الفصل الخامس: القدر (2)
كانت تلك أبشع ذكرياتها.
ذكرى لا تُمحى، مهما حاولت نسيانها، تحطيمها، أو محوها من عقلها. ذكرى تقودها إلى الهلاك، لعنة منحها إياها كيسيس.
كم ناضلت لفك هذه اللعنة؟ تذكّرت بيليتا نفسها في الماضي، مختلفة تمامًا عما هي عليه الآن.
“سأقتلك.”
كانت في الماضي محاربة شرسة،
“أتسمعني، كيسيس؟ هل تظن حقًا أنني عاجزة عن الهروب من مثل هذا المكان؟”
متغطرسة مغرورة،
“حسنًا، إن خرجت من هنا، سأمزّق ذلك الوغد راستابان أمام عينيك أولاً!”
مليئة بروح الانتقام.
“ثم ستكون أنت وأتباعه التاليون!”
أولئك الأتباع الذين تجرّأوا على حبس شيطانة عظيمة، بقيادة راستابان وسلطته ، وكيسيس الذي خانها.
لم تستطع بيليتا كبح غضبها الملتهب كالنار.
كل ما كان يشغلها هو الهروب لمعاقبة من سخروا منها.
“استمتع بالوقت الحالي، لأن اليوم الذي أهرب فيه سيعرفكم معنى الشيطان الحقيقي!”
لفترة طويلة، عاشت كالمجنونة.
جرّبت كل محاولة عبثية للهروب من اللوحة.
لماذا عبثية؟ لأن لا شيء نجح.
لا قنابل الطاقة السحرية التي أطلقتها على القرية قبل الحبس، ولا أبسط استخدامات السحر، ولا استدعاء الوحوش.
لم ينفع شيء.
بذلت بيليتا كل جهدها لكسر الحبس.
عندما فشل سحرها، ركلت بجنون، ركضت، وطارت بأجنحتها الثلاثة الضخمة لأيام وشهور.
“اللعنة!”
لكن الحبس الذي صنعه كيسيس وسحر راستابان كان محكمًا، بلا شق واحد.
“اللعنة، اللعنة، اللعنة!”
مهما زادت سرعتها، صرخت، أو تجوّلت في متاهة الزمن لسنوات أو عقود، كان النتيجة واحدة.
لم يكن بإمكانها فعل شيء.
“لمَ تفعل بي هذا؟”
في النهاية، انهارت بيليتا منهكة.
“قل لي، كيسيس!”
عُزلت في فضاء لا نهائي، عاجزة كبشري تافه.
“قلتَ إنك تحبني!”
كانت تلك هي معاناتها.
“قلتَ إنك تحبني!”
شيطانة كانت ذات يوم عظيمة، لكنها جُردت من كل شيء، وحُبست بيد حبيبها.
“كيف استطعتَ أن تجعلني هكذا؟”
عندما نفدت كل السبل، لم يبقَ لها سوى صوتها.
صوت يلعن كيسيس ويهدد بتمزيق أوصال الحاكم.
لكن الشعور بالعجز غمرها.
توقّفت عن البكاء والصراخ، وألِفت الفراغ.
تحوّل غضبها إلى دموع، ثم إلى قلق، ثم إلى خوف ملموس.
تلاشت شخصيتها تدريجيًا، وتآكل عقلها.
ثم سمعته.
“بيليتا.”
منذ تلك اللحظة، بدأت تخاف الموت.
“لمَ تبدين بلا حياة؟”
كان صوتًا ظنت أنها لن تسمعها مجددًا.
رفعت بيليتا عينيها بضعف نحو مصدر الصوت.
ضحكت بسخرية، ونهضت متعثرة، سائرة نحو الرجل.
لكنها توقّفت بعد خطوات قليلة.
أدركت حينها: كما قال كيسيس، كانت “بلا حياة”.
“ما هذا؟”
لم يكن لديها وقت للغضب.
