“لقد انتظرنا ما فيه الكفاية.”
قال ذلك مونيپان، ممثِّل رابطة المالية الإمبراطورية (IFA)، وهو يُصلحُ منظاره الأحاديَّ بلمسةٍ حادّة. كان الوكيل المالي المكلّف بالإشراف على شؤون دوقية آل ألتارد.
* اسمٌ مُصطَلَحٌ من الكورية (“머니판”)، يَدمِجُ بينَ كلمتَي “مال” (money) و”ساحة” أو “مَشهد” (pan، بمعنى الميدان أو المجال).
ويُشيرُ إلى شخصٍ مُنغمسٍ في عالمِ المالِ والأعمالِ أو إلى عمليةٍ تَرتبطُ بالمال.
ولسوء حظ آل ألتارد، فقد انقضت سنوات طويلة لم يسدّدوا فيها رسوم خدمات الرابطة، وحين جُمعت المتأخّرات مع الفوائد المركّبة بلغ الدين المستحق لرابطة المالية الإمبراطورية وحدها أكثر من عشرة ملايين راد.
“كحّ… كحّ.”
سعل الشيخ الجالس أمام مونيپان سعالًا مؤلمًا وارتجَّ جسده النحيل مع كل نفس، وجهه شاحب كالرقوق، شفاهه تكاد تخلو من اللون، شعره تفتّت إلى خيوط بيضاء واهية، يبدو كأن المرض يبتلعه شيئًا فشيئًا.
ذلك الرجل—وود ليفراي—هو الدوق الوصي على بيت ألتارد، يتولّى إدارة الدوقية نيابةً عن الشابة إيف ألتارد.
أأحد نبلاء بيت ليفراي يَقبل بمحض إرادته هذا العبء؟ ولماذا؟
نقر مونيپان بلسانه ساخطًا. فقد شاع أنّ وود ليفراي أحرق جميع جسوره في مجتمع النبلاء حتى لم يعد أحد يطيق التعامل معه. موقف يثير الشفقة ربما، لكن الشفقة لا تسدّد الديون. جاء مونيپان ليقبض المال لا ليقدّم صدقات.
“إن لم تُسدَّد الرسوم المتأخّرة، فسنضطر إلى سحب خدماتنا المالية.”
ومع أنه سمّاها “خدمات”، إلا أنه كان يقصد في الواقع تسجيل سرعة غرق العائلة في الديون. كانت مالية آل ألتارد قد صارت شبكة متشابكة من الحبر الأحمر؛ إدارة تلك الحسابات لم تعد تعني سوى حساب مدى تفاقمها كل شهر.
آخر ما تحقّق منه مونيپان أنّ العائلة تراكم ما بين خمسة إلى ستة ملايين راد إضافيّ من الديون كل شهر. وعلى هذه الوتيرة فالإفلاس التام مسألة وقت لا أكثر.
واليوم بالذات، أكّد أن خمسة ملايين أخرى قد أُضيفت خلال أسبوعين فقط. كانت هذه القشّة التي قصمت ظهر البعير. هذا البيت هالك لا محالة ما لم تتنزّل عليهم معجزة من الآلهة.
لهذا السبب جاء مونيپان بنفسه ليطالب بالدفع ولو اضطر إلى جرّ الدوق الوصي من فراشه.
“…سأجد طريقةً. أليس في وسعنا التفاهم على أمر ما؟”
قال وود ليفراي بصوت مبحوح وهو يُطأطئ رأسه.
ارتعشت شفة مونيپان لحظةً. ها هو رجل قضى حياته كلها في النُّبل يتوسّل إلى من كان بالأمس مجرّد عامّيّ. لقد قضى مونيپان مسيرته كلها تحت نظرات الاستعلاء من أمثال هذا الدوق فوجد في داخله شيئًا من شماتة صغيرة.
“أهم.”
تنحنح مونيپان مُبعدًا الفكرة عنه. كان يعلم أنّ وود ليفراي لا يملك بدائل أخرى؛ الرجل يحتضر مرضًا ولا تكاد قواه تكفيه للجلوس إلى مكتب فضلًا عن إدارة أملاك منهارة.
لقد كان هذا الرجل نفسه يومًا ما يقاتل كتفًا إلى كتف مع يوليوس ألتارد البطل الذي حوّل مجرى معركة غزو الوحوش. كانوا يلقّبونه “وود المُدان”.
أن تراه اليوم على هذه الحال—يصعب التصديق أنّه ذاته. حتى مونيپان الذي نشأ على سماع قصص تلك المعركة الأسطورية شعر بوخزة أسى.
لكن الأسى لا يوازن الدفاتر. والواقع كعادته لا يرحم.
“يؤسفني أن ذلك غير ممكن. الجميع في الإمبراطورية يعلم أنكم لا ملجأ لكم بعد الآن. المصارف ودور النبلاء جميعًا قطعت علاقاتها بكم. ما لم تقدّموا ضمانًا عينيًّا أو كفالة موثَّقة فلا شيء آخر في وسعنا فعله.”
كانت كلماته فظّة تكاد تلامس الإهانة، لكن وود ليفراي لم ينطق بحرف إذ لم يكن في كلام مونيپان خطأ.
“…..”
وبينما يراه ساكتًا، تمتم مونيپان لنفسه وعيناه تحملان بريقًا من الشفقة: يا لسوء حظه.
“الموعد النهائي لسداد الرسوم المتأخّرة هو—”
نهض مونيپان من مقعده وهو يُلقي الإنذار، حين—
دوّي هائل!
اندفع الباب وانفتح بعنف.
