“ماذا؟ ماذا حدث؟”
حالما أُغلِق باب العربة، ضحك فيليكس ضحكةً ساخرةً مازحة. تجاهله لورانز، متظاهرًا بعدم السماع، لكن فيليكس لم يلبث أن نقر على عظمة الساق بإصبع حذائه. عقد لورانز ساقيه منزعجًا.
“كانت هي، أليس كذلك؟ تلك الفتاة التي ذُكِرت في الشائعات؟ ماري … إرنست؟”
“…إيري.”
“إذًا كانت هي. حدث شيءٌ ما بالتأكيد.”
نظرت إيري إرنست إليهما من الشرفة، واكتفى بتحيّتها بأدب. ومع ذلك، من خلال هذا التفاعل البسيط، استشعر فيليكس بالفعل أن شيئًا ما قد حدث بينهما. حدسه الحاد، الغائب عند الحاجة، الحاد عند عدم الفائدة، كان مُثيرًا للغضب حقًا.
“ماذا حدث؟ أخبرني. إنه أمرٌ مَلَكي.”
“كُفّ عن إساءة استخدام سلطتك.”
“أنا لا أسيء استخدامها. أفعل هذا بكَ فقط.”
“هاه، لقد كان فقط … لقد فقدت شيئًا ما.”
لم يستطع لورانز إكمال الجملة. قوله بأنه مَن وجده سيكون مبالغة، فهو لم لوّثه أولًا. لو لم يصل إليه أولاً، كانت الفتاة ستجد القفاز بنفسها، سليمًا.
سحقًا. بينما كان لورانز يصدم جبهته بنافذة العربة من شدّة الإحباط، ألحّ عليه فيليكس.
“فقدت شيئًا ما؟ ماذا ستفقد في منزلها؟”
“لقد أسقطت قفّازها في الحديقة.”
“وأنتَ التقطتَه؟ أنتَ؟”
للأسف، كان فيليكس يعرف لورانز جيدًا. فبعد أن خاضا الحرب معًا، لم يكن هناك الكثير من جوانب شخصيّتهما لم يرياها.
لهذا السبب، على الرغم من تدخّل فيليكس المستمر في مستقبل زواجه، تنهّد لورانز بارتياح، قليلًا. لو كان فيليكس مُعارِضًا لزواجه، لما استطاع لورانز إيقافه.
“على أيّ حال، أدّى ذلك إلى حادثةٍ صغيرة.”
تجاهل لورانز ما حدث عمدًا ورفض الخوض في تفاصيلٍ أكثر.
دمدم فيليكس، وتذمّر، ثم استسلم في النهاية، وبدأ في حديثٍ مطوّلٍ عن نقاشه مع الكونت إرنست بشأن تطوير منجمٍ في جزيرة موتور.
استمع لورانز بانشغالٍ كافٍ، ويومئ برأسه من حينٍ لآخر، حتى توقّف فيليكس أخيرًا. في تلك اللحظة، تحدث لورانز.
“لماذا ‘إرنست’؟”
“هاه؟”
“لقد ذكرتَ عائلة إرنست عند مناقشة احتمالات زواجي.”
وراء عزبة الكونت، امتدّ أمامهم سهلٌ شاسع. بدا رتيبًا للوهلة الأولى، ولكن عند التدقيق، كانت الأرض متغيّرةً باستمرار، تعكس تقلّبات الطبيعة. في المقابل، ظلّ وجه لورانز باردًا وقاسيًا كالزجاج.
ألقى فيليكس نظرةً خاطفةً على تعبير صديقه قبل أن يعقد ساقيه.
“حسنًا… لأسبابٍ عمليّةٍ بحتة.”
“لنستمع إليهم.”
“أولًا، لن تقبل أيّ عائلة دوقٍ أو ماركيزٍ بصهرٍ من عامة الشعب، حتى لو انشقّت السماء.”
“صحيح.”
وافق لورانز دون تردّد.
عدّل فيليكس الشروط واحدًا تلو الآخر على أصابعه.
“لذا، أفضل ما يمكن أن تأمّله هو عائلة كونت؛ عائلةٌ عريقةٌ ذات جذورٍ راسخة.”
عائلةٌ ‘عريقة’ تعني أنهم لم يشتروا لقبهم بالمال.
“عائلةٌ ثرية.”
إذا كانت المرأة التي تزوّجها لورانز تمتلك ميراثًا كبيرًا، فهذا أفضل.
“عائلةٌ لا تحتقر البحرية.”
من بين الفروع العسكرية، كان ضباط البحرية الأقل حظًّا كأصهار، فبمجرّد إبحارهم، لا أحد يعلم متى سيعودون.
“وعائلةٌ تُقدِّر الشرف على السُلطة.”
لا يزال العديد من الكونتات يسعون إلى رفع مكانتهم بالزواج من أحد أفراد أسرة ماركيز أو دوق. هؤلاء لن يفكّروا في لورانز. كان لديه بعض المال، ليس كثيرًا بمعايير النبلاء، ولكنه لا يتعدّى لقب فارسٍ ليقدّمه.
“وهذا ينطبق على الكونت إرنست.”
“…أرى.”
انحنى فيليكس إلى الأمام، خالقًا جوًّا من التآمر رغم أنهما كانا بمفردهما.
“لماذا؟ هل تفكّر في الأمر؟ مما رأيتُه، تلك الفتاة-“
“جميلة.”
“أجل. بصراحة، فاتنة. إذا كانت بارزةً إلى هذا الحد من تلك المسافة … انتظر، متى ستكون المأدبة التالية؟”
بينما تمتم فيليكس في نفسه، كان لورانز غارقًا في أفكاره.
شعرها، أسودٌ لامعٌ كحبّات التوت الأزرق المنقوعة في الماء. عيناها المتّقدتان بالذكاء.
“أنا فقط … أشعر بالبُؤس.”
عينان تلمعان بدموعٍ لم تُذرَف.
بالنسبة لشخصٍ كان مستقبله مضمونًا تقريبًا، ما الذي يمكن أن يجعلها بهذا البُؤس؟
لو كانت قد ظهرت لأوّل مرّةٍ في المجتمع الراقي، لربما كان قد فهم. من المرجّح أن بنات النبلاء كُنّ سينظرن إليها بازدراء. لكن ألم يكن في هذا الوقت لأن تحلم أحلامًا كبيرة؟ لقد عُدِّل القانون قبل بضع سنواتٍ للسماح للنساء بوراثة الممتلكات، مما يعني أن ثروة الكونت إرنست الطائلة ستكون مِلكًا لها.
نقر لورانز بلسانه. ما الفائدة من فهمها؟
لا يمكن استرجاع الماء المسكوب، تمامًا كما لا يمكنه التراجع عما فعله بقفّازها القماشي الثمين. صحيحٌ أنها أساءت فهم نواياه، لكن لورانز لم يكن على استعدادٍ لإذلال نفسه بمحاولة تصحيح سوء الفهم هذا.
كان لدى لورانز أهدافٌ أكبر في المستقبل. عاجلًا أم آجلًا، ستظهر فرصٌ أفضل من حفيدة الكونت إرنست.
‘…مع أن العثور على امرأةٍ أجمل قد يكون صعبًا.’
بابتسامةٍ مريرة، حرّك ساقيه ونظر من النافذة.
***
بعد اللقاء غير المريح مع ضيف الكونت إرنست، انزوت إيري في غرفتها. فكّرت في إصلاح القفّاز بنفسها، لكن مهاراتها في الخياطة لم تكن كافية. من الأفضل ترك الأمر لخبيرٍ بدلًا من تفاقم سوءه.
في الرابعة عصرًا، عادت جينجر.
“سأساعدكِ في الاستعداد، آنستي.”
بعد ساعة، ستتناول أوّل وجبةٍ لها مع الكونت إرنست. في البداية، تساءلت لماذا سيستغرق التحضير ساعةٌ كاملة، لكن عند وصولها إلى غرفة الطعام، شعرت بالامتنان لجينجر.
“… هذا مُبالَغٌ فيه بعض الشيء.”
لم تستطع قولها بصوتٍ عالٍ، لكن الإسراف المُفرِط غمرها.
