطر والملابس.
هذا كلّ ما تحدّث عنه الكونت إرنست أثناء العشاء. بعد ذلك، ساد صمتٌ مُطبِق. على غير عادته من نبيل، أو بوقاحة، في تجاهلٍ لـضيفه، أنهى تناول الطعام بسرعةٍ وغادر الطاولة أولًا.
أُعجِبت إيري بالمأكولات البحرية الطازجة لفترةٍ وجيزة، لكن ذلك لم يدم طويلًا. انهمر عرقٌ باردٌ من إيري كما لو أن السمكة الميتة عادت للحياة فجأةً وهي تتقلّب في معدتها.
“آنسة… هل أنتِ بخير؟”
اقتربت جينجر، المنتبهة دائمًا، بحذرٍ بينما شحبت شفتا إيري، بل ازرقٌتا.
“آه، لا أشعر أنني على ما يرام.”
بقي الكثير من الطعام دون أن تمسّه. شعرت بالحزن.
لم يكن حزنها لعدم إنهائه، بل شعرت بالذنب تجاه الطاهي الذي أعدّ هذه الوجبة الشهية. هذا الشعور بالذنب جعلها تتردّد في الوقوف.
حرّكت إيري يديها تحت الطاولة، ثم سألت بهدوء.
“هل يُمكن … أن يُجهّز الطعام في ما بعد؟”
“معذرةً؟ ليس مستحيلاً، لكن … هل يُمكنني أن أسأل لماذا؟”
“سيكون من المُضيعة رميه. ظننتُ أنه من الجيد إعادة تسخينه للفطور. هل هذا كثير؟”
“سأُخبر الطاهي.”
“شكرًا.”
عندها فقط شعرت إيري بالارتياح الكافي للنهوض. انحنت قليلاً للخادمة التي كانت تُقدِّم الأطباق من الخلف.
“شكرًا لكِ. بفضلكِ، تناولتُ وجبةً مُريحةً.”
“أ-أوه، أجل يا آنسة. شكرًا لكِ.”
بدا على الخادمة الارتباك، كما لو أنها فوجئت.
“أرجوكِ أخبريهم أن الطعام كان لذيذًا حقًا.”
“بالتأكيد!”
شعرت إيري بتحسّنٍ كبير، فغادرت غرفة الطعام بسرعة. لم تُلاحظ البريق الغريب في عيني الخادمة الذي كان يتلألأ خلفها.
***
بينما أغلقت إيري باب غرفتها، أطلقت تنهيدةً عميقةً وطويلة. كان بإمكان أيّ شخصٍ رؤيتها، فقد كانت تعاني من عسر هضم.
وقفت أمام المرآة وأزالت دبوس شعرها. حدّقت بها امرأةٌ ذات شعرٍ مضفّرٍ ومرتّبٍ بعناية. شعرت وكأنها غريبة. تسريحة الشعر الجديدة، والمكياج، والإكسسوارات الصغيرة وإن كانت باهظة الثمن، كان كلّ ذلك غير مألوف.
عندما تركت شعرها منسدلاً، شعرت بالدم يعود إلى فروة رأسها التي لم تكن تعلم حتى أنها متوترة. ثم خلعت أقراطها وقلادتها. وبينما كانت تفتح علبة المجوهرات، طرقت جينجر الباب ودخلت.
“جلبتُ لكِ بعض أدوية الهضم، آنستي.”
“ضعيه على الطاولة فقط.”
“اسمحي لي أن أساعدكِ.”
وضعت جينجر الدواء على الطاولة المستديرة وتحرّكت بسرعةٍ لمساعدة إيري. ولأنها لم تستطع فكّ الأزرار المشدودة بإحكامٍ على ظهرها، سمحت إيري بهدوءٍ لجينجر بالمساعدة.
“شعركِ جميلٌ يا آنسة.”
قالت جينجر وهي تُمرّر يدها بين خصلات شعر إيري الكثيف المخملي. ربما انزلقت في شعرها لا شعوريًا، لأن وجهها احمرّ فور أن نطقت الكلمات. نظرت إيري إليه في المرآة.
“أجل. إنه مصدر فخري الوحيد، شعري الجميل. أوه، وصحّتي الجيدة أيضًا.”
“أرجوكِ لا تقولي هذا. بمجرّد أن تظهر الآنسة في المجتمع، ستحسدكِ النساء الأخريات.”
“لماذا؟”
“عفواً؟”
أخذت إيري الفرشاة من جينجر ونظرت إليها عبر المرآة.
“لأنني سأرثُ ثروةً طائلة؟”
“….”