“منذ متى؟”
غمرها الذعر.
متى أصبحت ضعيفة هكذا؟ متى تضاءلت طاقتها السحرية؟
ضحكت بعصبية.
لم تعانِ من مثل هذا الضياع من قبل.
ركبتاها استسلمتا، وانهارت.
تدفّقت الأسئلة، كلها تبدأ بـ”منذ متى”.
متى بدأ سحرها ينفد؟ متى لم تلحظ ذلك؟ متى بدأ البشر ينسونها؟
“يا لكِ من مسكينة…بيلتيا.”
“تبدين بحالة سيئة. هل نرتاح من الرسم اليوم؟”
جلس طيف كيسيس أمامها.
حدّقت فيه بعينين مرتعشتين.
“بيليتا.”
امتلأت عيناها بكيسيس.
تجمدت، نسيت حتى كيف تتنفس.
أظلمت عيناها تدريجيًا، وتدفّق الشر.
ارتجفت شفتاها.
ضحكت بيليتا، وجهها مشوه.
مدّت يدها المرتعشة نحو عنق كيسيس.
*نعم، أنت هنا. أنت السبب.*
الرجل الذي أغرقها بحبٍ ملعون، وأهداها الجحيم.
حبيبها، خائنها، عدوها.
“كيسيس…”
*أريد قتلك. أريد قتلك لخيانتك.*
*أنت الذي ألقيتني في هذا العزل، همستَ بحبك الكاذب، وسرقتَ قوتي.*
*أنت الذي حبستني في عالمٍ بلا أنت…*
“أريد قتلك، كيسيس.”
أخيرًا، لامست يدها عنقه.
ضغطت بقوة.
لكن كيسيس لم يتجنّبها.
لذلك كانت بيليتا بائسة.
“أحبكِ.”
لم تستطع قتله، لأن الحب والكراهية المتبقية فيها منعتها.
“هه.”
الحب أداة مريحة.
“أنت…”
بمجرد أن تحب، تصبح كالكلب، تكشف بطنك وتهز ذيلك.
“كيف استطعتَ…”
حتى لو كرهته، وأردت قتله، فإن كلب الحب يقف في طريقك.
“كيف تجرّأتَ على قول ذلك لي؟”
كلب الحب الذي لا يعرف من يحب، يعض ساقها بدلاً منه.
تقيّدت بيليتا بحبها القديم، رغم علمها أن الرجل أمامها مجرد وهم.
سقطت يدها من عنقه إلى ركبتيها.
كرّرت هذا اليوم كل يوم.
نفد سحرها، دون معرفة السبب.
وضيفها المكروه والمحبوب ظلّ يزورها.
وأصبحت مهمتها اليومية محاولة قتله، دائمًا دون جدوى.
“دعني أقتله.”
ظنت أن لا نهاية أسوأ من هذه، لكنها سقطت في نهاية أعمق.
حياة محدودة، قاسية، متوقعة، جعلتها قشرة فارغة.
فقدت كل شيء، وبقيت غريزة البقاء فقط.
قشرة تنتظر الموت.
“أريد أن أعيش.”
أدركت، وهي تتوق للحياة، أن الشيطانة “بيليتا” لم تعد موجودة.
منذ نسيها الجميع، لم يعد لها تعريف في العالم.
فانعزلت، عن العالم وعن نفسها.
ومرت أزمنة لا نهائية.
**************
*طق.*
لامس شيء بارد جبهتها.
عبست بيليتا.
مرّت ثوانٍ، أو ربما سنوات.
*طق.*
ضربها شيء بارد آخر.
عبست أكثر.
كانت نائمة نومًا عميقًا نادرًا.
*لا تزعجني…*
الشياطين لا تحتاج النوم، لكنها، وهي على وشك الزوال، كانت تغرق فيه غالبًا.
لكن النوم لم يكن هروبًا، إذ كانت أحلامها كالواقع.
