الفصل الرابع: القدر (1)
الحب يجلب الهلاك.
تذكّرت بيليتا تلك الحقيقة.
تذكّرت السماء الزرقاء التي تعبرها السحب البيضاء، ونسيم الصيف المشبع برطوبة خفيفة، وأشعة الشمس التي ترقص كجزيئات الضوء على حقول هادئة.
تذكّرت البيوت المتجمعة في الحقل، وسقفًا أحمر قرمزيًا يبرز بينها.
وتحت ذلك السقف، رجل.
كان الرجل يترك نافذته مفتوحة دائمًا.
كانت بيليتا تستلقي على سطحٍ مقابل، تتأمله.
عندما كان النسيم يعبر النافذة، كان شعره الأشقر يتمايل بلطف، وعيناه الزرقاوان تلمعان كالسماء الصيفية.
رجلٌ يشبه ألوان الصيف، اسمه كيسيس.
في ذلك اليوم، كما اعتادت، نزلت بيليتا لتتأمله.
منذ رأته أول مرة، صار ذلك روتينها.
عندما دخلت الفناء، اندفع رجلٌ من البيت، مارًا بها وهو يصيح:
“يا إلهي! ذلك الرسّام بالتأكيد شيطان!”
تذكّرت أن كيسيس أخبرها ذات مرة أنه لورد المنطقة.
ألقت نظرة عابرة على الرجل، ثم واصلت خطواتها.
“جئت.”
عندما عبرت العتبة، أصغى كيسيس بانتباه.
استدار نحو الحضور الذي شعر به عند الباب.
“عدتِ؟”
“أجل.”
“كنتُ أنظر إلى اللوحة للتو.”
دخلت بيليتا، وكالعادة، كان حامل اللوحة أول ما لفت انتباهها.
تأملت صورتها الناقصة على القماش.
حتى في حالتها غير المكتملة، كانت موهبة كيسيس واضحة.
“هل سترسم الآن؟”
“إن لم يزعجكِ ذلك.”
كان كيسيس رسّامًا، عبقريًا بموهبة استثنائية.
كل من رأى أعماله أغدق عليه المديح، قائلين إنها موهبة إلهية، أو مهارة شيطانية تجعل الكون يبكي.
وافقت بيليتا على ذلك.
فهي نفسها، الشيطانة، سُحرت بلوحاته وطارت إليه.
*همم.*
استقرت بيليتا على السرير بعفوية، راميةً شعرها المتموج كالأمواج، مستلقية على جانبها، داعمة ذقنها بيدها.
“ما الذي سترسمه اليوم؟”
“شعركِ.”
“لكنك رسمت شعري من قبل.”
“جمالكِ كثير جدًا، لا يكفي مرة واحدة. يحتاج إلى لمسات متكررة.”
“يا لك من متحدّث! ترسم لوحات أخرى بسهولة، لكن…”
“أنا جاد جدًا، بيليتا.”
أحبّت بيليتا لوحات كيسيس، لمسات فرشاته التي تعكس رؤيته، وجهه المتأمل، وأصابعه المتصلبة من حمل الفرشاة.
بل أحبته هو.
جاء كيسيس حاملاً علب الألوان.
ألقت عليه نظرة ماكرة لتأخره في العمل، ثم تفحّصت العلب.
قال إنه بعد إكمال اللوحة، يجب طلاؤها بمادة حافظة.
لكن اليوم، كالعادة، لم يكن هناك طلاء في العلب.
*متى سأرى ذلك الطلاء؟*
تاقت بيليتا لأن يكمل كيسيس اللوحة، لترى نفسها بعينيه، ولترى ابتسامته الصافية وهو ينظر إليها.
أمسك كيسيس الفرشاة ولوحة الألوان بحركة رشيقة.
علمت بيليتا أنه سيبدأ الرسم فورًا، لكنها، كعادتها، أرادت أن تمازحه قليلاً.
