1
الشيطان يحكي، والسيدة تنتقم.
حدقت أيانا في القمر المتسلل عبر قضبان زنزانتها.
كانت تلك الليلة ليلة الهلال. لم يكن في الزنزانة مصدر ضوء يُذكر، وكان القمر النحيل وحده، كرمش رموش مغلقة، يسلط خيوطه عليها.
صوت صرير الحديد جذب انتباهها. نظرت إلى معصمها المغلّف بالأصفاد والسلاسل، التي أصدرت صوتًا ثقيلًا وباردًا مع كل حركة.
وجهها، الذي كان يوصف بالبهاء، صار ملطخًا بالتراب، وشعرها الأشقر، الذي كان يثير إعجاب الجميع، صار فوضويًا. يبدو كما لو أن خبير تجميل غير ماهر قصّه، فأصبح قصيرًا على غير انتظام، حتى إن أحد الجانبين أطول من الآخر.
بينما كانت أيانا تحدق في الأصفاد بعينين يابستين، دوّى صدى خطوات على الأرض الصلبة. كان صوت حذاء عسكري يصطدم بالأرض.
ازداد ضوء الممر، وتحركت ظلال رجال. ظهر رجل ذو شعر فضي يحمل مصباحًا.
يبدو في أواخر العشرينات من عمره. رغم وسامته، إلا أن وجهه كان يكسوه برودٌ لا يُثير أي ود، فلا يُمكن القول إن انطباعه لطيف.
قال بصوت منخفض:
“ألن تأكلي؟.”
أمام الزنزانة وُضعت صينية عليها خبز أسود وجراب ماء. لم تلمسه أيانا. كانت شفتاها جافتين.
أعاد الرجل الكلام:
“هل تنوين أن تموتي جوعًا؟.”
صوته منخفض، لا يُقرأ منه شعورٌ بالقلق تجاهها.
رفعت أيانا رأسها بدل الإجابة.
عيونها الزرقاء، التي كانت فاقدة التركيز منذ لحظات، عاد إليها وهج حاد. كانت تحدق فيه كما لو أنها مستعدة للقتل.
قالت بنبرة يلازمها الغضب:
“ترجو أن أموت، أليس كذلك؟ إيريز روسيل.”
لم يُبدِ أي ردة فعل. تابعت بحدة:
“هل جئت لتسخر مني؟ أم كنت تتوقع أن أركع أمامك وأتوسل رحمتك؟.”
كانت أيانا أسيرة. ثيابها مهترئة، وشعرها مقصوص بخشونة، ومظهرها بائس.
كانت تعلم أن حياتها بيد هذا الرجل، ومع ذلك لم تخفِ عداءها. كان هذا آخر ما تبقى من كبريائها. حتى بعد أن انتُزع منها كل شيء، لم يستطيع أحد أن يسلبها كرامتها.
قالت، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة:
“لم أنسك حتى في أحلامي. طوال ثلاثة عشر عامًا، عشت على فكرة كيف سأنتقم منك، أنت الذي جعلت أسرتنا خونة ودمرت نسلنا. وهل تعتقد أنني سأقبل طعامك؟.”
توهجت نار غاضبة في عينيها. وعلى العكس، كانت عيناه باردة تمامًا.
قال إيريز بصوت خالٍ من المشاعر:
“ثلاثة عشر عامًا… كانت طويلة.”
صوته ككتلة حديدية بلا دفء. نظر إليها بلا حراك.
“غدًا، عند المقصلة، ستنتهي هذه العلاقة البغيضة.”
قالت أيانا، وتوترت ملامحها قليلًا. رد إيريز:
“أخافتكِ الآن؟ كنتِ تعتقدين أنكِ ستنجين؟.”
هزت رأسها بصمت، ثم بدأ جسدها يهتز. لكنها لم تكن تبكي.
ضحكت، بصوت متقطع:
“هاهاها… هل تظن أنني أخاف؟ إذا كنت أخاف الموت، لما بدأت الانتقام من الأساس.”
لم تكن كلماتها مجرد تفاخر، بل كانت تنضح بالمرارة والحنق.
“كل ما يؤلمني هو أنني لم أتمكن من قتلك حتى الآن.”
فتح إيريز فمه ليقول شيئًا، لكنه لم ينبس بكلمة. واجهها ببرود، ثم استدار.
صدى خطواته الجافة ملأ الزنزانة، وعندما همّ بالرحيل، نادته أيانا:
“سأسألك سؤالًا واحدًا.”
توقف عن الحركة. امتدت ظلاله على الأرض الطويلة.
“ماذا حدث بفارسي الحارس؟ ذلك الذي يُدعى ديابيل.”
أجاب ببرود:
“هل تقصد الرجل ذي الشعر الأسود؟.”
“نعم.”
“ستعرفين غدًا عند المقصلة.”
ثم غادر إيريز، وغمر الظلام المكان حال اختفاء المصباح.
كان السكون والظلمة ثقيلين. وقفت أيانا مذهولة، ووجهها يختلف عما كان عند مواجهة إيريز.
‘ديابيل… أين هو الآن؟.’
ثلاثة عشر عامًا مرت منذ إبادة أسرتها، ولم تستطع البقاء صامدة إلا بفضل اسمين:
أحدهما: روسيل. أسرة روسيل، التي دمرت أسرتها، كانت سبب غضبها المستمر الذي أعادها للوقوف كل مرة.
