الفصل الثامن: إيروس وثاناتوس (3)
في العالم، ثمة أشياء تتغير وتبقى على حالها في آن.
استيقظت بيليتا على صوت زقزقة الطيور المرحة.
*الصباح… أليس كذلك؟*
في رؤيتها الضبابية، انعكست نافذة مقابلة.
خلفها، امتدت سماء صافية، كأن الأمطار الغزيرة لم تهطل يومًا.
كانت الطيور تنتقل بين الأغصان بسرعة.
لقد مرّت خمسمئة سنة على الأقل منذ حبسها في اللوحة.
لكن صوت الطيور الذي يحيي الصباح لم يتغير عما كان عليه قبل خمسمئة سنة.
*كم مرة أنجبت تلك الطيور؟*
ربما مرّ أكثر من خمسمئة سنة.
خلالها، أنجبت تلك الطيور مئات الأجيال لتبقى حتى اليوم.
*لطالما نمتُ بعمق.*
لم تكن مهتمة بمعرفة مقدار الزمن الذي مرّ بالضبط
مفاهيم الزمن البشرية تتغير مع التقدم، وتُعدّل باستمرار حسب الحكام.
*آخر تقويم عرفته… كان هيلايد، على ما أعتقد.*
على أي حال، لن تعرف أسماء الحكام.
لو قيل لها إن اليوم هو العام 58 في تقويم كومار، أو العام 210 في تقويم كوبي، فلن يعني ذلك شيئًا عن مدة حبسها.
فالشياطين تعيش آلاف السنين، متجاوزةً تقاويم البشر.
*والأهم من ذلك…*
لم تملك الطاقة أو الرغبة لتتبع زمن بلا معنى.
كانت منهكة جدًا لتتشبث بمثل هذه الأمور.
أدارت عينيها إلى الجانب.
“هم…”
ضمها **سيلفستر** بقوة من خصرها في نومه.
توقفت عيناها على شعره الأشعث.
تذكرت ليلة الأمس.
“آه… أشعر بالجنون…”
***********
“أنت… لنعقد اتفاقًا.”
“…”
“…..”
“اتفاق؟”
“نعم، اتفاق.”
أجابت بيليتا.
ابتسم سيلفستر كوحش.
“أي نوع من الاتفاق؟”
“اتفاق يحقق أمنيتك.”
صمت سيلفستر للحظة.
تردّدت شفتاه
“هل يمكنكِ فعل ذلك؟”
“ألم تسمع عن عقود الشياطين؟”
هزّ رأسه، محتكًا خده بعنقها.
“…”
ساد صمت لفترة.
“إن كان ذلك… ممكنًا حقًا…”
كسر الصمت، وهمس وهو يعانقها:
“إن كان ممكنًا…”
غرق صوته كالبحر.
“أخبريني.”
كان صوته ككهف فقد كل ضوء.
“كيف يمكنني…”
لم ترَ وجهه بسبب الوضعية، لكنها عرفت التعبير الذي يحمله.
كان صوته مشبعًا باليأس.
“كيف يمكنني عقد ذلك الاتفاق؟”
كانت بيليتا تعرف تلك الوجوه اليائسة التي تتوق إلى أمل ضئيل.
لكن، رغم حبها للصدق، لم يعجبها رد فعله.
حدّقت في سيلفستر النائم أمامها.
عبثت بشعره الأشعث أكثر.
كثيرون تمنّوا أمنيات أمامها، لكنها لم تتوقع أن يطلب سيلفستر أمنية كهذه.
مرّرت يدها على جبهته الناعمة، ثم على أنفه البارز، وجفنيه الرقيقين، وشفتيه المنتفختين.
“أما أنا…”
“لا أحتاج شيئًا آخر…”
“أريد أن أكون سعيدًا.”
توقفت يدها.
*أريد أن أكون سعيدًا.* تلك الهمسة الغامضة، وقطرة ساخنة سقطت على كتفها.
لم يكن من الصعب تخمين أنها ليست عرقًا.
*لمَ الدموع؟*
رجل بدا كأن دبوسًا لن يخرج منه دمًا.
بكى دون أن يُظهر وجهه
ارتجف جسده المعانق بضعف.
“آه…”
تذكرت حرارة دموعه، وتنهدت.
شعرت بنبض قلبه تحت يدها.
غرقت في التفكير، ثم غيّرت وضعيتها بعد أن استوعبت ذلك الإحساس.
*حان وقت النهوض.*
كان ذراعه الذي يعانق خصرها أسهل في إزاحته مما توقّعت.
نزعت بيليتا البطانية ونهضت من السرير.
“هم…”
تمتم سيلفستر وهو يتوسد الفراغ.
“إلى أين؟”
جاء صوته الغارق.
“آه… استيقظتَ.”
“إلى أين تذهبين؟”
“للحمام.”
*هل هذا الحمام؟* أجابت بلا مبالاة، وسارت نحو الباب المتهالك.