نظرت إليه بعينين غامضتين، تذكّرت إحدى قواعد الشياطين: إنهم لا يطاردون سوى المتعة، الإثارة، العنف، واللهو. الملل؟ لا. الهدوء؟ ليس تمامًا. الاستقرار؟
*هل تمزح؟*
كان ذلك غريزتها كشيطانة.
لم تكن التأملات المملة تشغل حياتها.
فكّرت كيف تغيظه.
انفرجت شفتاها الحمراوان في ابتسامة ساحرة.
قبل أن تبدأ الفرشاة بالحركة، قالت:
“هل تعلم، كيسيس؟”
“ماذا؟”
“أصابعك مثيرة جدًا.”
“أصابعي؟”
أغمض كيسيس عينيه، متفاجئًا.
بدا حائرًا، لا يعرف كيف يرد.
أنزلت بيليتا نظرتها ببطء إلى يديه.
ساد الصمت.
تحرّكت يد كيسيس قليلاً.
ابتلع كيسيس ريقه.
كانت عيناه تتبعان شفتيها، ثم التقيا بنظرتها.
اهتزت حدقتاه.
أطرق رأسه بسرعة، واحمرّ وجهه تدريجيًا.
*يخجل، إذن.*
كان هذا هو الحال مؤخرًا. *يعرف ما أعنيه، لكنه لا يزال يتفاعل كعذراء بعد كل ما مررنا به.*
ضحكت بيليتا ونهضت.
تردّد كيسيس، ثم قال:
“إذا تحرّكتِ…”
“ماذا إذا تحرّكت؟”
“…”
“الرسّامون الآخرون يطلبون من عارضاتهم عدم الحركة.”
“رسّامون آخرون؟”
رفع كيسيس رأسه فجأة.
وجهه المحمّر لم يعد يحمل تلك الهيئة الخجولة.
ضحكت بيليتا، تحب هذه الصدق في ردود أفعاله.
“لا حاجة لذلك، أنت ترسم جيدًا على أي حال.”
“هل قلتِ رسّامون آخرون؟”
تجاهلت سؤاله، مبتسمة، وجلست على فخذه.
*ما جدوى تظاهرك بالبراءة؟ لستَ نبيلًا على أي حال.*
مدّت يدها كالعنكبوت، متسلّقة كتفه.
كان كيسيس على وشك السؤال عن الرسّام الآخر، لكنه أغلق فمه.
“لمَ لا تتكلم؟”
دسّت أصابعها بين أصابعه والفرشاة، مخدشةً بلطف جلده الناعم.
ثم أزاحت الفرشاة، وتشابكت أصابعهما.
سقطت الفرشاة على الأرض الحجرية.
تبسّمت بيليتا بانتصار.
كانت تعلم أن صبره، كشيطانة بلا هموم، لن يدوم أكثر من ثانية.
*************
فتحت بيليتا عينيها.
دفء كيسيس، نظرته، صوته… كل شيء كان لا يزال حيًا.
كلما مدّت يدها، شعرت بملمس بشرته.
كلما تنفّست، ملأ رائحته رئتيها.
لم تنسَ تلك الليلة، ولا الليالي التي تلتها.
كيسيس كان فريسة مثالية لشيطانة مثلها.
كانت متأكدة: لا رجلٌ ببراءته يمكن أن يكون ممتعًا لإفساده، ولا رجلٌ بسرعة تعلّمه يمكن أن يرضي شيطانة.
*لذلك أحببته.*
كلما فكّرت في كيسيس، فاضت مشاعر لم تعتقد أنها تملكها، تتشابك كقنبلة على وشك الانفجار، تحولها إلى كائنٍ محدود العمر.
تخيّلت مراتٍ عديدة قلبها، كالقنبلة المشتعلة، ينفجر يومًا ما.
صبرت وصبرت حتى تنفجر، تاركةً إياها صامتة إلى الأبد.
وفي كل مرة، كان كيسيس يقف أمامها، راكعًا، مقتربًا من وجهها.