“بعدها سيتبعني نخبةٌ من الخاطبين؟”
كانت إيري تأمل في إجراء محادثةٍ هادفةٍ مع جدها على العشاء. لكن الكونت إرنست عاملها كضيفة، لا كفردٍ من عائلتها.
لم يسألها عن حالها، أو لماذا قرّرت المجيء، أو ماذا تريد أن تفعل من الآن فصاعدًا. لم يكن أيٌّ من هذه الأمور يهمّها.
لأنه كان بإمكانها أن تسامحه. لكن …
‘لم يسألني عن أبي قط.’
ربما كان بعيدًا عن ابنه، لكن إيري كانت قريبةٌ جدًا من والدها. كان رجلًا لطيفًا يُنادي زوجته ‘حبيبتي’ وإيري ‘جرّة عسلي الصغيرة’. من نوع الرجال الذي يُحضِر إلى المنزل شريطًا تُحبّه إيري، أو يستبدل حذاء والدتها البالي بهدية.
كان لدى إيري الكثير لتقوله عنه. ولو كان جدّها يحب ابنه الأصغر حقًا، لافترضت أنه سيرغب في سماع كلّ كلمةٍ عنه.
لكنه لم يفعل.
‘أنا مجرّد… قطعة شطرنج، استدعاها لأنه لم يستطع تحمّل فكرة انتقال الميراث إلى قريبٍ بعيد.’
عشرون عامًا.
أن تفكّر في أنه قد يرحّب بحفيدةٍ لم يكن يعلم بوجودها منذ تلك الفترة الطويلة، كان ذلك ساذجًا وغطرسةً منها.
‘على الأقل أوضِح الأمر فورًا.’
تخيّلت إيري نفسها ممسكةً بقلبها المتألّم.
‘يمكنني الاستفادة من هذه العائلة أيضًا. لن أتعرّض للأذى بسبب شيءٍ كهذا.’
بعد أن عقدت العزم، تحدّثت إلى جينجر، التي كانت تراقبها باهتمام.
“آسفة. كنتُ حسّاسةً للغاية.”
“…آنسة.”
“على أيّ حال، هل يمكننا الذهاب إلى المدينة غدًا؟”
كخادمةٍ مُخلِصة، أخفت جينجر فضولها وأجابت بأدب.
“بالتأكيد. ماذا عليكِ فعله؟”
“أريد خياطة بعض الفساتين الجديدة.”
بصراحة، أرادت رمي جميع فساتينها الحالية في سلّة المُهمَلات احتجاجًا. لكنها لم تستطع التجوّل في المدينة عارية.
قالت إيري ببرود.
“كما قال الكونت، سأرمي كلّ ما أحضرتُه.”
***
بدأ لورانز يندم على إحضار صديقه واينز إلى المدينة معه.
لو كان الأمر يتعلّق بالذوق، لكان فيليكس رفيقًا أفضل، لكن حتى الأمير المُستهتر يبقى أميرًا. نصحه فيليكس بإرسال شخصٍ ما إذا حدث شيءٌ ما وكان الأمر عاجلًا، لأنه كان مشغولًا بشؤون القصر، وأوصل لورانز إلى منزله.
في رأي لورانز، ‘شراء قفّازاتٍ لامرأةٍ’ لا يُعتَبر أمرًا عاجلًا. لكن بالنسبة لفيليكس قد يكون الأمر مختلفًا، خاصةً لو تبيّن أن تلك ‘المرأة’ هي حفيدة الكونت إرنست، لكان فيليكس قد تخلّى عن كلّ شيءٍ وهرع إليه.
“ماذا، هل غسلتَ عينيكَ في بركةٍ من طين؟ هذه تعطي منظرًا رخيصًا!”
كان واينز، متحمّسًا لسماع شيءٍ ما، يثرثر بلا انقطاع. لم يكن لدى بائع المتجر وقتٌ حتى للشرح أو التوصية بأيّ شيء. بعد أن استسلما تمامًا، وقفا عند الصندوق في ذهول.
“حتى القفازات التي صرخت لأجلها كانت رخيصة.”
“دعني أسألكَ شيئًا واحدًا. هل من المقبول وصف شخصٍ قبيحٍ بأنه قبيح؟”
“؟”
كان لورانز على وشك الإجابة بأنه لا ينبغي الحُكم على الآخرين من خلال مظهرهم. لكن واينز قاطعه وهو يصرّ على أسنانه.