“سأدفعها الآن.”
صوت فتي دوّى في الغرفة تلاه شعاع نور غريب اجتاح المكان.
“…سأجد طريقةً. أليس في وسعنا التفاهم على أمر ما؟”
“يؤسفني أن ذلك غير ممكن. الجميع في الإمبراطورية يعلم أنكم لا ملجأ لكم بعد الآن. المصارف ودور النبلاء جميعًا قطعت علاقاتها بكم. ما لم تقدّموا ضمانًا عينيًّا أو كفالة موثَّقة فلا شيء آخر في وسعنا فعله.”
كان الصوت ينساب من غرفة الاستقبال أكثر خشونة ووهنًا مما أذكره لكنني عرفته فورًا.
عمّي.
تذكّرت كم تعبت في طفولتي لأُذيب ذلك الجمود الجليدي في ملامحه. كيف يبدو الآن؟ ألقيت نظرة من شق ضيّق في الباب.
ها هو. عمّي صار أشد شيخوخة ووهنًا مما في ذاكرتي. بدا منهكًا، وجهه شاحب سقيم، قوامه قد انكمش وتضاءل.
تجمّد الدم في عروقي.
عمّي الذي أعرفه لم يكن هكذا.
كان دومًا حادًّا لامعًا في كل ما يفعل، ساخرًا يرى الأطفال مجرّد إزعاج طفيف. النبيل الكامل الذي لا يُطأطئ رأسه لأحد.
كان في ذاكرتي جبلاً مهيبًا لا يتزعزع.
لكن الآن…
يبدو كأنّه سينهار في أية لحظة بالكاد يتماسك تحت وطأة حياة تتداعى.
لماذا… لماذا صار هكذا؟
أهذا هو المقاتل الذي كان يجوب ساحة المعارك يومًا بعزيمة وكبرياء لا يُضاهى؟
خفق قلبي حتى شعرت أنّه سقط إلى معدتي.
“…آنسة صغيرة؟”
انتفضت إلى وعيي. صحيح. ليس هذا وقت الانفعال. عليّ أن أتمالك نفسي.
“الموعد النهائي لسداد الرسوم المتأخّرة هو—”
دفعت الباب بعنف.
“سأدفعها الآن.”
التفت الاثنان إليّ. الوكيل أطلق شخيرًا ساخرًا، وعمّي أطلق تنهيدة طويلة متعبة.
حبست غصّة في حلقي. لم أعد إيفلين ألتارد؛ أنا الآن إيف ألتارد.
لا تتصرّفي كالكبار.
لا يمكن أن أبدو فجأة شخصًا آخر خصوصًا أمام الغرباء.
“ما الذي تفعلينه هنا؟”
كان صوت عمّي حادًّا. الرجل الذي أذابته حِيَلي الطفولية إلى قطعة حلوى ليّنة قد ولّى.
“جـ… جدّي!”
اندفعت نحوه وتمسّكت بساقه بلا تردّد.
المرة الأولى هي الأصعب وبعدها يسهل الأمر. كان عمّي يتظاهر بأنه لا يحب ذلك التعلّق لكني كنت أعلم أنه يحبّه في السر. المشكلة الوحيدة أني قمت بهذه الحركة أول مرة وأنا في الخامسة من عمري.
حسنًا، هذا الجسد الهزيل يكفي ليوهم بأنّي في الخامسة. لا بأس.
كما توقعت، بدا عمّي مذهولًا تمامًا. ولست ألومه؛ فإيف ألتارد كانت قد عانت سنوات من التنمّر والتلاعب على يد الخدم فصارت تخشى الناس ولم تُقِم علاقة طيبة مع عمها بطبيعة الحال.
“لقد وجدت شيئًا مدهشًا للغاية!”
ما زلت متعلّقة بساقه ألوّح بذراعي الصغيرتين حماسًا مستحضرة ذات الطاقة التي أذابت جليده يومًا.
“ألبوس!”
بندائي دخل ألبوس متعثّرًا إلى الغرفة ووضع حجرًا كبيرًا على الطاولة.
طَخّ.
“…تمهّل، أهذا… ألماسة خام؟”
كان وكيل الرابطة أول من أدرك قيمتها. اتسعت عيناه فورًا وأخرج مُكبّرًا من جيب سترته وشرع يفحص الجوهرة.
منظار أحادي… شعر برتقالي… عضو في رابطة المالية الإمبراطورية…
الوصف مألوف. بحثت في ذاكرتي أقلب صفحات الرواية في ذهني.
“…مونيپان؟”
عند سماع اسمه التفت الرجل إليّ مذعورًا.
“أتعرِفين اسمي يا آنسة الصغيرة؟”
رمش في دهشة.
يا للعجب. هو فعلًا نفسه. في <أرفيديس> الجزء الثاني أصبح اليد اليمنى للبطل كاليكس.
والآن تذكّرت، أليس هو من القسم الشمالي للرابطة؟
لقد كانت للرواية أوصاف ملونة عنه: بخيل مهووس بالمال، رجل يقدّم الذهب على الولاء، لا يعرف الرحمة في سبيل الربح.
صحيح أنه انتهى بولاء للبطل لكن ذلك لأن البطل… بطل.
أما أنا فلا سبيل لذلك.
ومع ذلك، إن عُرض عليه الثمن المناسب سيعمل حتى العظم كالكلب. رجل يؤمن بولاء قائم على المعاملة لا على العاطفة.
رائع. هو بالضبط الشخص الذي أستطيع استغلاله.
ما زلت متمسّكة بساق عمّي ابتسمت ابتسامة واسعة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات