لم تكن إيري أبيل فتاةٌ عاديةٌ يمكن رؤيتها في ريف غينيس، كانت جميلةً بملامح بارزة، بشعرٍ أسود غامقٍ يلمع كحصاةٍ مبلّلة، وعينين صافيتين. كانت بشرتها ناعمةٌ وأكثر بياضًا من موين التي كانت دائمًا ما تحسدها، بينما كانت موين ترتدي قبعةً كبيرةً لتتفادى شمس الشاطئ الحارقة.
“إنها سيارةٌ سوداء قاتمة… يبدو أنها باهظة الثمن!”
كانت الفتاتان تتحدّثان عن سيارةٍ سوداء ظهرت فجأةً في القرية الهادئة هذا الصباح.
“مَن قال ذلك؟”
“ميلر، صاحب مطحنة الدقيق.”
ضحكت إيري وهي تضرب الماء بأقدامها العارية، متناغمةً مع الأمواج المنعشة.
“هو لم يرَ سيارةً في حياته، كيف يعرف أنها غالية؟”
“كل السيارات غالية! حتى في العاصمة، لا يملكها إلّا الأغنياء.”
“بالضبط! لا معنى لوجود سيارةٍ هنا. ربما رأوا عربةً كبيرةً وظنّوها سيارة… أو أن القصة تشوّهت!”
“لكن الكثيرين رأوها، إنها حقيقية!”
انزعجت موين من شكوك إيري، خاصةً أنها كانت تحبّ ميلر، ولم يعجبها أن إيري تشكّك في كلماته.
ساد صمتٌ مُحرِجٌ لبعض الوقت.
جلست الفتاتان على منشفةٍ ممدودةٍ على الرمال الذهبية، تاركتين رغوة الأمواج تلامس كعبيهما، مستنشقتين الهواء النقي. كانتا قد خرجتا إلى الشاطئ في استراحة الغداء من عملهما في متجر البقالة الفاخر، حيث كان غلاف شطيرتهما مثبّتًا بحجرٍ ثقيل.
“لماذا أتوا إلى هنا؟”
سألت إيري بعد فترة، بينما تبعثرت خصلات شعرها الطويل عندما هبّت رياحٌ قوية.
حدّقت بها موين وهي تجمع شعرها وتربطه بشريطٍ أزرق، مما أبرز أنفها الممشوق وذقنها المدبّب بشكلٍ جذاب. أيّ رجلٍ كان سيقع في حبّها من النظرة الأولى.
لكن إيري تمتمت بملل.
“لا يوجد شيءٌ هنا…”
“…”
“أليس كذلك؟”
“هذا …”
تلعثمت موين، التي كانت منشغلةً بجمال إيري، ثم قالت بسرعة.
“ربما هناك أميرةٌ غير شرعيةٍ مختبئةٌ هنا؟”
“ماذا؟”
“أعني… شيءٌ مثل سرّ ولادةٍ مفاجئ!”
“هاه، لقد قرأتِ الكثير من الروايات الرومانسية.”
على عكس موين الخيالية، كانت إيري واقعية. كانت تحبّ القراءة، لكنها كانت تفضّل المقالات والأوراق البحثية والكتب العلمية أكثر من الروايات.
احمرّت موين خجلاً.
“لكن لو حدث شيءٌ كهذا… سيكون ممتعًا!”
“نعم، طالما لستُ أنا المَعنيّة.”
“لماذا؟”
“تخيّلي أن يأتي رجلٌ نبيلٌ فجأةً ويقول إنني أميرة، ويطلب مني الذهاب إلى القصر… دون أن يُسمَح لي بأخذ والديّ!”
كان هذا كابوسًا لإيري. بعد وفاة والدها قبل عامين، عاشت مع أمها في حياةٍ بسيطة، لكنها أحبّتهما كثيرًا ولم تشعر باستياءٍ كبيرٍ من حياتها. كانت طفلةً قنوعة، مثل والديها، وكانت سعيدةً حتى لو وجدت نبتةً نادرةً ذات أربع أوراق.
