الفصل الثالث: لقاءٌ جديد (3)
مدّ سيلفستر يده كالمسحور، ممسكًا بإطار اللوحة.
“ما رأيك؟ أليست جميلة بما يفوق الوصف؟”
ابتسم هيربيل وهو يضع اللوحة بين يدي سيلفستر.
“من أين أتت هذه؟”
تناول سيلفستر اللوحة بسلاسة، عيناه مغرمتان بصورة المرأة فيها: شعر أسود متموج يتدفق كنهر، بشرة بيضاء كنجوم السماء، وعينان خضراوان ساحرتان.
“أحضرها صيّاد سمك. قال إنه وجدها!”
“وجدها؟ شيء مثل هذا؟”
استدار سيلفستر نحو هيربيل بنظرة نابذة للتصديق.
هزّ هيربيل كتفيه.
“قال إنها كانت مدفونة في الرمال. لا أثر للتلف فيها، فما الذي يمكنني قوله؟ من المستحيل أن يكون قد سرقها.”
عاد سيلفستر ليتأمل اللوحة.
كان فيها سحرٌ خفي، ليس فقط لجمال المرأة أو لأنها تحفة فنية نادرة، بل شيء أعمق، قوة غامضة تجذبه بلا تفسير.
شعور كهذا لم يختبره من قبل.
“لا يهم…”
تمتم سيلفستر وهو يمرر أصابعه بحذر على الإطار.
“أعطني إياها. سآخذها.”
“حسنًا… كنت أنوي إعطاءها لك، لكن، هل أنت متأكد؟”
سأل هيربيل بحذر، وهو يخمش رأسه.
ردّ سيلفستر، عيناه ملتصقتان باللوحة:
“لا بأس. إن كانت متروكة حقًا، فلن يأتي أحد ليبحث عنها.”
*حتى لو جاؤوا يطالبون بها، ما الذي يمكن أن يدمّر حياتي أكثر مما هي عليه؟*
ضحك سيلفستر في سره وهو يضع اللوحة تحت ذراعه.
“شكرًا، يا عم.”
لوّح لهيربيل وغادر متوجّهًا إلى منزله.
خطواته، وهو يسير، كانت تحمل حيوية غريبة.
الطريق من المكتبة إلى بيته كان شبه خالٍ من البيوت، فكان سيلفستر يتوقّف بين الحين والآخر ليتأمل اللوحة.
رغم أن توقّفه كان ينبغي أن يؤخّر وصوله، إلا أنه وصل إلى مدخل بيته في الوقت المعتاد، إذ كانت خطواته أسرع من المعتاد، تقوده بحماس خفي.
لكن عندما اقترب، رأى عربة مألوفة تقف أمام بيته.
“ها…”
تمتم بنبرة متعبة.
تجعّد جبينه وهو يحدّق في العربة: هيكل أسود بإطار فضي، وشعار رمادي، وحصان بني داكن مربوط أمامها.
كان **البارون غايل**.
“جاء قبل خمسة أيام فقط. ألا يملّ؟”
شدّ سيلفستر قبضته على اللوحة، وهو يطحن أسنانه.
ألقى نظرة جانبية على درب ضيق، لا يمكن للعربة أن تمرّ منه.
غايل يفضّل دائمًا المدخل الرئيسي، فإذا سلك سيلفستر هذا الدرب، لن يُكتشف.
“مزعج…”
هزّ شعره بنفاد صبر واتجه نحو الدرب المخفي بين الأعشاب.
كونه رسّامًا، كان غايل يزوره عادةً فيجد سيلفستر في البيت يرسم.
لكن هذه المرة، كان محظوظًا لأنه كان خارجًا.
ألقى نظرة على اللوحة.
“لا يمكنني أن أدعها تُتلف.”
كان يعرف جيدًا طباع غايل القذرة.
ذلك الرجل الذي اقتحم بيته مرات عديدة، ركل أغراضه، حطّمها، ودمّر كل شيء.