القطعة المركزية المُزخرفة، والشمعدانات المُذهّبة، والمقبّلات المُقدّمة بإتقان، لم ترَ مثل هذه الأشياء في الصحف من قبل. ففي النهاية، لا تنشر الصحف صورًا لمآدب النبلاء. لن يكون هذا الأمر مفاجئًا للأرستقراطيين، ولن يؤدّي إلّا إلى تأجيج الاستياء أو الشعور بالنقص بين عامة الناس.
“… مساء الخير، كونت.”
علاوةً على ذلك، وصل الكونت إرنست قبلها. عادةً ما يكون ربّ المنزل آخر مَن يظهر، ولكن بصفته المُضيف، كان من المنطقي أن يكون هو الموجود أولاً.
‘هل يعني هذا أنني مجرّد ضيفةٍ في هذا المنزل؟ لستُ من العائلة؟’
أدركت إيري أنها تُبالِغ في تحليلاتها، لكنها لم تستطع منع أفكارها من التفاقم.
“نعم. اجلسي.”
جلس الكونت على المقعد الأمامي، وجلست إيري مائلةً أمامه.
أحضرت الخادمات الطعام. تذكّرت إيري بعنايةٍ آداب المائدة التي حفظتها على عجلٍ أثناء رحلة العربة، وهي تتعامل مع أدواتها بعناية.
ليس الكونت فقط، بل حتى الخدم بدا وكأنهم يراقبون كلّ حركةٍ لها. شعرت بالاختناق، كما لو كانت تُقيَّم مع كلّ فعل.
“هل استرحتِ جيدًا؟”
“نعم.”
“هل أعجبتكِ غرفتكِ؟”
“إنها واسعةٌ وجميلةٌ جدًا.”
“سمعتُ أنكِ استكشفتِ البجعة البيضاء ظهر اليوم.”
علّق الكونت وهو يقطع محارةً كبيرةً وقاسية.
تساءلت إيري إن كان يبحث عن معلوماتٍ حول لقائها مع لورانز. بالطبع، لم تكن ماهرةً بما يكفي لقراءة أفكار كونتٍ عجوزٍ حكم الطبقة الراقية يومًا ما.
أجابت بثقةٍ وغموض.
“كانت واسعةً جدًا بحيث لم أستطع رؤيتها بالكامل. تجوّلتُ في حديقة الورود ونصف الحديقة الرئيسية.”
“العطر المصنوع من ورودنا شائعٌ جدًا بين الشابات. يصطفّ الناس لشرائه، أليس كذلك، جريت؟”
“هذا صحيح، سيدي.”
فجأة، دخل الكونت في نقاشٍ طويلٍ حول عطور الورد وزيوته وصابونه، وكيف تنافست الممثلات الشهيرات والمغنيات الرئيسيات على فرصة الترويج لها.
بصراحة، شعرت وكأنها حكايةٌ من عالمٍ آخر.
لم تُبدِ إيري أيّ اهتمام، لكنها أومأت برأسها موافقةً وهي تُعجَب في داخلها بنضارة المأكولات البحرية.
“بالنسبة لشخصٍ من مدينةٍ ساحلية، الجودة مُذهِلة.”
“إذا أردتِ، يُمكنني إرسال الكثير لكِ.”
“عفواً؟”
إيري، التي كانت تُومئ برأسها بإيقاعٍ مُنتظم، فزعَت ونظرت للأعلى. كان الكونت إرنست يُراقبها بعينين جامدتين كحبّات اللوز.
ثم تكلّم مُجدّداً.
“وملابسكِ…”
جلى حلقه متردّدًا.
“هل كلّ الملابس التي أحضرتِها هكذا؟”
تيبّست إيري. كان صوته واضحاً؛ لم يُعجبه.
معظم الفساتين التي أحضرتها كانت تُحبّها وترتديها منذ زمنٍ طويل.
“نعم. جميعها مُتشابهةٌ في الأسلوب.”
هذا يع
ني … أن لديها حوالي ثلاثةٌ إجمالاً.
أظلم وجه الكونت.
“ارمِيهم جميعاً.”
“….”
عند هذه الجملة، شعرت إيري وكأن ألف نارٍ تشتعل في داخلها.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "10"