“ليس الجميع محظوظٌ مثلكِ بعلاقةٍ جيدةٍ مع والدته.”
“آه …”
تنهّدت إيري عندما زمّت موين شفتيها.
“آسفة، أنا فقط …”
“لا بأس. لكن لو كنتُ مكانكِ، لتركتُ أمي وذهبتُ إلى القصر!”
“موين!”
“أنتِ مختلفة.”
أدركت إيري أن موين لم تتأثّر كثيرًا، فأومأت بحذر.
“صحيح. خاصّةً إذا لم يُسمَح لي بأخذ والديّ… ربما كنتُ سأصفع ذلك النبيل!”
***
عندما عادت الفتاتان إلى متجر البقالة بعد استراحة غداءٍ ممتعة، أخبرهما صاحب المتجر أن عليها العودة إلى المنزل.
“السيدة أبيل تبحث عنكِ.”
“أمي؟!”
تغيّر لون وجه إيري، فطمأنها صاحب المتجر.
“قالت إنها بخير. هناك ضيفٌ جاء من بعيد.”
“اذهبي بسرعة!”
همست موين بحماس، لأن الزوّار الغرباء كانوا نادرين في ريف غينيس.
“أراكِ غدًا، موين.”
“نعم، إيري.”
خلعت إيري مريلة العمل وهرعت إلى المنزل. لم تكن تملك مالًا حتى لاستئجار عربة، لذا استغرق المشي إلى منزلها مورنينغ غلوري الواقع على التلّة نحو أربعين دقيقة.
كان مورنينغ غلوري منزل عائلة أبيل، سُمِّي بذلك لأن والدها أحبّ زهور مورنينغ غلوري التي تزيّنت بها نوافذ منزله القديم. حتى أن نافذة غرفة إيري كانت مزيّنةً بأصيصٍ من هذه الزهور.
عندما صعدت التلّة، رأت المنزل من بعيد، لكن اليوم كان مختلفًا. كان هناك شيءٌ غريبٌ يخترق المشهد الريفي الهادئ، كأنه بقعة حبرٍ سوداء لوّثت لوحةً ريفية.
سيارةٌ سوداء قاتمةٌ واقفةٌ أمام المنزل.
“…”
توقّفت إيري فجأة، وتذكّرت حديثها مع موين على الشاطئ.
“شيءٌ مثل سرّ ولادةٍ مفاجئ!”
هزّت رأسها محاولةً طرد الفكرة.
“اذهب بعيدًا. .. أيها التفكير الغريب! اذهب!”
لم يكن هناك أيّ دليلٍ على ذلك، لكن قلبها بدأ يخفق بقوّة.
أحيانًا، تتغلّب الغريزة على المنطق. سيطر عليها شعورٌ غريبٌ بالقلق … والترقّب.
“ربما… وجدوا أبي؟ اهدئي، إيري أبيل.”
لم يعثر الجيش على جثّة والدها، لذا كانت تُمسِك سرًّا بأمل أنه ربما كان مفقودًا وليس ميتًا.
أخذت نفسًا عميقًا وفتحت الباب.
“لقد عُدت.”
عندما دخلت، رأت أمها جالسةً في المطبخ مقابل رجلٍ وسيمٍ ذو شعرٍ رمادي.
“إيري، تعالي. هذا هو…”
دفع الرجل الكرسي للخلف ووقف، ثم انحنى لها باحترام.
“أنا جونسون، محامي الكونت إرنست.”
“…”
“آنسة إيري… لقد أتيتُ لأخذكِ.”
***
استقام الأمير الذي كان مستلقيًا على كرسيٍّ أزرق فاتح حريريٍّ فجأة، وكأنه أدرك شيئًا، ثم صفع فخذه.