غايل كان السبب في جعل حياة سيلفستر، السيئة أصلًا، أكثر بؤسًا.
سلك سيلفستر الدرب الضيق إلى مخزن قديم.
فتح القفل بمفتاحه الدائم، ووضع اللوحة بحرص داخله.
“هكذا…”
حياته، التي نشأ فيها يتيمًا، كانت مليئة بالنحس.
تجوّل من مكان إلى آخر دون منزل حقيقي، حتى اشترى هذا البيت الرخيص عندما اقترب من سن الرشد.
لكن حتى هذا البيت وقع تحت وطأة أرستقراطي مثل غايل، الذي دمّر طلباته الفنية، جعل الناس يتجنّبون بيته، وحطّم معيشته.
ابتسم سيلفستر بسخرية وهو يقفل باب المخزن، متوجّهًا إلى المدخل الخلفي لبيته.
تحمّل غايل طويلاً لأنه أرستقراطي، خوفًا من أن يؤذي نفسه أو يجلب المشاكل لأهل القرية.
لكنه سمع أن غايل نفسه منبوذ بين الأرستقراطيين بسبب طباعه السيئة.
لم يعد هناك ما يخشاه.
فتح الباب بعنف.
“كيف تجرؤ على جعل أرستقراطي ينتظر؟”
طار كرسي نحو رأسه، فأصابه وتدحرج على الأرض بصوت مدوٍّ.
أطرق سيلفستر رأسه.
“هه…”
تسرّبت ضحكة خافتة منه.
“ما هذا؟ أتضحك الآن؟”
*نعم، ارمِ ما شئت. لم يعد هناك ما يُحطّم بعد أن دمّرتَ كل شيء.*
ضحك سيلفستر بصوت أعلى، كأنه يستمتع.
رأسه المطرق، شعره الأسود المتهدّل، وكتفاه ترتجفان من الضحك.
اندفع غايل نحوه، غاضبًا، رافعًا يده السمينة.
“أيها…”
رفع سيلفستر رأسه فجأة.
“ماذا في الضحك، أيها الوغد؟”
ابتسم ببرود لم يظهره من قبل، ثم انقضّ على غايل.
تهاوى جسد غايل المتخم بالطعام والخمر بصوت مدوٍّ.
“آه!”
“سيدي!”
اندفع خادم غايل وسائقه لإنقاذه، لكن سيلفستر لم يبالِ.
هوت قبضته على وجه غايل.
“آه!”
تمسّك غايل بخدّه المرتجف.
“أيها الوغد!”
حاول الخادم الإمساك بذراع سيلفستر، لكنه دفعهم بعنف.
“اتركني.”
“توقّف حالًا!”
انضم السائق، لكنهما لم يستطيعا إيقافه.
دفع سيلفستر الرجلين بعيدًا.
“لطالما وقفتَ تشاهد، أيها الوغد!”
انحنت زاوية فمه بسخرية، والدم يسيل من جبهته حيث أصابه الكرسي.
“والآن تطلب مني التوقف؟”
التصق شعره بجبينه الملطّخ بالدم، وتساقط العرق الممزوج بالدم من أنفه.
لكنه استمر في الابتسام.
“أنت مجنون!”
اندفع السائق نحوه مجددًا، وبمساعدة الخادم، جذب ذراعي سيلفستر بقوة.
استغل غايل الفرصة، ولكم سيلفستر على خده.
تمايل رأس سيلفستر.
لهث، ثم توقّف جسده عن الحركة.
عمّ الصمت فجأة.
تباطأت حركات الخدم. “هل أغمي عليه؟” تمتموا وهم يرفعون سيلفستر بحذر.
لكن عيني غايل التقطتا وجه سيلفستر.
“آه!”
زحف إلى الخلف مذعورًا.
بين الظلال الملطّخة بالدم، كانت عينان صفراوان تلمعان نحوه بنظرة مخيفة.