لذلك، كان النوم بلا أحلام وقتًا ثمينًا.
ضربها شيء بارد مجددًا.
بدت الهلوسة أكثر وضوحًا.
شيء صغير ينقر جبهتها، يحثّها على الاستيقاظ.
تضخّمت وعيها كفقاعة تصعد من الأعماق.
استيقظت حواسها الخاملة واحدة تلو الأخرى.
سمع أذناها همهمة غريبة.
شعرت بقشعريرة.
تفشّت رائحة ماء مالحة.
وخز قلبها أذنيها.
*كوم، كوم…*
*صوت قلب؟*
في هذا الفضاء الشاسع، كان صوت قلبها هو الوحيد.
حتى كيسيس، الذي تحبه وتكرهه، لم يكن له نبض.
*ما هذا الهراء؟*
أصغت، نصف نائمة.
بين النبضات السريعة، اختلطت أنفاس مرتجفة.
كان صوت حياة بلا شك.
تسلّل الصوت إلى أذنيها من الخارج.
لم يكن هذا إحساسها.
*كأنه حي…*
هلوسة حيّة إلى هذا الحد؟ لقد جنّت بالتأكيد.
لدرجة أنها تختلق ذكريات لم توجد.
لكن ما الجديد في ذلك؟ كانت تعرف مصيرها.
*كيسيس، ستتركني وتختفي مرات ومرات…*
اقترب خوف الكوابيس.
استعدّت للغرق فيه، ورسمت في خيالها المشهد: أصوات مطر لا تتوقف، قطرات باردة تتساقط من سقف متسرب، غرفة ذات عزل رديء، وكيسيس واقف في الهواء الرطب.
عندما تخيّلته، استيقظت آخر حواسها.
عاد وعيها بالكامل.
فتحت بيليتا عينيها ببطء.
لكن الرجل الواقف أمامها لم يكن كيسيس.
كان رجلاً لم تره من قبل، لا في ذكرياتها.
*ما هذا؟*
كان يشبه تجسيدًا لكلمة “كئيب”.
حدّقت فيه بصمت.
شعر أسود كثيف، عينان صفراوان تلمعان، جسد نحيل وأكتاف منحنية.
لم يكن في ذاكرتها.
سقطت قطرة أخرى.
رفعت بيليتا عينيها إلى السقف.
تساقطت القطرة على أنفها، مخلّفة أثرًا خفيفًا.
عندما جفّت على ذقنها، فتح الرجل فمه:
“تعالي إلى هنا.”
صوت خشن، كأنه يخدش حباله الصوتية.
نظرت إليه مجددًا.
مدّ يده بتردد.
*وماذا أفعل؟*
لم تمسك يده.
المسافة بعيدة، ولم تشعر بالحاجة للنهوض.
كل شيء كان غريبًا.
رغم أن حواسها تصرّح أن هذا وهم، لم يكن هناك شيء مألوف.
لا الرجل، ولا المنزل، ولا صوت القلب الغريب.
حدّقت فيه.
أضاف الرجل، كمن يبرر:
“السقف… يتسرّب.”
عبست.
كانت تعرف ذلك.
ما المشكلة في تسرب الماء؟ إنه مجرد وهم سيتلاشى.
*أيها الكاذب.*
كبتت بيليتا سخريتها.
لا حاجة لأن يكون الوهم حيًا لهذه الدرجة.
كان حقيقيًا أكثر من اللازم.
خرج صوتها الصدئ:
“إذن، اقترب أكثر.”
“اقترب؟”
“نعم، أنت بعيد، يدي لا تصلك.”
“آه.”
أطلق الرجل تنهيدة قصيرة، وسار نحوها بخطوات سريعة.
“آسف، لقد… تفاجأت.”
*تفاجأت بماذا؟* مدّ يده اليمنى مجددًا.
“تفاجأت؟”
ضحكت بيليتا بهدوء وأمسكت يده.