مدّت بيليتا يدها.
“كيسيس…”
لمست وجهه، المحبوب، المرغوب، المكروه، الغامض.
كان يبتسم كما في آخر مرة رأته، بدموعٍ غزيرة تسيل من عينيه.
لكن كل هذا وهم.
لا وجود له.
مجرّد هلوسة.
أسقطت يدها بضعف.
اختفى طيف كيسيس كسراب.
لم يبقَ سوى الظلام اللامتناهي.
كانت محبوسة فيه، حيث لا صوت، لا ضوء، لا زمن.
فراغٌ أبدي.
كانت بيليتا، التي أحبّت كيسيس، محتجزة بيديه منذ زمن طويل.
شدّت قبضتها ثم أفلتها.
في الظلام حيث لا شيء يُرى، كانت متأكدة من شيء واحد: زوالها اقترب.
طاقتها الشيطانية، مصمّمة وجودها، كادت تنفد.
الشياطين كائنات تعيش على الخوف أو تحقيق أمنيات البشر، تكتسب قوتها من عقود معهم.
كلما حقّقت أمنيات أكثر، ازدادت قوتها وشهرتها.
لكن بدون البشر، لا حياة لها.
ضحكت بيليتا بسخرية، تتذكّر ماضيها المجيد.
كانت شيطانة عظيمة، حقّقت أمنيات لا تُحصى، عاشت في ذاكرة البشر
لم تكن هناك أمة لا تعرف اسم بيليتا.
“هل تصدّق تلك الإشاعات؟”
“بالطبع! كيف للورد في تلك المنطقة النائية أن يصبح غنيًا بدون ذلك الشيطان؟”
“لكن، أن تعطي روحك مقابل أمنية؟ هل هذا معقول؟”
كانت الصفقة بسيطة: أمنية مقابل روح، لا تُؤخذ إلا بعد الموت.
من سيرفض مثل هذه الصفقة؟ الفقراء والأغنياء، الرجال والنساء، الكبار والصغار، كلهم تهافتوا عليها.
“مضحك…”
لكن أتباعها اختفوا.
عضّت شفتيها.
الشياطين تستمد قوتها من ذكريات البشر.
لو بقي اسمها في ذاكرتهم، لاحتفظت بجزء من قوتها.
لكن شهرتها، التي كان يجب أن تُورّث عبر الأجيال، تلاشت.
خاصةً بعد آخر أعمالها، عندما دمّرت منطقة بأكملها قبل أن تُحتجز.
كان يجب أن يصبح اسمها أسطورة.
لكن قلّة تذكّرتها، مما يعني أن أحدًا أزالها من ذاكرة البشر بعملية غامضة، استمرت عبر أجيال.
ضحكت بسخرية.
“سيذكرك الناس إلى الأبد.”
“وأنا كذلك.”
“لكنكِ ستنسينني، كما نسيتِ رجالك السابقين.”
تردّد صوت كيسيس في ذهنها.
“تذكّريني إلى الأبد.”
كان كيسيس، الذي لم يطلب شيئًا سواها، يحثّها على قول رغبتها، لكنه لم يطلب شيئًا سوى حبها.
في النهاية، قال إنها قد تكرهه، تلعنه، أو ترغب بقتله، لكنها يجب ألا تنساه.
كان ذلك طلبه الوحيد.
ثم احتجزها.
بالتعاون مع الحاكم**راستابان** وأتباعه، سجنها في تلك اللوحة التي كان ينوي تقديمها لها.
لكن توقّعات كيسيس كانت خاطئة.
فقدت بيليتا قوتها، نسيها الجميع بفعل كيسيس وراستابان.
حتى كيسيس، الذي وعد بتذكّرها، مات مع الزمن، ولم يعد يذكرها.
كل نبوءاته كانت خاطئة، باستثناء واحدة: أن بيليتا، لعنةً عليها، لا تزال تتذكّره.
التعليقات لهذا الفصل " 4"