“آه…”
تمتم سيلفستر: “ظننتكِ ستصيبينني بالذعر، تأخذين أول مرة لي وتهربين.”
*تقول إننا سنعيش معًا، ثم تهربين بعد ليلة واحدة…*
تنهد براحة واستلقى تحت البطانية.
*لستُ زوجتك، كما قلتُ!* ضحكت بيليتا لكنها لم تُجادل، وواصلت خطواتها.
فتحت باب الحمام.
دخلت وأغلقته.
أحبّ ينيها الجميلتين اللتين احتوتاه عند الاستيقاظ.
أحبّ يدها الناعمة التي خنقته، واعترافها أنها لم تُرد قتله.
أحبّ أنها أخذت أول مرة له.
قد يسأله أحدهم: كيف يحمل مشاعر عظيمة لامرأة رآها للتو؟
لكن سيلفستر رآها آلاف المرات.
منذ جلب اللوحة، كانت بيليتا هي كل شيء بالنسبة له.
*لا تعرفين هذا الشعور.*
رأته بيليتا لأول مرة أمس، لكنه لم يرها لأول مرة.
لذلك، عندما رآها تترك الفراش صباحًا، سألها إلى أين تذهب.
بعد أن بكت بجانبه ليلًا، خاف أن تعتبرها ليلة عابرة وتغادر.
**********
*جيد.*
*جيد حقًا.*
هزّت بيليتا شعرها المبلل.
*الماء بارد قليلاً، لكنه منعش.*
لم تعرف متى كانت آخر مرة اغتسلت فيها.
مشطت شعرها المجعد بيدها.
“هل الملابس مريحة؟”
اتكأ سيلفستر على عتبة الباب، مشيرًا بذقنه.
لاحظت بيليتا الأكمام المطوية ثلاث مرات.
أدركت حجمه الحقيقي.
ظنت أنه نحيل رغم طوله، لكنه كان أكبر مما بدا.
*ملابسه تبدو فضفاضة عليّ، لكنها تناسبه تمامًا…*
“نعم، لا بأس.”
طوّت الأكمام مجددًا. نظرت إليه.
قال إنه سيلعب دور الزوج، وبالفعل، أعدّ لها ملابس خلال اغتسالها.
تمتم أنه يعيش بمفرده، فليس لديه ملابس مناسبة، لكن الأكمام الطويلة تناسبها، وطوى الأكمام والسروال لها، ثم اغتسل هو أيضًا.
قال إنه الصيف، فستجف الملابس بسرعة، بعد أن غسل ملابسهما عند الحنفية.
فجأة، قال:
“من الآن فصاعدًا… سأعمل بجد أكثر.”
“على ماذا؟”
“العمل. كانت لديّ ظروف، لكن سأقبل طلبات الرسم بنشاط لأجني المال، لأشتري لكِ ملابس جميلة.”
أضاف: *الآن وقد أصبحتِ هنا.*
“الملابس لا بأس بها.”
“إن لم يستطع الزوج شراء ثوب لزوجته، سيهربون قائلين إنه عاجز.”
*أنا لستُ زوجتك، بل حبيبة!*
*كم رآني ليصرّ على تسميتي زوجته؟ هل يخفي نواياه أم يستفزني؟*
هزّت بيليتا شعرها المبلل مجددًا.
“حسنًا، سأترك الأمر لك.”
تخلّت عن تصحيح اللقب.
*زوجة، حبيبة، أو أيًا كان… يستخدم الألقاب كما يحلو له. فليكن.*
جلست بيليتا مقابل سيلفستر، بينهما طاولة.
“حان وقت بدء الاتفاق.”
“آه، الاتفاق.”
هزّ سيلفستر رأسه.
“ألم نعقده بالأمس؟”
“لا، ليس كذلك. عقود الشياطين ليست كالاتفاقيات البشرية الشفوية.”
“لم أكن أعلم أنكِ تأخذين الأمر بجدية…”
ضحك سيلفستر، محرِّكًا رأسه.
“يجب أن أكون جادة. سيكون هذا آخر اتفاق لي.”
“لمَ؟”
“هناك أسباب… لا داعي أن يعرفها شاب صغير.”
“شاب صغير تفعلين ذلك معه…”
تمتم سيلفستر، كأنه يجد الأمر مضحكًا.
*يا للوقاحة، يعرف كيف يرد!*
“على أي حال، سأبدأ جديًا.”
مدّت يدها على الطاولة، كأنها تطالب بشيء.
فهم سيلفستر الإشارة، ومدّ يده بطاعة.
لحظة إمساكها يده،
فجأة، توهّجت عيناها بالأحمر.
فاضت هالة لا يستطيع البشر تحملها.
بدا وكأن ظلال أجنحة ضخمة ظهرت خلفها.
انفرجت شفتاها الفتّانتان، وخرج صوت شيطاني عميق:
“[انطق بأمنيتك.]”
التعليقات لهذا الفصل " 8"