“لستَ خصيًّا، أليس كذلك؟”
“…”
“الصمت يعني نعم—”
“لا يستحق الرد.”
ضحك الأمير فيليكس، الأمير الثاني لمملكة بريتيا، مستمتعًا بالمزحة بينما أشعل سيجارته.
“ستكون خسارةً للمجتمع لو كان مركزكَ الجميل غير فعّال!”
“كأنكَ تتحدّث عن مُلكيةٍ عامّة!”
كان لورانز مستلقيًا على كرسيه المقابل، ينفث الدخان كأنه مدخنة. برزت ملامحه القوية والرجولية، جبهته العريضة، وأنفه الحاد، في الضوء الخافت. استراحت ساقاه الطويلتان، اللتان لا تزالان ترتديان حذاءً لامعًا، على الطاولة المنخفضة، وكاحليه متقاطعين. لولا السيجارة، لبدا كأنه نائم.
تنهّد فيليكس بشكلٍ درامي.
“يمكنكَ أن تكون مُلكيّةً عامّة… أنتَ تستحق ذلك!”
“…”
“الصمت—”
“اصمت، فيليكس.”
“يالوقاحتك! لورانز برينغر، أتعتقد أن لقب الفارس يجعلكَ تتطاول علي؟”
“نعم، سمو الأمير. لذا أرجوكَ اعدمني.”
ضحك فيليكس وهو يحرّك الدخان بيده.
“لا يمكنني قتل الصديق الذي أنقذ حياتي.”
لقد حصل لورانز على مكانه بجانب الأمير بفضل جدارته.
فقد كان بطلًا في حرب غينيس-ليڤروت، وقائد الانتصار العظيم في معركة ميسيسيني البحرية، كما أنقذ حياة الأمير فيليكس خلال المعركة. قبل ذلك، كانا قد أصبحا صديقين خلال المعارك الصغيرة، لكن بعد أن أصبح فيليكس مدينًا للورانز بحياته، أصبح يعامله كجزءٍ من روحه.
قبل أسبوع، عاد الاثنان إلى الوطن بعد تحقيق هدنةٍ غير محدودةٍ بين غينيس وليڤروت. وكان من الطبيعي أن يُمنَح لورانز لقب فارسٍ كبطلٍ للبحرية.
بفضل مظهره الجذّاب، كان لورانز دائمًا محطّ إعجاب النساء، وأصبح الآن أكثر العزّاب شهرةً في بريتيا.
بالطبع، كشريك علاقاتٍ عابرةٍ وليس زواج … لأنه في النهاية، من عامة الشعب.
رغم أنه بطل، إلّا أن وضعه الاجتماعي لم يكن يسمح له بالزواج من النبلاء.
كان فيليكس مُحبَطًا جدًا من هذا، فهزّ قبضته في الهواء وصرخ.
“سأزوّجكَ بنفسي!”
“….”
“بأروع امرأة!”
تنهّد لورانز وسحب سيجارته بعمقٍ حتى غارت وجنتاه. انزلق رداءه الفضفاض، مُظهِرًا جزءًا من صدره. رغم أن فيليكس كان مَن يتحدّث بوقاحة، إلّا أن لورانز بدا أكثر استهتارًا.
“سأكون ممتنًّا إذا ساعدني سمو الأمير في العثور على زوجة.”
ها هو ذا! يتظاهر بعدم الاهتمام، لكنه لا يرفض العرض.
مخادع! بدأ فيليكس بسرعةٍ في سرد أسماء بنات العائلات النبيلة، ثم أمال رأسه وقال بأسف.
“عائلة إرنست كانت ستكون مثالية … لو كان لديه
م فتاةٌ بدلًا من الأبناء!”
“لديهم ثلاثة أبناء فقط.”
“ثلاثة أبناءٍ ميّتون!”
“مؤسفٌ حقًا.”
“بالفعل.”
ردّ لورانز بلا مبالاة.
“مؤسفٌ للغاية.”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل "1"