فجأة، هاجم سيلفستر بعنف، دافعًا الخدم بعيدًا، وانقضّ على غايل مرة أخرى، لكمه، ثم عضّ ذراعه بقوة.
“آه!”
“مجنون!”
ارتجف غايل، على وشك الإغماء.
شدّ سيلفستر أسنانه أكثر على ذراعه.
“أرجوك، أوقفوه!”
صرخ غايل، يتوسّل الخدم لفصله عنه.
حاول الخدم جذبه، لكن دون جدوى، فبدأوا بركله.
“أيها الوحش!”
“اترك سيدنا!”
ركل السائق جنب سيلفستر بقوة.
سقط سيلفستر، ممسكًا ببطنه، يسعل.
تقطّر الدم الممزوج باللعاب من فمه.
زحف ببطء، محاولًا رفع جسده.
التقى بعيني غايل.
ابتسم، فمه ملطّخ بالدماء.
تفحّص غايل ذراعه، مرتعبًا.
“آه!”
كان هناك جرح عميق في ذراعه.
“تفو.”
بصق سيلفستر قطعة من اللحم، ثم قال بهدوء:
“كدتُ أبتلعها من شدة الركل…”
انحنى بأدب ساخر.
ذُهل الخدم والسائق، وهرعوا لدعم غايل.
“بسرعة، إلى العربة!”
“ذراعي… ذراعي!”
كافح الخدم لحمل غايل الثقيل.
اقترب سيلفستر، ممسكًا بجنبه.
“هل أساعدكم؟”
“ابتعد!”
بدأ الخدم بسحب غايل نحو الباب.
رافقهم سيلفستر حتى المدخل، متكئًا على الباب، يراقبهم وهم يصعدون العربة.
“حقراء…”
نظر إليه الخادم قبل إغلاق باب العربة.
ردّ سيلفستر بابتسامة وتحية أرستقراطية ساخرة.
سمع شتيمة من بعيد: “مجنون!”
*من المجنون هنا؟*
ضرب السائق بالسوط، وانطلقت العربة.
عندما اختفت، مسح سيلفستر الدم من فمه، وتوجّه إلى الحنفية لغسل يديه، ثم إلى المخزن.
تذكّر النشوة التي شعر بها عندما رأى اللوحة أول مرة.
كان يشعر أن هذا الإحساس سيطهر روحه من قذارة هذا اليوم.
فتح باب المخزن، وأخرج اللوحة.
“مثل هذه يجب أن تُلمس بيد نظيفة…”
مدّ يده المجروحة، التي نزفت من الضربات، ليداعب اللوحة.
رفعها نحو الشمس.
شعور بالامتلاء غمر قلبه.
ابتسم بلطف وهو يحمل اللوحة إلى البيت.
وضعها على الطاولة، وحدّق فيها طويلاً.
كانت تهدئ روحه، وتثير فيه شوقًا غامضًا.
“لا أعرف لمَ أشعر بهذا السعادة.”
فرك عنقه، محرجًا من خفقان قلبه كفتى مراهق.
بدت اللوحة حيّة، كأنها رُسمت للتو.
فحصها بعناية: ألوان ليست من عصره، أسلوب قديم، ومواد بدائية.
رسام قادر على خلق مثل هذه التحفة بمواد بسيطة؟
مستحيل.
اللوحة، رغم مظهرها الجديد، بدت كأنها من زمن بعيد.
“لا أعرف كيف حُفظت، لكن الرسّام لم يكن من هذا العصر.”
حتى هذه التحفة بدت ناقصة بشكل ما.
نهض سيلفستر.
“حسنًا، قرّرت.”
أعدّ حامل اللوحة، وجمع ألوانه.
سحب الكرسي الذي رمى به غايل.
“سأرسمكِ.”
رفع يده، التي تبدو أقرب إلى مقاتل منها إلى رسّام، وبدأ بخلط الألوان على لوحته.
التعليقات لهذا الفصل " 3"