أو بالأحرى، تظاهرت بذلك.
فجأة، سقط الرجل إلى الخلف بعنف.
“آه!”
قفزت بيليتا فوقه بسرعة، مثبتة ذراعيه بركبتيها، وأحكمت يديها على عنقه.
امتلأ وجهه بألم فوري.
تحرّكت ذراعاه المقيّدتان.
“ما… هذا…”
ركل برجليه الأرض بالتناوب.
أدركت بيليتا خطأها متأخرة.
“لمَ… تفعلين هذا؟”
كان من السهل إسقاطه، لكنها تصرّفت بتسرّع.
“كرّر.”
“ماذا…؟”
لم تستمع إليه، كانت تنتظر لحظة الانقضاض.
“أفلتيني… أرجوكِ.”
“كرّر ما كنت ستقوله.”
في هلوساتها اللامتناهية، احتاجت إلى يقين.
لم تستطع قتل كيسيس، لكنها يمكن أن تقتل هذا الرجل.
كان ذلك دليل وجودها.
دليل أنها، كشيطانة، تستطيع القتل دون أن تعيقها الذنب أو الحب.
لم يهم إن مات الرجل أو عاش.
لأنها ستفشل في القتل، لكن ليس بسبب أخلاقيات تافهة.
سيختفي الرجل، معلنًا أن هذا وهم، وسيبقى بيليتا “بيليتا”.
لكن أعمتها الرغبة في الإثبات.
لم تنتبه إلى الجملة الحاسمة التي قالها الرجل لحظة هجومها:
“من اللوحة…”
“هذا… يؤلم.”
شدّت قبضتها دون وعي.
برزت عروق عنقه.
شعرت بنبضه تحت يديها.
كان إحساسًا غريبًا، كأنه ليس لها.
“آه…”
كاد الرجل يفقد أنفاسه.
ضعفت حركاته، وامتلأت عيناه بالدماء.
حاول الكلام، لكن عنقه المضغوط منعه.
*آه، هكذا.*
قبل أن تتدحرج عيناه، أفلتت يديها بسرعة.
“كح… كح!”
سعل الرجل بعنف، متلويًا من الألم.
نظرت إليه بيليتا بهدوء.
لم يقاوم.
كانت بلا قوة، وكان بإمكانه رد الهجوم بسهولة لو أراد.
“هه.”
لمَ لم يقاوم؟ لمَ تركها تخنقه، ملحقًا بها هذا الشعور القذر؟
استهجنت تلوّيه.
كان من الأفضل لو قاوم بعنف، أو لكم وجهها.
لكان ذلك يبدّد شعورها باللاواقعية.
*هل هو هادئ بطبعه؟*
لكنها اكتسبت شيئًا.
أدركت أن هذا الواقع حقيقي.
“كح… هذا يؤلم.”
فحص الرجل عنقه، حيث ظهرت علامات حمراء.
لم يحدث هذا في هلوساتها من قبل.
*وهذا الإحساس.*
النبض المنتظم، الدفء، الشعور بالامتلاء بين يديها.
كل شيء كان جديدًا.
مدّت يدها لتلمس عنقه مجددًا.
فتح الرجل شفتيه، وخرج صوت وحشي:
“لا.”
تمتمة خافتة.
للحظة، بدت عيناه كوحش.
خفضت بيليتا ذراعها.
أغلق الرجل عينيه، وابتسم بلطف، مؤكدًا عنقه الحاد.
ثم فتح عينيه، عادتا إلى طبيعتهما.
نظر إليها، وجهه محمر، ودموع نقية تترقرق في عينيه، كأنه لم يتصرف كوحش.
“لن أسمح بهذا مرة ثانية…”
انحنت زاوية فمه، وعيناه الضبابيتان منحنيتان.
ابتسم، رغم خنقها له.
التعليقات لهذا الفصل " 5"