والآخر: ديابيل.
ديابيل، الفارس الذي رافقها طيلة ثلاثة عشر عامًا. في ليلة المذبحة، كان سبب نجاتها. وعندما جُلبت إلى هذا المكان، بعد أن باعها أهل زوجها لإيريز، لم يتخل عن حراستها.
قاتل ديابيل كشيطان ضد عشرات الجنود، ولم يتراجع رغم استحالة النصر. جُرح وكاد يسيل دمه بلا توقف، حتى أجبرت أيانا على الاستسلام حفاظًا على حياته.
‘أستسلم، فقط لا تمسوا فارسي.’
كان ديابيل يصرخ باسمها، كوحش، وهي تمشي خلف الجنود بلا أن تلقي النظر خلفها.
الآن، وهي على وشك الموت، ارتسم وجه ديابيل أمامها. شعورها بالاشتياق والقلق تغلب على خوف الموت.
‘لو أستطيع رؤيته مرة واحدة قبل أن أموت…’
أغمضت عينيها بشدة، وهي تفكر فيه.
هل هو بخير؟ هل نجا؟ هل يبحث عني الآن؟.
‘أرجوك… ديابيل، ابق بخير.’
مر وقت طويل، ثم فتحت عينيها ببطء. كان الضوء يتسلل قليلًا، يبدو أن الفجر قد اقترب. شخص ما جاء ليأخذها إلى المقصلة.
اقترب الصوت، وظهر رجل ذو شعر أسود وعينين بنفسجيتين. وجهه وسيم. اقتربت أيانا وألصقت جسدها بالحديد.
“ديابيل!.”
كان حيًا، سالِمًا.
دمعت عيناها وهي تراه. أرادت أن تحتضنه، لكن القضبان كانت بينهما.
“ديابيل، نجوت… ظننت أنك ميت…! كيف أتيت إلى هنا؟.”
ابتسم بصبر:
“لأنني فارسك، عليّ أن أكون حيث تكونين، سيدتي أيانا.”
كان يلبس رداءً أحمر فوق زيه العسكري، ويسير ببطء.
لكن شيئًا أغضب أيانا، شعور غريب.
كان ينبغي أن يكون عليه آثار المعارك، لكن لا أثر للجروح، ولا تعب على وجهه، وملابسه جديدة كأنه ارتداها للتو.
حتى من الظلام، ابتسم لها. كان يجب أن يفتح الباب، أو على الأقل يتظاهر بذلك، لكنه لم يفعل.
قالت وهي تحاول كبح شعورها بالقلق:
“ديابيل… افتح هذا الباب فورًا.”
لكنه اكتفى بابتسامة لطيفة ويده وراء ظهره. سألها بهدوء:
“هل تنوين الهرب؟.”
ارتجفت أصواتها وهي تفتح فمها:
“ألم تأت لإنقاذي؟.”
أجاب بصوت واثق:
“جئت لأعرض عليك صفقة.”
“صفقة؟.”
أيانا حاولت إخفاء قلقها، لكنه ظل هادئًا.
“هل تتذكرين تلك المسرحية التي شاهدتيها؟ عن شاب وفتاة من أسرتين عدوّتين؟.”
“…”
لم تجب، لكنها تذكرتها.
قال مبتسمًا:
“ماذا لو اختارت البطلة خيارًا آخر؟ ماذا لو غيرت مسار القصة؟.”
“لو فعلت، هل كانت ستنجح في الانتقام؟.”
ثم نظر إليها بعينين كخمر قديم، تقول: “إن قبلتِ عقدي، سأمنحكِ فرصة أخرى، لتعيدي كل شيء وتبدأي من جديد.”
مد يده من بين القضبان، ونظرت أيانا إليه بدهشة.
فرصة… هذه الكلمة خنقتها للحظة.
لم تفرح، لم تمتد يدها، بل كانت تحدق فيه بعيون مملوءة بالكراهية كما نظرت إلى إيريز.
“ديابيل… هل انضممت إلى روسيل؟.”
“…”
“هل جئت لتقنعني إذًا؟.”
“لا.”
“توقف عن الكلام الفارغ! إن كنت ما زلت فارسي المخلص، افتح الباب الآن وأخرجني!.”
قال بصوت حازم:
“الفجر سيطلع قريبًا، ولن يكون هناك وقت للحديث حينها، وستصعدين إلى المقصلة، ولن أستطيع حينها مساعدتكِ.”
عضت أيانا شفتيها حتى نزف الدم، ثم رفعت ذراعيها بإحكام وأمسكت يده.
نظرت إليه بعينين يخترقهما الغضب والخيانة.
“أوافق على الصفقة. حتى لو خدعتني، إن استطعت تدمير عائلة روسيل…!.”
ابتسم ديابيل، وكأنه يستمتع بذلك، ثم جثا على ركبة واحدة وقبل يدها.
شعرت أيانا بألم شديد ودوار قوي، ووقعت لكنها تمسك بيده بإحكام.
مع اشتداد شمس الصباح، بدأت أفكارها تتلاشى، وقبل أن تفقد وعيها نهائيًا، سمعته يقول:
“آمل أن تكون القصة القادمة هي النهاية التي ترغبين بها، سيدتي.”
التعليقات لهذا الفصل " 1"