“قد يكون وصف الضفدع بالضفدع دقيقًا من الناحية الواقعية، لكنه لا يزال يبدو هراءً، أليس كذلك؟”
“…”
“هذا ليس تنفيسًا عن الغضب، بل هدية اعتذار. ‘أعتذر عن جعلكِ تشعرين بالسوء، أرجوكِ سامحيني’. هل أنا مخطئ؟”
لم يكن مخطئًا. ولا حتى على الإطلاق. لذا لم يستطع لورانز المجادلة.
انتزع واينز القفّازات المهترئة من يدي لورانز بغطرسة.
“أظهِر بعض الجهد، حتى لو كان بحجم روث الروبيان.”
“كيف انتهى بي المطاف في هذه الفوضى؟”
تأوّه لورانز، وهو يمسح الدم المجازي عن أذنيه.
***
بعد رفض عدّة خيارات، قرّر واينز أن ‘يطمحوا إلى الأفضل’.
بصفته بطلاً بحرياً حائزاً على أوسمةٍ وثروةٍ وسمعةٍ طيبة، ستتضرّر صورة لورانز إذا استمرّ في ارتياد المتاجر الرخيصة.
حسناً.
كان هدف لورانز هو العثور على آنسةٍ نبيلةٍ مناسبة. بتذكّره للمعرض الأخير، أدرك أنه بحاجةٍ إلى تجربةٍ مُباشِرةٍ مع المجتمع الراقي وثقافته.
بعض الأشياء يمكن تعلّمها من خلال الكتب والدراسة، لكن بعضها الآخر لا يمكن تعلّمه إلّا من خلال التجربة.
تقبّل مصيره.
لذا توجّهوا إلى شارع دولبيش، حيث تتجمّع المتاجر الفاخرة.
بذاكرته الحادّة، تذكّر لورانز اسم متجرٍ فاخرٍ ذكرته آنسةٌ من معرض الأسبوع الماضي، وكان ذلك نصرًا صغيرًا.
ولكن عند مقبض باب المتجر اللامع، تردّد واينز.
لكم لورانز ذراع صديقه بقوّة.
“إذا كنتَ ستُصاب بالحرج، فارحل فحسب.”
تمتم واينز بالشتائم، ثم تبعه إلى الداخل.
رنّ الجرس بهدوء، ورحّب بهم موظّفٌ شاب.
“أهلًا وسهلاً.”
“نبحث عن قفّازاتٍ نسائية.”
“بالتأكيد، سيدي.”
اقتيدوا إلى غرفةٍ بالداخل. غطّت سجادةٌ كأعشابٍ رطبةٍ الأرض، وأكملت الأريكة المتينة والأنيقة المكان.
أحضر الموظف الشاي، وألقى نظرةً خاطفةً على لورانز، وبدا أنه عرفه.
وأخيرًا، سأل الموظف بصوتٍ منخفض.
“معذرةً، ولكن … هل أنتَ بطل البحرية …؟”
أومأ لورانز برأسه قليلًا.
” نعم، أنا. لكن لا تُثِر ضجة.”
ارتسمت ابتسامةٌ مشرقةٌ على وجه الموظّف. فرك يده بتوتّرٍ على بنطاله.
“أنا-أنا معجبٌ بكَ حقًا. هل يُمكنني مصافحتك…؟”
“لا.”
أجاب لورانز بابتسامةٍ هادئةٍ لكن مهذّبة.
“أَرِنا القفازات فحسب، حسنًا؟”
“آ-آه، أجل. السيدة تُساعد زبونًا آخر حاليًا، لذا قد تضطرّ لأن تنتظر لمزيدٍ من الوقت.”
أجاب الموظّف بسرعةٍ بعد أن استعاد انتباهه بنبرة لورانز الباردة.
“كم من الوقت ستستغرق؟”
عقد لورانز ساقيه الطويلتين بملل.
“لن يطول الأمر!”
“هذه ليست إجابة.”
“سـ سأذهب لأسأل …”
دخل الموظّف المُرتعب من بابٍ مُقوّسٍ إلى الغرفة المجاورة. سَمِع بعض الأصوات الخارجة من هناك.
“… سأبذلُ قصارى جهدي … بالطبع، بالطبع…”
“… حاولي الحصول على المزيد …”
صوتٌ واضحٌ وقوي، كرائحة العنب الأخضر.
‘هذا
الصوت.’
نهض لورانز، واضعًا يده على فخذه. بدا واينز مذعورًا.
“ما- إلى أين أنتَ ذاهب؟”
“للعثور على زوجتي المستقبلية.”
أجاب لورانز ببرود، وسار نحو الغرفة المجاورة.
تبعه واينز مسرعًا.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "11"